أخبار - 2025.11.26

محمد إبراهيم الحصايري: في خطورة قرار مجلس الأمن رقم 2803

محمد إبراهيم الحصايري: في خطورة قرار مجلس الأمن رقم 2803

إن القرار الذي اتخذه مجلس الأمن تحت رقم 2803 بتاريخ 17 نوفمبر 2025، يكتسي خطورة مضاعفة لسببيْن اثنين: السبب الأول هو أنه لا يفرض على غزة مجرد "وصاية دولية" كما يحاول البعض التمويه، والإيهام بذلك للتخفيف من هول ما حدث ويحدث، وإنما هو يفرض على القطاع شكلا مبتكرا من "الاستعمار المعاصر"، الذي يحظى، وهنا يكمن السبب الثاني لخطورته، بموافقة منظمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها الذي برهن مرة أخرى على أنه أمين مؤتمن، لا على الميثاق الأممي ومبادئه، وإنما على مصالح ومآرب القوى الدولية الكبرى وفي مقدمتها بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية التي صاغت مشروع القرار ومارست شتى أصناف الضغوط والمساومات من أجل تمريره وعدم الاعتراض عليه...

إنه إذا استعمار "مقنّن" أمميا، وهو يشكل سابقة في منتهى الخطورة إذ ليس من المستبعد ان تتكرر مستقبلا في أكثر من مكان من العالم لا سيما وأنّ الولايات المتحدة التي فرضت هذا القرار، في ظل امتناع صيني وروسي عن التصويت يدعو إلى الحيرة والاستغراب، رفعت منذ بداية الولاية الثانية لرئيسها غريب الأطوار دونالد ترامب شعار "فرض السلام بالحرب" وأعادت تسمية وزارة دفاعها بوزارة الحرب...
وما من شك أن هذا التطور الذي ستكون له امتداداته وارتداداته على العلاقات الدولية حاضرا ومستقبلا، يحتاج إلى التعمق في تحليل أبعاده، وهو ما أنوي التطرق إليه في مقال موسَّع لاحق، غير أنني أريد، تمهيدا لذلك، التذكير بمقال كنت كتبته قبل عقد ونصف وبالتحديد في 16 جانفي 2010 وتوقعت فيه بعض ما نشهده اليوم.
وفيما يلي نص المقال الذي كان عنوانه "هل يصح الاعتذار عن "الاستعمار"؟:

"عنّ لي هذا السؤال الغريب وأنا أتابع، ككل تونسي، أطوار الدعوة إلى مطالبة فرنسا بالاعتذار والتعويض عن "استعمارها" الذي أناخ بكلكله على بلادنا طيلة خمس وسبعين سنة كاملة بأيامها ولياليها... وهو، بالطبع، ليس سؤالا حقيقيا، وإنما سؤال ساخر يستمدّ مشروعيته من التناقض الدلالي بين مفهوم الاعتذار من ناحية، ومفهوم "الاستعمار" من ناحية أخرى.   

إن كلمة "الاستعمار" وهي مصدر مشتقّ من فعل "استعمر" الذي يعني عمارة الأرض، كلمة تنطوي، في الأصل، على معني ايجابي، غير أن ممارسات القوى الاستعمارية على الميدان أضفت عليها معنى سلبيا حتى باتت من الأسماء الأضداد، ففي حين نرى أن من واجب هذه القوى أن تعتذر عن "الاستعمار" كما نفهمه نحن، ترى هذه القوى أن لا شيء يوجب عليها الاعتذار عن "الاستعمار" كما تفهمه هي.

ومعنى ذلك أن "الاستعمار" كان ينبغي، أصلا، أن يسمّى، مثلا، "استخرابا" حتى تستقيم، اليوم، المطالبة بالاعتذار عنه، غير أن التاريخ، كما نعلم، يكتبه المنتصرون، وظاهرة "الاستعمار" لم تكن عملا مرتجلا، وإنما كانت مؤسسة وطيدة الأركان لها منظّروها، ومنفّذوها، وواضعو "نواياها المعلنة الخيّرة"، ومرتكبو "ممارساتها الميدانية الشرّيرة"، وأنا شخصيا أعتقد أن فرنسا استعانت، يوم قررت الاستيلاء على بلادنا وعلى غيرها من البلدان العربية، بمستشرقيها حتى يختاروا لها  مفردة تحمل من الإيحاءات الايجابية ما يسوّغ هذا الاستيلاء لدى شعوبنا.

وفي هذا الباب، أحسب أن المستشرقين أخذوا هذه المفردة من قوله تعالى في الآية الواحدة والستين من سورة هود: "...هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"...
وإذ أدع تأكيد أو نفي هذه الملحوظة الانطباعية العابرة لعلماء الاشتقاق والباحثين في أصول الكلمات وتاريخ تطور استخدامها، فإنني ألاحظ أن فرنسا ما فتئت، خاصة منذ مطلع القرن الحالي، تعمل على إحياء معنى كلمة "الاستعمار" الأصلي، لا فحسب للتنصّل من استحقاق الاعتذار والتعويض عن تاريخها الاستعماري، وإنما لتنقيح هذا التاريخ بالاعتماد على سنّ قوانين تمجد "الاستعمار" وتشيد بإنجازاته، وعلى تكثيف التصريحات التي يطلقها بعض قادتها وكبار مسؤوليها مؤكدين أنهم "عندما يتجوّلون في عواصم مستعمراتهم القديمة لا يرون فيها ما يستدعي الاعتذار"...

والمفارقة هي أن فرنسا لا تكتفي بذلك بل تطلب، بالموازاة معه وفي مقابله، من شعوب هذه المستعمرات الالتفات إلى المستقبل، ونسيان حقبة "الاستعمار"، بل محوها من ذاكرتهم...

ولعله من المهم أن نلاحظ أن توخّي فرنسا هذا النهج الاستفزازي يأتي في الوقت الذي تجدّد فيه الولايات المتحدة العهد مع "أمجاد" الإمبراطوريتين الاستعماريتين الفرنسية والبريطانية بإعادة احتلال بعض ما سبق أن احتلتاه من بلدان كما حدث في أفغانستان والعراق وكما قد يحدث في بلدان أخرى قريبا...
والخلاصة هي أن الدعوة إلى الاعتذار والتعويض عن "الاستعمار" ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أن النزعة الاستعمارية لم تغادر فرنسا وبريطانيا ووريثتهما الولايات المتحدة، فالتطلع إلى السيطرة على الشعوب مازال يشكل أحد أكبر أهداف مخططات الغرب الإستراتيجية لتأبيد هيمنته على العالم.

وعلى هذا الأساس بالذات، فإنني أعتبر أن هذه الدعوة لم تأت، على عكس ما يراه البعض، متأخرة بل جاءت في أنسب وقت يمكن أن تجيء فيه، أولا لان جريمة "الاستعمار" لا تموت بالتقادم، وثانيا لأنه من الضروري الوقوف في وجه المحاولات الراهنة الرامية إلى جعل التاريخ يعيد نفسه.

وإذا كان لي من أمنية، في الختام، فهي أن يقتدي المغاربيون في النضالات الطويلة التي تنتظرهم من اجل الوصول بهذه الدعوة إلى غايتها بما كان يجمع بين أجدادهم من تآزر في نضالاتهم من أجل الانعتاق./."

محمد إبراهيم الحصايري
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.