محمد ابراهيم الحصايري: تونس وجامعة الدول العربية (3 من 4)
في أفق القمة العربية الثلاثين التي يُنْتَظَرُ أن تحتضنها بلادنا في أواخر شهر مارس 2019، تنشر "ليدرز العربية"، في أربع حلقات، هذه الدراسة التي أعدّها السفير السابق ومستشار هيئة التحرير محمد إبراهيم الحصايري، والتي تتضمّن قراءة في تاريخ وخصائص العلاقة التي ربطت بين تونس وبين جامعة الدول العربية منذ إنشائها، وذلك من باب الذكرى علّ الذكرى تنفع في الإعداد للقمة القادمة، باستلهام النهج المبدئي والعقلاني والجريء الذي كان يميز، باستمرار، المقاربة التونسية للقضايا العربية، وللعمل العربي المشترك.
وفيما يلي الحلقة الثالثة من هذه الدراسة وهي تتطرق الى مواقف تونس من محاولات اصلاح الجامعة ومن كبريات القضايا العربية:
تونس ومحاولات إصلاح الجامعة
إن جامعة الدول العربية كما تم إنشاؤها سنة 1945 لم تشكّل سوى إطار للتنسيق السياسي والتعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الدول العربية، وذلك على أساس من احترام سيادة هذه الدول واستقلالها والمساواة بينها.
والمتأمّل في حصاد الثلاثة والسبعين عاما من عمر الجامعة، لا بدّ أن يلاحظ أن هذه المنظمة لم تحقّق أهدافها بل إنها لا سيما في الفترة الأخيرة حادت عن البعض منها، خاصة فيما يتعلق بحل النزاعات الداخلية بطرق سلمية وتحقيق الوحدة العربية واستتباب الأمن والاستقرار في البلاد العربية.
ومثلما أسلفنا الحديث عن ذلك في الفقرات السابقة من هذه الورقة، فإننا نلاحظ أن تونس قامت منذ لحظة انضمامها إلى الجامعة ثم في العديد من المناسبات بالتنبيه الى عوامل ضعفها والى اقتراح ما تراه مناسبا من حلول لمعالجة هذه العوامل.
ولقد تمكنت تونس خلال الفترة التي احتضنت فيها الجامعة وحين كان أمينها العام تونسيا من إدخال العديد من الإصلاحات على الجامعة وعلى أسلوب عملها.
وفي هذا الإطار يقول السفير صلاح الدين عبد الله في حديث لملحق الفكر السياسي لجريدة "الحرية" الصادر بتاريخ 29 نوفمبر 2008: "ولقد عرفت الجامعة العربية خلال الثمانينات في تونس عهدا زاهرا تميّز بعقلنة العمل العربي المشترك، والمساهمة النشيطة في وضع حد للحرب الداخلية في لبنان، والسعي لإيقاف الحرب العراقية الإيرانية، والحضور المميز على المستوى الدولي"(1).
وعلى إثر الهزّة التي عرفتها المنطقة العربية بعد غزو العراق للكويت وما كان لذلك من تداعيات على مجمل العلاقات العربية ثنائيا وجماعيا قامت تونس ببذل جهودها من أجل تطوير آليات العمل العربي المشترك، وقد نجحت في إقرار مقترحها المتعلق بانتظام القمم العربية ودوريتها وكانت قمة عمان 2001 فاتحة لذلك، كما عملت على اقرار اصلاحات عديدة أخرى على المستويات الثلاثة التالية:
- فيما يتعلق بالجانب الأمني تواصل تونس مساهمتها في تعزيز أسباب الامن في البلدان العربية من خلال احتضانها لمجلس وزراء الداخلية العرب.
ومن ناحية أخرى ومن أجل الدفع نحو تسوية الخلافات بين الدول العربية بالطرق السلمية وفي النطاق العربي، دعت تونس إلى إيجاد آلية لتسوية المنازعات، من خلال إحداث محكمة عدل عربية، كما دعت إلى إيجاد آلية للأمن الجماعي، من خلال إحداث مجلس أمن عربي.
- فيما يتعلق بالجانب السياسي دعت إلى تطوير النظم السياسية العربية من خلال الاخذ بالإصلاحات السياسية القائمة على أساس ضمان حقوق الإنسان وحرياته الاساسية والأخذ بالتعددية السياسية والانتخابات الرئاسية والبرلمانية...
- وأما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، وبالرغم من أن الجامعة العربية قد تكون حققت بعض النجاح النسبي في دفع التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول العربية، فإن هذا النجاح يبقى دون المـأمــــــول، ولايرقى إلى ما تطمح إليه الشعوب العربية، ومن هذا المنطلق ما فتئت تونس تدعو باستمرار إلى إيجاد آليات للتكامل والاندماج الاقتصادي العربي، وتبذل ما بوسعها من جهود من أجل إرساء هذه الآليات وتفعيلها.
وفي هذا الإطار بالتحديد تندرج منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي قررت القمة العربية التي انعقدت بالقاهرة في جوان 1996 إحداثها على ان يتم تجسيمها في فترة عشر سنوات ابتداء من 1/1/1998.
وقد انخرطت تونس التي ترى في هذه المنطقة مكسبا يمكن أن ينعكس ايجابيا على تنمية التجارة البينية العربية، وسوقا إضافية للمنتجات والبضائع التونسية، في تحقيق هذه المنطقة.
