الإســلام بيـــن تـــسـامــح الأسـلاف وتشـــدّد الأخلاف
إنّ الإنسان المسلم لا يملك إلاّ أن يصاب بالألم، وربّما بالإحباط، عندما يتابع أطوار هذا الجدل المحتدم الذي لا يكاد أواره الحارق يخبو ولو قليلا، حول بعض المسائل التي تتعلّق بوضع النساء المسلمات في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية التي يعشن فيها، لا سيما من حيث حقّهن في الظهور في الحياة العامة، ومن حيث الطريقة التي يمكن أن يظهرن بها فيها. وربّما تضاعف شعوره بالألم، وتعمّق إحساسه بالإحباط كلّما لاحظ ما تثيره بعض المجتمعات الغربية التي تعيش فيها جاليات مسلمة حول هذه المسائل من جلبة صاخبة...
وأنا، هنا، لا أريد أن أتناول هذا الموضوع بالبحث، أو أن أقاربه من زاوية فقهية أو دينية، ولا كذلك من زاوية سياسية أو إيديولوجية، فذلك ليس من شأني، وإنّما أريد، فحسب، أن أضع إصبعي على المفارقة الغريبة التي تجعل بعض مسلمي اليوم، وهم يعيشون في مطلع القرن الحادي والعشرين، يتعاطون مع المرأة وشؤونها بأسلوب، لعلّ أقلّ ما يمكن أن يقال فيه إنّه لا يرقى إلى الأسلوب الذي كان أسلافهم من المسلمين الأوائل يتعاطون به معها. وإنّ من يقرأ كتاب «الأغاني»، ويطّلع على بعض ما يحفل به من قصص العديد من النساء المسلمات اللائي كن حاضرات فاعلات في مجتمعاتهن، لا بدّ أن يلمس تلك المفارقة الغريبة لمس اليد، وأن يدرك كم هو شاسع البون الذي يفصل بين ما كان يزين الأسلاف من تسامح، وبين ما بات يشين الأخلاف من تشدّد... ولنضرب مثلا على ما نقول، فإنّنا نقتطف الخبرين التاليين ممّا جاء في كتاب «الأغاني» من أخبار السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يقول الخبر الأوّل: «أخبرني الطوسي عن الزبير عن عمّه مصعب قال: كانت سكينة عفيفة سلمة (أي مسالمة) برزة من النساء (أي تبرز للقوم يجلسون اليها، ويتحدّثون معها، موثوق برأيها وعفافها) تجالس الأجلّة من قريش، وتجتمع إليها الشعراء، وكانت ظريفة مزّاحة».
أمّا الخبر الثاني، وهو في نظري، من أطرف أخبار السيدة سكينة فيقول: «أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثني محمد بن موسى عن أبي أيوب المدني عن مصعب قال: كانت سكينة أحسن الناس شعرا، فكانت تصفّف جمتها (الجمة من شعر الرأس ما سقط على المنكبين) تصفيفا لم ير أحسن منه، حتّى عرف ذلك، فكانت تلك الجمة تسمّى السكينية. وكان عمر بن عبد العزيز إذا وجد رجلا قد صفّف جمته السكينية جلده وحلقه.» (الأغاني، المجلد السادس عشر، ص 151، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت لبنان).
إنّ هذين الخبرين يدلاّن دلالة واضحة على أنّ المرأة، في العصور الإسلامية الأولى، كانت تتبوّأ موقعا متقدّما في المجتمع، وكانت تتوفّر على قدر كبير من حرية الفعل والفكر، يتيح لها التحرّك بسهولة ويسر، ويمكنها من حضور مؤثّر في الحياة العامة.
وغنيّ عن البيان أنّ الخبر الثاني، يشير فيما يشير إليه، إلى أنّ المرأة، في تلك العصور، كانت تعتني بزينتها أيّما اعتناء، وكانت تتفنّن في التجمّل إلى حدّ «الإبداع»، فالسيدة سكينة اخترعت لنفسها تصفيفة شعر سمّيت باسمها وصار الرجال، قبل النساء، يقلّدونها، وهو ما حدا بالخليفة عمر بن عبد العزيز المعروف بورعه وبعدله إلى معاقبة من يفعل ذلك...
ألا ليت مسلمي اليوم الذين كثيرا ما يتكئون، في إصدار فتاواهم، على ما يسمّونه باقتفاء أثر أسلافهم، يحسنون انتقاء الأسلاف الذين يقتفون أثرهم حتّى لا يزيدوا صورة الإسلام والمسلمين في عيون العالم قتامة.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق