أخبار - 2017.03.25

رسائل بورقيبة إلى محمد علي الطّاهر

رسائل بورقيبة إلى محمد علي الطّاهر

في العام 1966 وبمناسبة الذكرى العاشرة لاستقلال البلاد التونسية، نشر المناضل الفلسطيني الكبير محمد علي الطّاهر كتابا يتضمن خمسا وعشرين رسالة بخطّ الزّعيم الحبيب بورقيبة وجّهها إليه في الفترة ما بين 1945 و1957، وأتبع هذه الرسائل بمجموعة من الصور توثّق علاقة إنسانية رائعة نشأت بين الرجلين في الغربة لتتجاوز حدود الصّداقة وتتواصل عقودا، وكانت غايتُه من نشر هذه الوثائق «أن يقرأ فيها روّاد المستقبل ومحبّو الاطّلاع على سِيَر الرّجال العظام سلسلة من أخبار الزّعيم بورقيبة ولماذا وكيف نجح».

تكتسي هذه الرّسائل أهميّة تاريخيّة بالغة إذ تُمكّن من تقفّي أثر الزّعيم الحبيب بورقيبة في رحلاته الطّويلة للتّعريف بالقضيّة التونسية، لكنّنا ننتبه أيضا إلى البعد الإنساني الذي تشعّ به هذه الوثائق القديمة سواء أكانت الرّسائل بخطّ يد صاحبها أم صور الزّيارات المتبادلة بين الرجلين في مناسبات مختلفة، وسنقتصر في هذا الحيّز على إضاءة جوانب من شخصيّة الزعيم كما يبوح بها متن هذه الرّسائل وهامشها الذي تضمّن تعليقات من المرسل إليه على غاية من الأهميّة، وهما نصّان متجاوران يمكن الوثوق في عفويّتهما ونأيهما عن الاشتغال بتوجيه دفّة التّاريخ كما حدث في بعض الكتابات اللاّحقة.

كيف عثر أبو الحسن على بورقيبة في القاهرة

قدم محمد علي الطّاهر المعروف بلقب أبي الحسن من يافا موطن أجداده على متن مركب للصيّادين في العام 1912، وعمره لم يتجاوز السّادسة عشرة ليبدأ هناك نشاطه الوطني بعد انتزاع الاحتلال البريطاني فلسطين من العثمانيين أثناء الحرب الكبرى، بمقالات كان ينشرها في الشّام يتحدث فيها من قبل وعد بلفور عن نيّة الحكومة البريطانية تسليم فلسطين إلى الحركة الصّهيونية العالمية لإنشاء وطن قوميّ لليهود على أرضها. كان أبو الحسن رجلا عصاميّا لكنه أصبح بنشاطه السياسي والصحفي شخصيّة مرموقة في مصر والعالم العربي، فقد أنشأ في العام 1924 جريدة «الشّورى» لتكون «لسان الحركة الوطنيّة العربيّة في المشرق والمغرب»، واهتمّ بالقضيّة التونسية التي كان يمثّلها الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وعندما انشقّ بورقيبة ورفاقه سنة 1934 عن الحزب الحرّ الدّستوري تصدّى أبو الحسن في جريدته للمنشقّين وزعمائهم، لكنّه سرعان ما انتبه إلى ما تنطوي عليه رؤية هذا الفريق من أساليب جديدة في إدارة القضيّة وبدأ يتعاطف معهم.

وفي العام 1945 علم أبو الحسن بوجود بورقيبة في القاهرة وقد جاءها بعد رحلة برّية مضنية، فأخذ يبحث عنه في كل مكان حتى عثر عليه في «لوكندة مصر» بميدان العتبة وهو فندق شديد التّواضع ولم يكن أحدهما يعرف الآخر بشكل مباشر من قبل، كان بورقيبة جالسا في بهو الاستقبال عندما قدم الرجل ليسأل صاحب الفندق إن كان الزعيم التونسي بورقيبة هنا، فاستخفّ به صاحب الفندق لأن الزّعماء لا ينزلون في فنادق كهذا، لكنّ بورقيبة انتبه إلى الرجل الذي يبحث عنه وهبّ لاستقباله قائلا: لا شكّ أنك محمّد علي الطّاهر! ومنذ تلك اللّحظة نشأت بين الرجلين علاقة لم تنته الاّ برحيل أبي الحسن في العام 1974 بعد أن كرّمته تونس المستقلّة في مناسبات مختلفة واستقبلته استقبالا يليق بالزّعماء وأطلقت اسمه على أحد شوارع منطقة مونفليري في قلب العاصمة.

كان محمد علي الطّاهر منبهرا بتجربة بورقيبة في النضال الوطني لا سيّما بعد اعتلائه سدّة الحكم وشروعه في وضع اللّبنات الأولى للدّولة الوطنية، ولا غرابة حينئذ أن نجده في مقدّمة الكتاب التي وردت في شكل رسالة منه إلى الشّاعر العراقي جلال الحنفي المقيم في الصّين يضع الزّعيم في مصافّ عظماء التّاريخ أبراهام لنكولن وعبد الرحمن الدّاخل ومصطفى كمال أتاتورك والمهاتما غاندي قائلا: «لكنّ شخصيّة بورقيبة لا تزال في اعتقادي أغرب وأعجب ولا سيّما أنّي رأيت هذا الرجل العجيب بعيني وعرفته وعاشرته شخصيّا بنفسي ورافقته في دار غربتـه المضنية الأليمـــة بالقـــاهرة ابتــــداء من سنة 1945 حين جاءها في تلك الأيّام لا يعرف فيها أحدا ولا يعرفه أحدٌ ولا يملك شيئا، حتى الملابس التي كـان يرتــديها ســـاعةَ أنِ التقيت به فقد اعترف لي أنه ما كان يملكها».

بورقيبة والانطلاق من القاهرة نحو العالم

في أحد المقاهي أسرّ أبو الحسن إلى جليسه يومها بأنّه لن ينجح في مقابلة أحدٍ من الشّخصيات المؤثّرة لو ظلّ في «لوكندة مصر»، وتقاسم معه ما كان يحمله من جنيهات ثمّ سرعــان ما نقله إلى فندق «كونتيننتال سافوي» بميدان الأوبرا أحدِ فنادق الدرجة الممتازة بعد أن اتفق مع صاحبه على تمكين الزّعيم التونسي من غرفة غير مكلفة حتى يتسنّى له أن يستقبل في الصالون بكل وجاهة ضيوفه من أصحاب الشأن والسّلطة في مصر، ثمّ سرعان ما ذاع صيت بورقيبة في القاهرة بعد أن كتب عنه أبو الحسن في جريدته واستضافه في «دار الشورى» للتعريف به، الأمر الذي استغلّه الزّعيم بذكاء شديد وتمكّن في وقت وجيز من تكوين شبكة معقّدة وواسعة من العلاقات المؤثّرة. كانت سنة 1945 سنة مفصلية في تاريخ حركات التّحرّر الوطني حيث تأسّست جامعة الدّول العربية، ووضعت الحرب العالميّة الثانية أوزارها وتأسّست منظّمة الأمم المتّحدة، في نهاية هذا العام يسافر الزّعيم الحبيب بورقيبة إلى البقاع المقدّسة لأداء فريضة الحجّ، وتطلعنا رسالتاه إلى صديقه محمد علي الطّاهر من مكّة وجدّة على خطّته للقيام بجولة عربية بمساعدة الديبلوماسي تحسين بك العسكري سفير العراق في مصر وستبدأ هذه الرحلة من مصر بعد التحقّق من قدوم «الإخوان اللاّجئين بمدريد»، ويذكر محمّد علي الطّاهر في هامش الرّسالة أنّ بورقيبة يقصد بهذه العبارة المنجي سليم والرشيد ادريس والحبيب ثامر والطيب سليم ويوسف الرويسي وغيرهم ممن أفلتوا من السّجون إثر نهاية الحرب وتشرّدوا في أوروبا، فقد قدِموا إلى القاهرة بجوازات سفر عراقيّة وفّرها السّفير تحسين بك العسكري استجابة لطلب بورقيبة، ونوّه أبو الحسن إلى أنّ أحد أبناء تحسين بك العسكري صار ضابطا في الجيش العراقي ولحقه بطش من حكومة عبد الكريم قاسم سنة 1958 ففرّ لاجئا إلى لبنان، وما أن علم بورقيبة بذلك حتى أبرق لسفير تونس ببيروت بأمر رئاسي للقيام بكل ما يلزم إكراما له ووفاء لوالده، وهو ذات الأمر الذي فعله مع فاضل الجمالي رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي الذي أنهى حياته مكرّما في تونس في ضيافة رئاسة الجمهورية.

كما تكشف لنا الرّسائل عن شدّة تعلّق بورقيبة بالمفكّر اللبناني شكيب أرسلان الملقّب بأمير البيان إذ يصف في رسالة من جينيف في العام 1946 ظروف لقائه به في مقرّ إقامته وما دار بينهما من حديث، وينوّه محمد علي الطاهر في متن الرسالة نقلا عن أحد معارفه إلى أن شكيب أرسلان قد خاطب سفير إيطاليا بسويسرا أثناء الحرب العظمى الثانية بقوله: «أنا لا أستطيع أن أنشر نداء للمغاربة بشمال إفريقيا بتأييد دولتي المحور لأنني لست زعيما للمغاربة، كما أنه لا يجوز أن أطعنهم في ظهورهم بمثل هذا البيان في حين أن زعماء تونس يقاسون هم وزعيمهم الحبيب بورقيبة عذاب السّجون عند فرنسا في قلعة سان نيقولا(..) وبما أن فرنسا الآن خاضعة للمحور فيحسن إرغامها على الإفراج عن هؤلاء الزعماء ومفاوضتهم على ما يهمّهم ويهمّكم من أمور». وهــذا ما أفضى إلى الإفراج عن التّونسيين ونقلهم إلى روما معزّزين، لكن بورقيبة لم يقل كلمة واحدة تؤيّد دول المحور ولم يفِ بعهده لهم عندما وصل إلى تونس، ولذلك كان سفره إلى أمريكا عن طريق جينيف لمقابلة الأمير شكيب أرسلان وشكره.

أبو الحسن، الشاهد على الإخوة الأعداء

رسائل بورقيبة إلى صديقه محمد علي الطاهر بين سنتي 1950-1951 وهي الأوفر عددا (12) تلقي الضّوء على مرحلة مهمّة من تاريخ الحركة الوطنية، حيث نرصد بدايات الخلاف بين لجنة تحرير المغرب العربي في القاهرة والإدارة المركزية للحزب في تونس وكيف كان بورقيبة يتابع ما يحدث أثناء تنقّلـــه مــن باكستان إلى أندونيسيا والهند ثمّ السّويد وكندا والولايات المتّحدة الأمريكيّة فروما وباريس قبل العودة إلى تونس للمشاركة في الثّــورة المسلّحـة، ففـــي رســـالة من باريس سنــة 1950 يعتــبـــر أن «تـــدخّل الأميـــر عبد القادر في مشكلة المغرب العربي كان نتيجة تعنّت الأستاذ يوسف الرّويسي واستهتاره بقرارات حزبه الذي ساهم في تشييده» كما  أنه يرى أنّ «المسؤول الأصلي عن هذا التّصدع الذي آل إلى شجار عنيف أوجب تدخّل البوليس المصري هو السيد حسين التريكي الذي أراد فرض إرادته على الحزب ووضعه أمام الأمر المقضي»،

ويستنكر في رسالة من لندن سنة 1951 ما قامت به الجماعة حين نبّهت إلى أنّ «المساعدات لا تصل إلى الزّعماء وإنما تُبعثر ذاتَ اليمين وذاتَ الشّمال» وهو ما رأى فيه بورقيبة تنبيها للاستخبارات الفرنسية إلى العمل الذي يقوم به في سبيل القضيّة التّونسية، لكنّه يؤكّد في رسالة من طبرقة سنة 1952 أنّه قد تلقّى مع اندلاع شرارة الثّورة برقية من يوسف الرويسي فيها تضامن وإكبار لجهوده وأخرى من السيد حسين التريكي، فأرسل خطابا مطوّلا إلى الأستاذ علي البلهوان يناشده فيه أن ينسى الماضي وأن يتقبل انضمام كل الاخوان الذين كانوا انشقّوا على صفوف الأمة وأن لا يمانع في توحيد الصفوف وجبر الخواطر «عملا بسنة النّبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا نصره اللّه على الكافرين وتمّ له فتح مكّة المكرّمة».

لم يكن محمد علي الطّاهر شخصا عاديّا في حياة الزعيم الحبيب بورقيبة بل تشير هذه الرسائل إلى نوع من الصداقة الاستثنائية التي جمعتهما على امتداد ثلاثة عقود، رغم أنّهما لم يلتقيا بعد لقائهما الأول في 1945 الا في أربع مناسبات، فقد حرص بورقيبة حال تقلّده رئاسة الحكومة بعد الاستقلال على دعوة صديقه أبي الحسن إلى تونس، وجدّد ذلك سنة 1958 عندما تولى رئاسة الجمهورية ثم دعاه لحضور احتفالات الجلاء في 1963، ثم وكان آخر لقاء بين الرجلين عندما تنقّل بورقيبة في موكب رسمي إلى بيت أبي الحسن ببيروت أثناء زيارته لبنان سنة 1975 التي استقرّ بها بعد أن غادر القاهرة إثر قيام ثورة الضباط الأحرار، وفي كلّ هذه المناسبات كان إعجاب أبي الحسن بصديقه يتعزّز لما لمسه فيه من عزم على مواصلة الكفاح من أجل تحرير البلاد من ربقة التخلّف والجهل فقد رسم له بإيجاز في رسالة من تونس تعود إلى سنة 1956 رؤيته المستقبلية قائلا: «وقد عزمنا على متابعة الكفاح بنفس الحماس والاندفاع لتشييد دولة عصرية تسير بهذا الشعب على طريق النهوض الشامل في جميع الميادين، فنرفع المستـوى الحيوي ونركّز الصّناعة والفلاحة والتّجارة على أسس سليمة لازدهار الاقتصاد العام، ونحقّق العدالة الاجتماعية والحرّية للأفراد والجماعات».

عـامـر‭ ‬بوعـــزّة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.