وقد حرصت تونس على أن تجعل من القمة التي احتضنتها سنة 2004 منعطفا مهما في تجسيم تطلعات الامة العربية إلى الاصلاح والتحديث، وفي دفع مسيرة العمل العربي المشترك بالحث على مراجعة أسلوب عمل الجامعة التي ترهّلت وتضخّمت أجهزتها وتعددت لجانها بحيث أصبحت لا تحصى ولا تعد، وهو ما فاقم من قصورها الذي هو أصلا قصور هيكلي ووظيفي، عن تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها.
وما من شك أن تونس مدعوة إلى مواصلة هذا الدور للإسهام في تغيير واصلاح منظومة العمل العربي المشترك بما يساعد على حل المشكلات السياسية والتنموية والأمنية العربية... وبما يمكن الجامعة من تحسين أدائها حتى يكون متماشيا مع حاجات المنطقة العربية الآنية والمستقبلية، لا سيما في ظل التردّي الذي تشهده البيئة السياسية والامنية العربية في الوقت الراهن.
تونس وكبريات القضايا العربية
يقول الشاذلي القليبي في حوار مع العدد الأول من ملحق الفكر السياسي لجريدة "الحرية" الصادر بتاريخ 7 ديسمبر 2007 إن "تونس صغيرة الحجم لكن كلمتها مسموعة عند الاشقاء ولدى الاصدقاء وذلك لاعتبارات عديدة من أهمها ان تونس لا تنتمي الى ايديولوجيا سياسية ولا تعتبر غير الواقع ولا تأتمر بغير الحرص على خير مجتمعها والأولوية عندها حسن العلاقة مع الجوار.
من تلك الاعتبارات أيضا ان تونس تصدع بالحق عند الاقتضاء لكن باللغة الودية التي لا تحرج ولا تفسد للود قضية.
ومنها أيضا وربما بالأخص ان تونس لا تبخل بمساعيها الحميدة لتقريب الشقة بين الفرقاء من أجل توطيد الوئام وإرجاع المياه الى مجاريها عند الحاجة"(2).
ومن منطلق هذه المميزات والخصائص، حرصت تونس باستمرار على بذل ما بوسعها من جهود من أجل الاسهام في تعزيز أسباب الوئام بين الدول العربية وفي مناصرة قضايا الحق والعدل العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، كما لم تتأخر، عند الاقتضاء، عن بذل جهودها من أجل تنقية الاجواء العربية وتدعيم التعاون والتضامن العربيين.
ولقد أحاطت تونس القضية الفلسطينية بالرعاية الدائمة وبالدعم المتواصل في المحافل الاقليمية والدولية حرصا منها على تمكين الشعب الفلسطيني من استعادة حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة على أرضه، وعلى تعزيز مقومات السلم والأمن والاستقرار في المنطقة.
وقد تجلى ذلك بكل وضوح في إقدام الرئيس الحبيب بورقيبة على الإصداع برأيه في كيفية العمل بطريقة عقلانية على حل القضية الفلسطينية في خطاب أريحا الشهير...
كما تجلى في دور الوساطة الذي اضطلعت به تونس عندما وقعت احداث أيلول الاسود المأساوية، إذ أوكلت قمة القاهرة التي دعا الرئيس جمال عبد الناصر الى عقدها لمواجهة تلك الاحداث للباهي الأدغم مهمة الاشراف على ايقاف الاقتتال والحفاظ على المقاومة الفلسطينية.
وكما هو معلوم بذل الباهي الادغم جهودا مضنية في سبيل ذلك معرّضا نفسه والوفد التونسي لأخطار أكيدة قبل ان ينجح في تهريب الزعيم ياسر عرفات وفي توضيح العلاقة بين السلطات الاردنية والمقاومة الفلسطينية.
وحينما قامت اسرائيل باجتياح بيروت وتقرر خروج منظمة التحرير الفلسطينية منها، كانت تونس الملجأ للفلسطينيين، وقد تعرضت بسبب ذلك إلى عدة اعتداءات اسرائيلية غير أن ذلك لم يَفُتَّ في عضدها وواصلت احتضان منظمة التحرير الفلسطينية حتى تمكنت من العودة إلى الأراضي الفلسطينية بموجب اتفاق غزة اريحا أولا.
وبالموازاة مع ذلك كلها لعبت تونس دورا هاما في دفع مسار السلام في الشرق الاوسط...
ودون الإطناب في الحديث عن مساهمات تونس المتعددة على امتداد العقود الستة الماضية في المساعي الرامية الى حل القضايا العربية المختلفة فإننا نكتفي هنا بالإشارة إلى دورين اثنين اضطلعت بهما في القضيتين التاليتين:
1 - قضية الحصار على ليبيا: حيث عملت تونس بكل ما في وسعها من أجل تخفيف أعباء هذا الحصار الذي فرض على الشعب الليبي بسبب قضية لوكربي، كما كانت لها مساهمة ناجعة في معالجة هذه القضية وفي رفع الحصار عن ليبيا.
2 - الوضع في العراق: حيث عملت تونس، في نطاق الالتزام بالشرعية الدولية، على مواكبة مختلف أطوار هذا الوضع، فكثفت محاولاتها الرامية في البداية الى تجنب التصادم وتصدّع الصف العربي، ثم في مرحلة ثانية الى رفع الحظر عن العراق وإنهاء معاناة الشعب العراقي، ثم وفي مرحلة ثالثة إلى استعادة العراق سيادته كاملة والحفاظ على وحدته الترابية وإعادة اعماره.
محمد ابراهيم الحصايري
(1)انظر ملحق الفكر السياسي لجريدة الحرية بتاريخ 29/11/2008 ص 8/9
(2)انظر ملحق الفكر السياسي لجريدة الحرية الصادر بتاريخ 7 ديسمبر 2007، ص 7/8
- اكتب تعليق
- تعليق