الـصّـحـافة الأدبيّــة في تـونــس: حـاضنـة الأدب الــتّــونســيّ الحـــديــث
قد يستغرب المرء عندما يقرأ في صحيفة «الرّائد التّونسيّ» سنة 1861 قصيدة مطوّلة عصماء لمحمود قابادو في الإشادة بقانون عهد الأمان، ولكنّ استغرابه يزول عندما يُلاحظ أنّ الأدب يحتلّ مكانة بارزة في جلّ الصّحف التّونسيّة الصّادرة في تلك الفترة مثل «الحاضرة» لعلي بوشوشة (1888) و«الزّهرة» لعبد الرّحمان الصّنادلي (1889) و«الصّواب» لمحمّد الجعايبي (1904). وقد أفضى ذلك إلى ظهور صحافة أدبيّة مختصّة أو إلى إنشاء أركان أدبيّة هامّة في الصّحف والمجلّات التّونسيّة حتّى جاز لنا القول بأنّ تاريخ الصّحافة الأدبيّة في تونس هو تاريخ الأدب التّونسيّ الحديث.
ويعود هذا الاقتران إلى أسباب موضوعيّة عديدة:
- فقد ظهرت أهمّ مُنجزات الأدب التّونسيّ شعرا ونثرا في الصّحافة الأدبيّة قبل أن تصدر في كتب مستقلّة، وذاع صيت أعلام الأدب واشتهرت أعمالهم لدى القرّاء من خـلال أعمدة الصّحـف قبـــل أن تُنشر لدى دور الطّبــاعة والنّشــر، ذاك شـــأن الشّابّي والمسعــدي والدّوعاجي ومحمود بيرم وخزندار وخريّف وغيرهم كثير.
- عكست الصّحافة الأدبيّة ما كان يجري في السّاحة الثّقافيّة والفكريّة من تنافـــس خلّاق بين الأدبــاء والكتّاب وبين المدارس والمذاهب وما كان يدور من معارك وخصومات أدبيّة بين التّيّارات المتباينة والاتّجاهات المختلفة: بين الإحيائيّين والرّومنطيقيّين وبين الكلاسيكيّين والمجدّدين وبين أنصار الاكتفاء بالتّراث وأنصار الانفتاح على الأدب الغربيّ فكشفت حيويّة الحركة الأدبيّة والفكريّة في تونس أوائل القرن الماضي.
- كانت الصّحافة الأدبيّة ترجمانا بليغا عن يقظة الحياة الجمعيّاتيّة وحركيّتها، إذ أنّ كثيرا من الصّحف والمجلّات الأدبيّة هي في الحقيقة لسان بعض الجمعيّات مثل قدماء الصّادقيّة والجامعة الزّيتونيّة وغيرهما.
وسنحاول فيما يلي أن نستعرض أبرز عناوين الصّحافة الأدبيّة في تونس في النّصف الأوّل من القرن العشرين.
مجلّة السّعادة العظمى
مجلّة نصف شهـــريّة أسّســـها محمّد الخضــر بن الحســين (1876 – 1958) وصدر عددها الأوّل في أفريل 1904، وقد أرادها على شاكلة مجلّة المنار لمحمّد رشيد رضا حاضنة للنّهج الإصلاحيّ وداعية إلى تجديد الفكر الدّينيّ. وهي تضمّ فضلا عن باب العلوم الدّينيّة ركنا أدبيّا برع في تزويده بالمقالات النّقديّة عبد العزيز المسعودي، كما نشر صاحب المجلّة بهذا الرّكن عددا من قصائده. ولعلّ الطّريف أنّ بعض الأسئلة الفقهيّة ترد على المجلّة شعرا فتجيئ الأجوبة التّي يُعدّها الشّيخ محمّد المكّي بن عزّوز شعرا كذلك. لم يظهـر من هذه المجلّة سوى 21 عددا فقد صدر آخر أعدادها في جانفي 1905.
مجلّة تونس
اشترك في تأسيسها صالح بن محمود الذّي كان مُحرّرا بجريدة الزّهرة وموظّفا بمصالح الأشغال العامّة وصحفي لبناني مقيم بتونس يُدعى غابريال أنكيري، واتّخذت مقرّا لها بسراية البكّوش بباب البحر، ولكن لم يصدر من هذه المجلّة نصف الشّهريّة سوى ثلاثة أعداد بين 15 أكتوبر و16 نوفمبر 1906.
ولكنّ الجدير بالذّكر أنّ هذه المجلّة هي أولى المجلّات النّاطقة باللّسانين العربيّ والفرنسيّ، ولئن كان القسم الفرنسيّ أقلّ حجما من القسم العربيّ فإنّه قد مكّن من ترجمة بعض النّصوص الأدبيّة الفرنسيّة إلى اللّغة العربيّة والتّعريف بالآداب الأوروبيّة. ومن كتّاب هذه المجلّة حسن حسني عبد الوهاب الذّي نشر بها قصّة حول اللّيلة الأخيرة للعرب بغرناطة ومقالا حول تاريخ صقليّة بعد الفتح الإسلاميّ.
مجلّة خير الدّين
مجلّة شهريّة أسّسها محمّد الجعايبي (1880 – 1938)، صاحب جريدة «الصّواب» (1904)، صدر من هذه المجلّة سبعة أعداد بين مارس وسبتمبر 1906. ويدلّ عنوانها على أنّها تتبنّى فكر خير الدّين التّونسيّ ونهجه الإصلاحيّ، ولذلك خُصّص العدد الأوّل للتّعريف بخير الدّين ومناقبه. ومن ميزات هذه المجلّة أنّها أوّل من بادر بإثارة قضيّة تحرير المرأة وببلورة الأفكار الأولى للحركة النّسويّة بتونس. أمّا في باب الإبداع الأدبيّ فيسجَّل لمجلّة خير الدّين نشرها لقصّة صالح السّويسي القيرواني «الهيفاء وسراج اللّيل» في العددين السّادس والسّابع.
مجلّة الثّريّا
مجلّة شهريّة أدارها وترأّس تحريرها بن عيسى بن الشّيخ أحمد (1880 – 1957) صاحب جريدتين فكاهيّتين «جحا» و«جحجوح»، ومقرّها بنهج الزّاوية البكريّة بتونس، صدر منها ثلاثة أعداد بين أفريل وجويلية 1909. كانت لهذه المجلّة نزعة إصلاحيّة واضحة، فقد اهتمّت بقضايا المرأة والتّعليم ونادت بإلغاء تعدّد الزّوجات وتنظيم أحكام الطّلاق ونزع الحجاب. وكان لها قسم أدبيّ واعد إلّا أنّ توقّفها عن الصّدور حرم عديد الأقلام من نشر أعمالها الأدبيّة لعلّ أبرزهم صالح السّويسي الذّي كانت المجلّة قد وعدت في عددها الأخير بنشر رواية مسلسلة من تأليفه.
مجلّة الآداب
مؤسّسها ومديرها عبد الرّحمان سومر، مدرّس متقاعد ألّف بعض الكتب المدرسيّة، كان مقرّها بسوق السّرايريّة، وقد صدر منها ثمانية أعداد شهريّة بين سبتمبر 1920 وأفريل 1921. ولعـــلّ ميزتهـــا الأســـاسيّة أنّهــا مـن أوائل المجلّات التّي اهتمّت بالمسرح وعلّقت على بعض الأعمال المسرحيّة واعتبرت هذا الفـــنّ مـــدرسة اجتمــاعيّة وأخلاقيّة كبرى.
المجلّة الصّادقيّة
صاحبها هو الشّاعر محمّد السّعيد الخلصي (1896 – 1962)، ومقرّها بسوق العطّارين، صــدر منها ثلاثة أعـــداد بين أفريل وجويلية 1920، وهي لسان جمعيّة قدماء الصّادقيّة. من أبرز محرّريها مصطفى صفر ومحمّد بورقيبة وسالم بوحاجب، ومن ألمع شعرائها الشّاذلي خزندار ومصطفى آغا. أمّا سعيد الخلصي فنشر على امتداد الأعداد الثّلاثة نصوصا لألكسندر ديما وفيكتور هيقو وتولّى ترجمتها إلى العربيّة.
مجلّة الفجر
أسّسها المحامي ورجل السّياسة أحمد الصّافي وأسند إدارتها إلى علي كاهية لتجاوز الصّعوبات التّي وجدها في الحصول على ترخيص من السّلط الأمنيّة الاستعماريّة باعتباره الكاتب العامّ للحزب الدّستوريّ التّونسيّ وأحد أعضاء الوفد الذّي قدّم المطالب التّونسيّة للحكومة الفرنسيّة سنة 1920.
صدر من مجلّة الفجر واحد وعشرون عددا بين أوت 1920 وجوان 1922.
اهتمّت المجلّة بقضايا اللّغة العربيّة وضرورة مواكبتها للعصر ومخترعاته الجديدة وكانت تُعيد نشر قصائد لكبار شعراء العربيّة من أمثال حافظ إبراهيم وأحمد شوقي ولأدباء من المشرق من أمثال الشّاعرين فهمي البغدادي وأحمد أفندي نسيم. ومن التّونسيّين نشرت مقالات لعثمان الكعّاك وقصائد للشّاذلي خزندار وسعيد أبي بكر ومصطفى آغا. اتّخذت المجلّة نزعة نضاليّة واضحة وانطوت على البذور الأولى لمذهب الالتزام في الأدب.
مجلّة البدر
مجلّة شهريّة أنشأها المسرحيّ المعروف محمّد الحبيب وكُلّف بإدارتها محمّد العربي المشيرقي، صدر منها أحد عشر عددا بين جويلية 1920 وجويلية 1922. وهي في الحقيقة لسان جمعيّة علميّة ثقافيّة تحمل اسم «الجامعة الزّيتونيّة» كان يترأّسها المدرّس الزّيتوني محمّد مناشو وتضمّ هيئتها المؤسّسة نخبة من رجال الثّقافة والفكر والإعلام وقتئذ من أمثال زين العابدين السّنوسي ومحيي الدّين القليبي وأحمد الدّرعي والهادي المدني وبلحسـن بن شعبان.
وقد خصّصت هذه المجلّة حيّزا هامّا للإنتاج الأدبيّ والمقالات النّقديّة لكتّاب من تونس ومن المشرق فكتب عيسى إسكندر معلوف حول مجمع اللّغة العربيّة بدمشق وأشرف حسن حسني عبد الوهاب على ركن سمّاه ديوان الأدب التّونسي استعرض فيه الأدباء التّونسيّين منذ الفتح الإسلاميّ لإفريقيّة.
وحفلت المجلّة بقصائد لمعروف الرّصافي وجميل صدقي الزّهاوي من العراق ولصالح السّويسي وسعيد أبي بكر ومحمّد صالح النّيفر الذّي كان يُمضي باسم مستعار «أبو العُلا» والهادي المدني الذّي كان يُمضي باسم «ابن رشيق» من تونس.
مجلّة العرب
بعد أن خاض الشّاب النّشيط زين العابدين السّنوسي تجارب في عــدد من الصّحف والمجلّات الأدبيّة آخرها مجلّة البدر خيّر أن يُؤسّس مجلّة جديدة أطلق عليها اسـم «العرب»، صدر منها ثمانية أعداد بين أوت 1923 ونوفمبر 1924. وقد حمّل السّنوسي في افتتاحيّة العدد الأوّل مسؤوليّة المصاعب التّي تعرّضت لها مجلّة البدر لمحمّد الحبيب الذّي استولى – على حدّ تعبيره – على المجلّة وتأخّر في إصدار أعدادها إلى أن وقعت تحت طائلة القانون الذّي يوقف كلّ نشريّة تتعطّل عن الصّدور لمدّة تتجاوز الثّلاثة أشهر.
وتميّزت مجلّة العرب بأنّها حملت بوادر تأثير مدرسة المهجر في الأدب التّونسيّ، وليس أدلّ على ذلك من احتفائها بصدور كتاب ميخائيل نُعيمة «الغربال» سنة 1923. وشهدت المجلّة دخول قلم جديد عالم الأدب هو الطّاهر الحدّاد الذّي نشر بها أولى قصائده الشّعريّة، كما وثّقت مرحلة هامّة في مسيرة الشّاذلي خزندار وهي مرحلة «السّجنيّات» تلك القصائد الفخريّة والوطنيّة التّي قالها بعد أن سُجن بسبب مناصرته للثّعالبي.
مجلّة العالم
مجلّة شهريّة أسّسها محمّد فخري وتعاقب على إدارتها كلّ من زين العابدين السّنوسي ومصطفى بن شعبان وسعيد أبي بكر، أصدرت 25 عددا بين جانفي 1930 ونوفمبر 1932. ويذكر التّاريخ أنّها نشرت محاضرة الشّابّي الشّهيرة حول الخيال الشّعريّ عند العرب، ولكنّ الطّريف أنّ محمّد الحليوي الذّي يُشاطر الشّابّي التّأثّر بالأدب الرّومنطيقي نشر مقالا في المجلّة للرّدّ على أبي القاسم ومعارضة ما جاء في محاضرته.
مجلّة العالم الأدبي
هي بلا منازع أحد أهم عناوين الصّحافة الأدبيّة في تونس خلال الثّلث الأوّل من القرن العشرين، أسّسها زين العابدين السّنوسي (1901 - 1965)، صدر منها 69 عددا في فترة اعتُبرت العصر الذّهبيّ للأدب التّونسيّ الحديث (1930 – 1936).
وحرص أصحاب المجلّة على أن يتجاوز إشعاعها الحدود المحليّة فتتمكّن من احتلال مكانة مرموقة في البلاد العربيّة مغربا ومشرقا، كما راموا إبراز التّراث المحلّي وفسح المجال رحبا أمام الأدباء التّونسيّين على سبيل التّصدّي للهيمنة الأدبيّة المشرقيّة.
