تفعيل الحوار الوطني من أجل خطة إنقاذ اقتصادي
كل المؤشرات الاقتصادية تقريبا في "الأحمر"في نهاية 2016 وبداية 2017 على مستوى التنمية والميزانية والتوازنات الخارجية, ومن ضمنها تراجع نسبة الاستثمارات الخارجية بحوالي 9,5 بالمائة وبلوغ عجز ميزانية الدولة لسنة 2017 ما يزيد عن 5 مليار دينار وصعود نسبة الدين الخارجي إلى 60 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي فيما بلغ عجز الميزان التجاري أكثر من 12 مليار دينار يرجع نصفها إلى الارتفاع المفرط في الواردات من ثلاث دول ( الصين وتركيا وروسيا ), مؤشرات تؤكد أن سنة 2016 كانت فعلا سنة صعبة اقتصاديا على الصعيدين الداخلي والخارجي, ولكنها تنبئ بأوضاع قد تكون أصعب في سنة 2017 على مستوى الميزانية والحسابات الخارجية من جراء تأثيرات الظرف الدوليونظرا لتضخم التزامات الدولة وشح الموارد الذاتية.
إحتسابا لمثل هكذا أوضاع بادرت حكومة الوحدة الوطنية في إطار برنامجها الاقتصادي بإصدار قانون الاستثمار وعقد مؤتمر تونس 2020 لتشجيع المستثمرين وأصحاب الأعمال على الاستثمار في تونس وكانت النتائج إيجابية على مستوى التعهدات والوعود في انتظار التجسيد , كما مررت بعض الإصلاحات والسياسات ضمن قانون المالية للسنة الجارية وهي تنتظر التجسيم , وهي تسعى لسن قانون "الطوارئ الاقتصادية" للمساعدة على دفع التنمية خلال السنوات القادمة, بينما شرعت لجان مجلس نواب الشعب في مناقشة مشروع المخطط الخماسي بعد أكثر من سنة تأخير وفي مناخ لا يخلو من تشكيك في نجاعة منوال التنمية الذي أعد على أساسه.
مجهود جيد في حد ذاتهخاصة إذا ما تمت معاضدته بمزيد من الحزم على مستوى التجسيد مع المتابعة والتقييم المرحلي, من ذلك مثلا فيما يتعلق بالإسراع بإدخال مجلة الاستتثمار ونصوصها التطبيقية حيز التنفيذ وإصدار قانون الحوافز الجبائية, وكذا الأمر فيما يخص تفعيل آلية متابعة مخرجات مؤتمر الاستثمار, وتنفيذ الإصلاحات المبرمجة ومن بينها خاصة الإصلاح الجبائي وتعبئة الموارد الذاتية ومن ضمنها استخلاص الديون والخطايا المالية الراجعة للدولة, والعمل على تحسين مناخ الأعمال على أكثر من صعيد, بما في ذلك وضع حد لحالة الطوارئ مع المثابرة في ملازمة اليقظة الأمنية ضمن خطة الأمن الشاملوفي إطار احترام القانون, أضف إلى ذلك الضرورة الملحة لبلورة برنامج ظرفي لترشيد الواردات بغية الحد من تفاقم عجز الميزان التجاري الذي بلغ حوالي 9 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي وأصبح يمثل ضغطا كبيرا على معدل سعر صرف الدينار بما يتسبب في تضخيم حجم المديونية وفي مزيد انخرام التوازنات الخارجية.
ويمر ترشيد التوريد بضرورة تشديد المراقبة على مسالك انسياب السلع بهدف وضع حد للتوريد العشوائي (تجارة الحاويات) عبر نقاط العبور الكبرى في تونس وبنزرت وسوسة وصفاقس,والمثابرة في التصدي لظاهرة التهريب معتوخي ترتيبات خاصة بالتجارة البينية في المناطق الحدودية مع ليبيا والجزائر باعتبارها مورد رزق لمتساكني تلك المناطق, ويشمل البرنامج التخفيض أو التوقيف الظرفي لقائمة من الواردات التي تخص المواد الاستهلاكية غير الضرورية بما في ذلك واردات الشركات المقيمة, كما يستوجب الوضع الحالي للميزان التجاري اللجوء إلى " الإجراءات التحفظية" لحماية الاقتصاد الوطني كما تنص عليها اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة أو اتفاقيات التبادل الحر الثنائيةوالإقليمية.
ولعل الأهم من ذلك كله التأكيد على الأهمية القصوى للعمل مع الأطراف الاقتصادية والاجتماعية على تأمين استئناف منظومات الإنتاج لدورانها بالقدر اللازم من الطاقة الإنتاجية بما يضمن وفرة الإنتاج والرفع في نسق النمو وتحسين الانتاجية والتنافسية بهدف دفع التصدير والحد من اللجوء للتوريد (التجاري), إلى جانب التسريع في إنجاز مشاريع الطاقات البديلة للتخفيف من تفاقم عجز ميزان الطاقة,والعمل على تكريس منحى الشراكة في المشاريع لربط توريد المنتجات الاستهلاكية أو نصف المصنعة بالتصدير بواسطة الشريك الأجنبي, كل ذلك بهدف توفير مزيد من الموارد الداخلية ومزيد من المداخيل بالعملات الأجنبية بما يسهم في التحكم في حجم المديونية وفي التوازنات الخارجية, وهذا التحرك يستدعي خاصة توفر مناخ من السلم والاستقرار الاجتماعي بالحد من الحركات الاحتجاجية وعقلنة المطلبية الاجتماعية وعدم اللجوء لتعطيل دواليب الإنتاج, وفي المقابل لا بد من المضي قدما في تفعيل السياسات الضرورية لتأمين العدالة الاجتماعية وضمان الحياة الكريمة للمواطن من خلال النهوض بالتشغيل المجدي والمنتج والتحكم في نسق غلاء المعيشة بما في ذلك ترشيد منظومة التعويض لتوجيه الدعم لمستحقيه وكذلك إصلاح أوضاع الصناديق الاجتماعية على أسس هيكلية دائمة بعيدا عن الحلول الظرفية, وفي هذا السياق يستحسن مزيد التعمق في مسألة التخفيض من عدد أعوان وكوادر الوظيفة العمومية لأن الإدارة قد لا تشكو من تضخم في الموارد البشرية بقدر ما تشكو من نقص النجاعة في توظيف وتوزيع الموظفين ومن ظاهرة التضخم في هيكلتها من جراء تفاقم عدد الخطط الوظيفية والإدارات العامة, هذا فضلا عن الكلفة المالية العالية التي ستتحملها ميزانية الدولة أو الصندوق الوطني للتقاعد الذي يعاني من عجز كبير في الموارد, مع الخوف من أن التقاعد المبكر مع التمتع بالجراية كاملة قد يستهوي العديد من الإطارات ذات الكفاءة العالية التي لا تزال الإدارة في حاجة إليها.
ومن أجل تأمين ظروف النجاح لمثل هذا التمشي قد يكون من المجدي المبادرة بتفعيلالحوار الوطني من خلال عقد ندوة لتناول الوضع الاقتصادي الحالي وآفاق معالجته في إطار خطة إنقاذ اقتصادي على مدى ثلاث سنوات لإيقاف الانزلاقات الحالية على مستوى عجز الميزانيةوالتوازنات الخارجية وعلى صعيد المسار التنموي, وذلك بالتوازي مع تفعيل قانون الطوارئ الاقتصادية والعمل على إدخال الإصلاحات الهيكلية المبرمجة حيز التنفيذ, مع إمكانية إعادة عرض مشروع المصالحة الاقتصادية على النقاش من أجل جمع التوافق حوله لتسهيل تبنيه من طرف مجلس نواب الشعب, بينما يتم استئناف الحوار من أجل التوافق الواسع حول المخطط التنموي الخماسي ونمط التنمية بالنسبة للمرحلة المقبلة, وقد تكون فرصة لتعميق التفكير وللبت في مسألة مأسسة الحوار الاقتصادي والاجتماعي ( وعدم الاقتصار على الحوار الاجتماعي ) وذلك من خلال إعادة تفعيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي لتعزيز مسار الديمقراطية التشاركية على غرار ما هو معمول به في العديد من البلدان الأجنبية.
صالح الحامدي
- اكتب تعليق
- تعليق