أخبار - 2017.02.23

احميده النيفر: نبــض‭ ‬الحياة‭ ‬و"نزهـة المشتـاق"

احميده النيفر: نبــض‭ ‬الحياة‭ ‬و"نزهـة المشتـاق"

1 - يذكر المستشرق«كراتشكوفسكي إغناطيوس» ( تـ 1951)، أحد مؤسسي مدرسة الاستشراق الروسي في كتابه «تاريخ الأدب الجغرافي العربي»في حديثه عن كتاب «نزهة المشتاق» للرحالة والجغرافي العربي الشريف الإدريسي (تـ 556 هـ/ 1166م) أنه «أفضل رسالة في الجغرافيا وصلتنا عن العصور الوسطى سواء من الشرق أو الغرب، وعلى هذا الحكم يقف الآن إجماع آراء المستعربين ومؤرخي الجغرافيا على السواء».

ألّف الإدريسي كتابه «نزهة المشتـــاق في اختـــراق الآفـــاق» المعـــروف بـ«كتاب روجر» استجابةً لطلب «روجر الثاني» ( تـ 1154م) ملك صقلية بعد سقوط حكم المسلمين في الجزيرة. ضمّن الإدريسي كتابه ما عرفه الأقدمون من معلومات سليمة مضيفا مكتسباته هو وما رآه ورصده في رحلاته واختباراته عن المدن الرئيسية في العالم وعن اتجاهات الأنهار والبحيرات والمرتفعات إضافة إلى معلومات خاصة بحدود الدول وخرائط مميزة أكسبت الكتاب صبغة موسوعية لجغرافية العالم في القرن الثاني عشر. لذلك صار الكتاب  مرجعاً لعلماء أوروبا مدة زادت على 300 سنة وأداةً هامة في سائر كشوف عصر النهضة الأوروبية.

كانت هذه إحدى خلاصات نبض الحياة الحضارية للمسلمين قبل أن تنكفئ شعلتها ويخمد توقها للمعرفة والترحل للتعارف.

2 - هل نستغرب بعد هذا إن أطلقت مدرسة الجغرافية بجامعة كلارك بشمال أمريكا اسم الإدريسي ( Idrisi) على أحد برامجها الحديثة المتداولة تسويقياً عالمياً في مجال نظم المعلومات الجغرافية مشيرة في أدلة البرامج أن هذا اعتراف منها بجميل هذا العالِم وتثمين لأهمية الرحلة والاكتشاف والتواصل.

يتأكد هذا المعنى لما بين الرحلة والتمدّن والمعرفة من تقاطع حافز للإنسان على الدهشة، الدهشة أمام المألوف الذي يغدو أمام المفكّر والفيلسوف كما هو شأن المترحّل موضوعَ حيرةٍ و تساؤل. لذلك فقد نُسب إلى أرسطو قوله: «إن الدهشة هي التي دفعت إلى التفلسف» يدعمه في ذلك رأي شوبنهاور (Schopenhauer) في أن دهشة الفيلسوف تنزع عما يُعتبر عاديا من الأمور حُلّـة البداهة لتتحوّل بذلك إلى قضية إشكالية تستدعي فهما جديدا مختلفا.

كذلك شأن الرحلة، فيها يكتشف الإنسان بحقّ أنه «أكثر الموجودات دهشة». إنه يقف، عند خروجه من عالمه الصغير الذي اعتاده، متسائلا نتيجة ما يواجهه من الظواهر وأنماط الحياة المألوفة عند غيره لكنها تكون بالنسبة إليه لغزا محيّرا. من مغادرته للمعهودية التي اعتادها يتبين الرحالة أن الدهشة تتطلب درجة عالية من العقل لأنها تضعه أمام معطيات جديدة لا يعرف كيف يصنّفها أو يتعاطى معها. من ثم تأتي الحاجة الأكيدة للمراجعة العميقة نتيجة ما تعنيه تلك المستجدّات من تحدّ لمعارفه وما تواضع عليه واقعُه.

3 - لهذا فلا يُستغرب من حضارة ذات توجّه كونيٍّ غالبٍ كالحضارة العربية الإسلامية أن يكون لها هذا الشغف بشدّ الرحال لما تعنيه الرحلة من حرص على معرفة الآخر المختلف وما تفيده تلك المعرفة من استكشاف ومراجعة وتوسيع للأفق. من ثمّ كانت ظاهرة الرحالة العرب والمسلمين لافتة للنظر لأنها امتدت من القديم إلى الحديث وصوب اتجاهات وعوالم متباينة ونائية.

لقد زار يحيى الغزال (القرن 3 هـ - 9 م) بلاد النورمان و تنقّل بعده الطرطوشي القرطبي (4 هـ - 10م) بين بلدان شرق أوروبا وألمانيا وبلاد صقالبة الغرب كما التقى بالبابا يوحنّا الثاني عشر. في ذات القرن اتّجه ابن فضلان من المشرق إلى بلغاريا وروسيا بعده كان الشريف الإدريسي المغربي (6 هـ - 12م) يزور سواحل فرنسا وأنكلترا مع إقامة في صقلية في ضيافة ملكها روجرمع ابن بطوطة (8 هـ - 14م) كانت الرحلة إلى الهند والصين وبلاد التتار وأواسط إفريقيا.

في الفترة الحديثة تعزّزت الرحـلات مع التيجـاني (12هـ - 18مثم الطهطاوي والأفغاني وخير الدين والسنوسي مؤكدة- في سياق مختلف- تلك النزعة العريقة القائمة على قيمة التعارف من أجل التحفز الحضاري المواجه لما يعتري المجتمعات الإنسانية من أعراض الفتور والانغلاق.

4 - في هذا لا ينبغي أن نذهل عن أمرين أساسيين: أوّلهما أن هذه النزعة لمعرفة المختلف المنطلقة من العالم العربي الإسلامي خاصة في الفترة الحديثة لا يمكن أن تُدرس بمعزل عن ظاهرة الاستشراق المناظرة لها والمختلفة عنها في الطبيعة والغايات. فإذا كان المستشرقون قد جابوا بلاد الشرق وتعلّموا لغاته وتعرّفوا على تراثه فحققوه ونشروه إنما كانوا يفعلون ذلك من موقع القوة والحرص على التحكم في خارطة العالم ومصادر العلم. كان عموم الخطاب الاستشراقي قائما على مركزية ثقافية تقدّم للغرب صورة عن الشرق تلائم مطامعه التوسعية ونزوعه لامتلاك العالم في واقعه المعيش وفي تاريخه وحضارته.

أما الباعث للرحالة العرب والمسلمين في اهتمامهم بالآخر فلم يكن إيديولوجيَّ الطبيعة ولا توسعيَّ الغايات.كان الحرص على الرحلة إلى العالم والغرب الحديث خاصة استكشافيا لا تنميط فيه للآخر بل هو بحث عمراني عن عوامل النهوض والحيوية. بذلك جاز القول إن الرحالة العرب والمسلمين كانوا مسكونين بالشغف الحضاري والحرص على الاستزادة من العلم وتمثل تجارب الآخرين. إنه تحويل الدهشة إلى وعي أوسعَ يحقق مزيدا من المتعة والارتقاء.

الأمر الثاني الذي لا ينبغي أن نغفل عنه أن ارتياد الآفاق لم يقتصر على الخارج بل كان داخليا أيضا. رحلة ابن جبير الأندلسي (6 هـ - 12م) قادته إلى المشرق العربي مستفيدا منها ومسجّلا معلومات وأخبارا تعبّر عن قوة انتباهية في تقييم ما يجري في مراكز العالم العربي الإسلامي وأطرافه. وراء الطريف والغريب الذي تتيحه الرحلات الداخلية التي تفيد الباحث في مجالات الاجتماع والحضارة تبرز قيمة أعمقُ فيما يتحقّق من وعي بالذات يفتح باب المراجعات النقدية للداخل الثقافي الخاص.

5 - أفضل مثال يمكن تقديمه عن هذه الخاصية الثانية لأدب الرحلة في الحضارة العربية الإسلامية نستقيه من كتاب محمد بن فتوح الحميدي ( تـ 488 هـ- 1095م )، « جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس». فيه نقف على شهادة رحالة مغاربي عند وصوله من ديار المشرق يروي فيها لجمع من علماء القيروان ما عاينه في بغداد من أحوال مجالس العلم. أجاب سائلَه عن حضوره مجالس أهل الكلام؟ فقال : بلى، حضرتهم مرتين، ثم تركتُ مجالسهم ولم أعد إليها. فقيل له: ولِمَ؟ قال : أما أول مجلس حضرته فرأيته مجلسا قد جمع الفرق كلها: المسلمين من أهل السنة والبدعة، والكفار من المجوس، والدهرية، والزنادقة، واليهود، والنصارى، وسائر أجناس الكفر. ولكل فرقة رئيس يتكلم على مذهبه، ويجادل عنه. فإذا جاء رئيس من أي فرقة كان، قامت الجماعة إليه قياما على أقدامهم حتى يجلس، فيجلسون بجلوسه. فإذا غصَّ المجلس بأهله، ورأوا أنه لم يبق لهم أحد ينتظرونه، قال قائل من الكفار: قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتج علينا المسلمون بكتابهم، ولا بقول نبيّهم، فإنّا لا نصدق بذلك ولا نقرّ به، وإنما نتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النظر والقياس، فيقولون : نعم، لك ذلك. قال: فلما سمعتُ ذلك لم أعد إلى ذلك المجلس، ثم قيل لي : ثَـمّ مجلس آخر للكلام، فذهبت إليه، فوجدتهم مثل سيرة أصحابهم سواء، فقطعت مجالس أهل الكلام، فلم أعد إليها. قال أبو زيد القيرواني: ورضي المسلمون بهذا من الفعل والقول؟ قال الرحالة: هذا الذي شاهدته منهم. فجعل أبو زيد يتعجّب ويقول: ذهب العلماء، وذهبت حرمة الإسلام وحقوقه، كيف يبيح المسلمون المناظرة بين المسلمين والكفار؟ إنما يدعى من كان على بدعة إلى الرجوع إلى السنة والجماعة، فإن رجع قُبل منه، وإن أبى ضُربت عنقه. أما الكفار فإنما يدعون إلى الإسلام، فإن قبلوا كفّ عنهم، وإن أبوا وبذلوا الجزية في موضع يجوز قبولها كف عنهم، وقُبِل منهم؛ وأما أن يناظروا على أن لا يُحتجّ عليهم بكتابنا، ولا بنبيّنا، فهذا لا يجوز، فـ «إنّا لله وإنا إليه راجعون».

6 - هذه شهادة دالّة على أكثر من معنى لكن المؤكد فيها أن الرحلات إلى الداخل تعدّ مكاشفات مدهشة يتوقف عندها كل عقل حصيف وحسّ وقّاد لما يجده فيها من نبض الحياة الذي لا يتوقّف في أي مجتمع حيّ. من هنا يمكن القول إن الأسفار إلى الخارج أو إلى الداخل هي طريق لفهم جديد للعالم وللذات. إنها، حسب الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، الأسفار التي تحقّق الإِسْفارَ لأنها طريق موصلة إلى المعرفة المتجاوزة لظواهر الأشياء..

احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.