ومن هذا المنطلق ستكون مجلّة العالم الأدبيّ المنبر الذّي سيُعرّف بالأدب التّونسيّ الحديث تعريفا واسعا ويُتيح له أن يشدّ اهتمام الأوساط الأدبيّة في المغرب والمشرق. فمن مجلّة العالم الأدبّي ستردّد أصداء الشّابّي والحليوي والبشروش والفاضل بن عاشور ومصطفى خريّف ومحمّد العريبي وعلي الدّوعاجي. بل إنّ المجلّة أفردت عددا كاملا للشّابّي بمناسبة وفاته ونشرت قصّة الدّوعاجي «جولة بين حانات البحر المتوسّط» مُوزّعة على ستّة أجزاء. ونظّمت الاستفتاء الشّعريّ الشّهير الذّي فاز فيه كرباكة ومحمود بورقيبة والطّاهر القصّار بالمراتب الأولى.
صحيفة الشّباب
هي صحيفة أسبوعيّة أسّسها محمود بيرم التّونسي، وصدر منها عشرون عددا بين 29 أكتوبر 1936 و12 مارس 1937. كان بيرم يُحرّر الجانب الأوفر منها وينشر بها أزجاله وأشعاره النّاقدة ومقالاته حول نجوم الغناء التّمثيل في تلك الفترة. إلّا أنّ القارئ يجد بعض المساهمات للهادي العبيدي ومساحة لا بأس بها للكاريكاتور والرّسوم السّاخرة بريشة حاتم المكّي وعمر الغرايري.
مجلّة الأفكار
مجلّة شهريّة، مؤسّسها هو حمّودة قوجة ورئيس تحريرها نور الدّين بن محمود، صدر منها أربعة أعداد فحسب بين نوفمبر 1936 وسبتمبر 1937، وكان مقرّها بسوق اللّفّة.
سارت مجلّة الأفكار على نهج العالم الأدبيّ وحاولت سدّ الفراغ الذّي تركه غيابها في السّاحة الأدبيّة فواصلت تشجيع الأدب التّونسيّ والتّعريف بأعلامه. ولعلّ أهمّ الآثار التّي تركتها هذه المجلّة هي نشر بعض رسائل الشّابّي إلى محمّد الحليوي بتعليق الحليوي نفسه عليها ، وتخصيصها عدد نوفمبر 1936 لإحياء الذّكرى الثّانية لوفاة الشّابّي فكتب بالمناسبة نور الدّين بن محمــود ومحمّــد صـــالـــح المهيــــدي ومختــار بن محمود ومحمّد الحليوي وعلي بن هادية.
المجلّة الزّيتونيّة
هي مجلّة أساتذة الزّيتونة، أسّسها الشّيخ محمّد الشّاذلي بالقاضي، وترأّس تحريرها محمّد المختار بن محمود، أمّا إدارتها فأُسندت إلى الطّاهر القصّار، صدر عددها الأوّل في سبتمبر 1936 وعددها الأخير في نوفمبر 1955.
ورغم أنّها مجلّة مختصّة في العلوم الشّرعيّة فقد كان لها رُكن أدبيّ هامّ إذ أنّ مُديرها شاعر وأديب وقد نشر بها قصائد ومقالات له حول التّجديد في الأدب، توزّع اهتمامها بالأدب بين الشّعر والمقال النّقديّ، فمن شعراء المجلّة الزّيتونيّة الشّيخ العربي الكبادي وبلحسن بن شعبان ومحمّد المقداد الورتتاني ومن نقّادها أحمد المختار الوزير والشّيخ محمّد الفاضل بن عاشور صاحب مقال فريد حول «البكاء في الشّعر العربيّ».
مجلّة المباحث
أسّسها محمّد البشروش وأدار تحريرها إلى تاريخ وفاته سنة 1944 فتولّى محمود المسعدي هذه المهمّة من بعده. وصدرت المجلّة في سلسلتين: الأولى بين جانفي ومارس 1938 (عددان) والثّانية بين أفريل 1944 وأكتوبر 1947 (43 عددا).
ولعلّ مزيّة مجلّة المباحث تكمن في أنّها ساهمت في إرساء مدرسة نقديّة جديدة أبرز أعلامها محمود المسعدي في دراساته حول أبي العتاهية وأبي العلاء المعرّي، وسار على نهجه علي البلهوان في مقال له حول المتنبّي وكذلك الشّأن بالنّسبة إلى أحمد عبد السّلام ومصطفى الفيلالي ومحجوب بن ميلاد وأحمد عبد الوهاب بكير.
أمّا مزيّتها الثّانية فهي احتضانها لأهمّ النّصوص الرّوائيّة والقصصيّة في الأدب التّونسيّ الحديث، ففيها نشر المسعدي بعض أحاديث «حدّث أبو هريرة قال...» و«مولد النّسيان» و «السّندباد والطّهارة»، ونشر الدّوعاجي قصّته الشّهيرة «نزهة رائقة» التّي ستتحوّل إلى شريط سينمائيّ.
الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق