عزالدين المدني: الجانب الخافي من تاريخ تونس الحديث والمعاصر نحو رفع الحجاب

لم نكن نعرف من حياة الأحزاب السّياسيّة التّونسيّة غير الحزب الحرّ الدّستوري التّونسي (الجديد) شيئًا إلّا القليل وأقل من القليل من نضالاتها وأحداثها وأخبارها وقادتها ومُنَاضِليها بل إلّا النّزر المتقطّع الّذي يَنْتَابُه الشّكّ حتّى لا يرتقي إلى التّصديق فيؤول إلى اللّامبالاة وإلى النّسيان ولو عند أوساط الإعلام والثّقافة طالما كانت دعاية الحزب الدّستوري الحاكم طاغيّة، منتشرة، مبثوثة في كلّ أمر وشأن من حياة المواطنين فكأنّ تونس أنجبت إلّا ذاك الحزب السّياسي الكلياني الشّمولي ولا سواه من قبل ولا من حزب معاصر له... ولقد ذكرنا في مقال سابق أنّ الحزب الحرّ الدّستوري البورقيبي قد غطّى في ذهنيّة المواطنين حتّى المثقفّين والمؤرّخين كامل تاريخ تونس الحديث ولم يترك حتّى زاوية صغيرة من هذا التّاريخ لأحد! كان غلقًا مُحْكَم الغلق!
********
أقول صراحة: هذا الكتاب الّذي أصدره حبيب القزدغلي المؤرّخ والعميد الجامعيّ السّابق عن عبد الحميد بن مصطفي قد أعجبني حقًّا لا لأنّ المفكّر السّياسي عبد الحميد بن مصطفى كان من أحبابي المثقّفين بل لأنّي شهدت وفاء المؤلّف ولمستُ فضيلة وفائه الأخلاقي فضلا عن وفائه الحزبي السّياسيّ حتّى لا تذهب سمعة عبد الحميد بن مصطفى ودوره السّياسي وقيمته الإنسانيّة العالية هَدَرًا ونسيًّا منسيًّا.
وهذا الكتاب يحمل عنوانا: عبد الحميد بن مصطفى / إسهامات على درب تأصيل يسار وطني تونسي وقد صدر بتونس سنة 2018 ويشتمل على قسمين: قسم بالّلغة العربية وقسم بالّلغة الفرنسيّة ذلك أنّ عبد الحميد بن مصطفى كان يحسن الّلغَتَيْن ويكتبهما، نتيجة لتكوينه الصّادقي ولممارساته الفكرية والسّياسيّة طوال حياته النّضالية. ويحتوي القسمان على قرابة 300 صفحة ملآنة بمواقف وأفكار وآراء وأحداث لم أكن أعرفها شخصيًّا ولا مطّلعًا عليها من حيث الأسباب والنّتائج والعواقب.
كان الحزب الشّيوعي التونسي ذا سمعة سيّئة جدًّا في الأوساط الشّعبّية بِرَبْضَيْ باب الجزيرة وباب سويقة وحتّى في أحياءٍ بالمدينة العربية من نواحي سوق البلاط ونهج سيدي قاسم والصّبّاغين ونهج المبزّع والحجامين والزّاوية البُكْرية والسّوق المسقّف والحلفاوين إلخ... كان الحزب الشّيوعي يُنْعت بالإلحاد والكُفر وبالخروج عن ملّة سيّدنا محمّد، وكان التّهديد والوعيد للشّيوعي بالنّار وبئس القرار في جهنّم خالدًا مخلّدًا!!! وهذا الخطاب المفعم بالسّبّ والشّتم والتّحذير كان يقال من أعلى المنابر يوم الجمعة، فيتقبّله المصلّون، وهم في الكثير منهم من مستوى الأميّة والجهل والسّذاجة والغفلة والأخذ بالخاطر! فيصدقونه!!! ويردّدونه!!!
كان ذلك يجري في الأحياء الشّعبّية وحتّى في الأحياء المستورة حيث سكنى عائلتي خلال النّصف الثّاني من أربعينات القرن العشرين وعلى مشارف الخمسينات... فمن ذا الّذي تحدّثُه نفسه بالانتماء للحزب الشّيوعي الّلهم إلّا عملة ميناء تونس والحمّالة والبطّالّة والصّرّابة والخمّاسة والحمّاصة والڤرْبَجية وشوّاش مشيخة المدينة كما يقول عم الهادي باش الملّاك! ومثل هذه الدّعايات السّخيفة الشّنيعة الرّائجة في معظم أنهج المدينة وبطاحها وأزقتها بحيث لا يصدّقها أحد إلّا من عصم ربّك! زد على ذلك أنّ الحزب الشّيوعي كان فيما بدا لي أيامئذ منكمشًا على نفسه، شبه منغلق فلم يفتح أبوابه إلّا للمعارف من أحبابه خلال بقية الأربعينات وحتّى أولى الخمسينات، ولكن يفتحها لتمرير قطرات ناشفة من أخبار مناضليه - وعددهم قليل جدًّا- ومن نشاطهم الاجتماعي والسّياسي ومن مواقفهم داخل تظاهرة أوّل ماي فحسب، القليلة العدد، الهزيلة التجمّعات، مقارنة بالتّظاهرات النّقّابٍيَّة الأخرى. الضخّمة الّتي تكتسح شارع باب البحر ثمّ شارع باب الجزيرة وباب الجديد وباب المنارة وشارع القصبة... ولكم سمعت بعض أيمّة المساجد الصّغار ومعهم قرّاء الموتى وحملة النعوش يسخرون: "هيّا هيّا! نتفرجوا على مَشْيِةْ الشّيوعيين الكُفّار ألْقَلَالَه!!! ربّي يِغْفِرْ ويسامحْ! آمين!"
*******
جريدة الطليعة وأهل حركة الطليعة بعد الإستقلال
أمّا جريدة الطلِيعَة النّاطقة بلسان الحزب الشّيوعي فقد كان شقيقي عبد الحميد الّذي يكبرني بسنتين يترصّد بيعها لدى البيّاعة المتجّولين لكي يقتني نسخة حتى لا تفوته لأنّه كان يقتني من كل جريدة كالنّهضة والزّهرة والوطن والأسبوع ويجمّعها في رِزْمات ريثما يحقّق أمله يومًا في أن يكون صحفيًّا، فيجري أخي حينئذ لاقتناء نسخته من العدد الجديد من جريدة الطّليعة الّتي يأتي بها البيّاع، ولكن يأتي بأربع أو خمس نسخ فقط. وكثيرًا ما يظهر البيّاع فجأة في السّوق قرب جامع الزّيتونة ولكن سرعان ما يطير بما لم يبعه من النّسخ، ويغيب وكأنّه يغيب بسحر بوليسي ساحر! ومازالتُ إلى هذا اليوم أتذكّر صورة ستالين وهي تتصدّر الصّفحة الأولى من الجريدة، وهو بوجهه الكبير الضّخم لا يبتسم، وله شارب مفتول يكتّف بغلًا! مثل شارب جارنا الحاج اسماعين، شاربه الأسود المصبوغ الّذي يركس عليه عصفوره المدلّل "المقنين"!
أحيانا كنت أسترق السّمع لكلام أصدقاء شقيقي عبد الحميد الزّيتونيين من أولاد البَلْديّة الّذين يزورونه في غرفته وهم يصفون ما يقرؤونه من الجرائد مثل جريدة الطّليعة رغم ضيق انتشارها، كانوا يقولون إنّها غليظة الّلهجة قاسيّة تارةً وطورًا صِدَامِيّة ولو هي حقّانيّة بما تعبّر عنه ضدّ المعسكر المقابل إلخ من شؤون العالم وأمريكا والاتّحاد السّوفياتي وألمانيا المهزومة... لعلّ مسألة جريدة الطّليعة ظلّ أثرها في حافظتي منذ آخر سنوات طفولتي وعامّة شبابي، فلم أَنْسَ هذه الجريدة الّتي قرأتُ منها عددًا أو عددين على أكثر تقدير لأنّ شقيقي يغار على الجرائد الّتي يشتريها ويجمّعها في غرفته. ولما صدرت جريدة "لَاتْرِيبُونْ دِي بْرُوقِي" تذكرتُ جريدة الطلّيعة، ولكنّ هذه الجريدة الجديدة الصّادرة بالّلغة الفرنسية غداة حصول تونس على استقلالها وحرّيتها لها نفس الّلهجة كالطلّيعة، لهجة المراجعة والتّجريح والتّساؤل المزعج والمحيّر الذي لا وجود له في سواها من الجرائد الحزينة الأخرى. مثلا أثارت مسألة بناء القصور كقصر قرطاج! فصارت قضيّة سياسيّة وقامت القيامة وشاشت النّعامة، وتوقّفت الجريدة عن الصّدور.
الحركة الطّليعية الإبداعية
ما كنتُ شيوعيًا ولا دستوريًّا ولم أنخرط في أيّ حزب سياسيّ إلى هذا اليوم بل انخرطتُ منذ زمان في الفكر والأدب والفنّ والعلوم والفلسفة، وحسبي ذلك وكفاية من أجل تونس، تونس الثّقافة تونس الحضارة، ولا شيء غير هذه تونس. هذا الانخراط الثّقافي طوال عمري قد رماني في قلب صراعات شتّى لم يهدأ أُوارها إلى هذا اليوم: صراع ضدّ السّلفيّة الّلغويّة العربّية، صراع ضدّ التّمشرق والتّمغرب، صراع ضدّ استلاب الشخصيّة الوطنيّة، صراع ضدّ ثقافة الحزب الواحد المتعالية وأدب الزّعيم الأوحد المتعالي، صراع ضدّ مافيا الأدباء المأجورين التّافهين، صراع ضدّ انكماش الوطنيّة وتقوقع الإسلام وإنكار الزّمان الحاضر والآتي، صراع ضدّ تسخير العمل الفني والفنّ وإنكاره كقيمة وطنية حضاريّة إلى أخر الصّراعات.....
لمّا كلّفني صلاح الدّين بن حميدة رحمه الله مدير ورئيس تحرير جريدة العمل لسان الحزب الحرّ الدّستوري التونسي (الجديد) بالإشراف على الملحق الثّقافي الأسبوعي للجريدة بوصفي رئيس تحرير مساعد، بادرتُ بدعوة المثقّفين الشّبان وعدد من الكتّاب والشّعراء الكهول إلى المشاركة في تحرير الملحق وذلك بالإسهام - بكلّ حريّة - وبما يعنّ لكلّ واحد منهم من التّعبير عن الأفكار أو المعتقدات أو الآراء حسب اتجاهاتهم وميولاتهم في مجالات الشّعر والقّصة والبحث عن أعمال الأدباء من الأجيال السّابقة وكذلك الفنّ التّشكيلي والتّاريخ وعلم الاجتماع والموسيقى والنّقد الأدبي والسّينماء والمسرح والفلسفة والتّعريف بالمنشورات والكتب التّونسية والعربيّة وحتّى الأجنبية أيّام انفتاح الدّار التّونسيّة للنّشر وشركة التّوزيع وإصدارات الجامعة التّونسية... فوقعت تلبية دعوتي من قبل عدد مهمّ من الكتّاب والشّعراء الشّبّان وبعض الكهول ممَّن يهمّهم كثيرًا مستقبل الثّقافة التّونسية الوطنية ومصيرها إثر السّنوات السّتّين من القرن الماضي. أيّامها لشدّ ما طُرِح عليَّ سؤال من قبل بعض المتشكّكين في إمكانية أن ترتفع الجريدة بفكر تونس وتسمو به من خلال الملحق الثّقافي نحو المصير المستقبلي المحرق؟؟؟
كان يقتضي العمل والتّشاور مع صلاح الّدين بن حميدة. فلم يكن يوجّهني ولا يرشدني. ونحن نعلم ما تتضّمنه هاتان الكلمتان السّياسيّتان من الشّرور ضدّ الثّقافة والفكر. بل كان صلاح الدّين بن حميدة رجل قلم وفكر. وهو واحد من بعض الاستثناءات داخل الحزب الدستوري أولئك المتنوّرين القلائل، فقد كتب القصّة والمقال، وهو قارئ ممتاز، وصاحب تحقيقات ميدانّية سياسية في الداخل والخارج، وله فضول معرفيّ ونَهَمٌ لا حدّ له ولكن لم أعرف ناقدًا أشدُ ولا أقسى لأخطاء نظام الحزب الدستوري مثله! وكان لا يفصح لذلك لأحد إلا لي، رحمه الله.. أن تتعامل مع محمود المسعدي أو الطّاهر قيقة أو صلاح الدّين بن حميدة أو الشّاذلي القليبي أو الحبيب بو لعراس فوالله متعة لأنّهم يفهمونك ولأنّك تفهمهم... وصلاح الدّين بن حميدة بوصفه مدير الجريدة ورئيس تحريرها هو الذي دعا بعض المثقّفين اليساريين إلى المشاركة بمقالات في الملحق الثقافي للجريدة. وهي جرأة سوف يحاسب عليها فيما بعد...
كان المثّقفون الشّبان متحفّزين للإبداع، ومشكلتهم كانت الإبداع ويومهم وغدهم وبعد غدهم الإبداع وإلى يوم يبعثون الإبداع ولا غير الإبداع إذ المنطق والغاية الإبداع. إنّه الخبز اليومي لدى سمير العيادي ومحمود التّونسي وحبيب الزّنّاد ونجيب بلخوجه ومحمّد سعادة ومحمّد صالح بن عمر وحمّوده بن حليمه ونجا المهداوي وحمّادي الدّليمي ومحمّد رجاء فرحات ووحيد الخضراوي وعلي عبيد فكنتُ أحثّهم على الإبداع وعلى المزيد ليلًا نهارًا بلا هوادة وكذا مرّت سنوات حياتي!... ومرّت سنون وها أنّي أنسى اليوم أسماء شبّان وكهول مبدعين آخرين. فمنهم من كان يساهم في التحرير بالكتابة مرّة ومرّة بالنّقاش الّلفظي. فباب الملحق الثّقافي مفتوح على مِصْراعَيْه دائمًا أبدًا للإبداع المضيف، للنّقد التّعريفي الفكري المركّز في أيّ مجال من مجالات الإبداع الأدبي والفنّي والفلسفي. وذلك هو الجانب النّوراني في الحداثة ولا سيّما في الحداثيّة!
هؤلاء المبدعون الشّبان والكهول، أغلب الذاكرة عندي تقول بأنّي وصفتهم بأهل الطّليعة فلّعل هذا اقتباس من اسم جريدة الحزّب الشيوعي أكيدًا! لا لتقليد الطلائع الفكّرية الأوروبية وإنّما هي الطّليعة الإبداعية التّونسية الوطنيّة أساسًا ومرجعًا.
وفي آخر هذه الحلقة أذكر أنّي اقترحتُ على صلاح الدّين بن حميدة أن يدفع مبلغا ماليا يقدّره هو بوصفه مدير الجريدة إلى كلّ من ساهم في تحرير المحلق الثقافي مكافأة له. وهكذا نعترف بأنّ الابداع ليس بخسارة بل هو ربح، بل هو عمل، بل هو فعل كما يفعل العامل الخدّام اليومي مثلما قالها قبلي علي الدّوعاجي منذ سنوات طويلة حين تكلّم عن الخدّام "قالاديما" في جريدته "السُّرور"!! فوافق على هذا الاقتراح وعمل هو به وعملتُ أنا بدوري به في إحدى المجلات ومنها مجلّة الحياة الثقافية. ذلك أنّ المجلّات الأدبيّة والفنّية التّونسية السّابقة في أغلبها السّاحق لم تكن تدفع ملّيمًا واحدًا للمبدع المشارك في التحرير هكذا كانت مجلّة الفكر ومجلّة المباحث مثلا.
الجانب الخافي من تاريخ تونس الحديثة والمعاصرة مع المفكّر السّياسي عبد الحميد بن مصطفى (1926-2017)
نحن أبناء جيل الإستقلال والحرّية: الكُتّاب والشّعراء والفنّانين نعطي قيمة إنسانّية وفكريّة عالية لمن لم تُعْطَ لهم قيمة رغم أنّهم وهبوا حياتهم إلى تقّدم تونس ومن أجله وفي سبيلها. لذا نعطي قيمة كبيرة للمفكّر السّياسي عبد الحميد بن مصطفى الّذي أصدر في شأن نضاله المستميت كتابًا مهمًّا المورّخُ والعميدُ الجامعي السّابق حبيب القزدغلي وهو صاحب الفضل.
هذا كتاب ضخم بالمحتويات الثّورّية – وفي الأخير: الإنسانية السّامية – الّتي يضمّها ويعرّف بها. وهو يشتمل على العناصر التّالية الّتي جمعها وقدّم لها حبيب القزدغلي:
1- إستهلال: إسهامات عبد الحميد بن مصطفى في تأصيل يسار وطني في تونس بقلم حبيب القزدغلي.
2- كلمة تأبين: ألقاها حبيب القزدغلي: كنتَ أقربَ الرّفاق الكبار سنّا منّا لينا وإلى أبنائنا.
أ- الفصل الأول: سيرة ذاتيّة لعبد الحميد بن مصطفى.
ب- الفصل الثّاني: شهادات أدلى بها عبد الحميد بن مصطفى تتعلّق بشخصيات حزبّية وسياسيّة تاريخيّة.
ج- الفصل الثّالث: نشر 41 مقالًا لعبد الحميد بن مصطفى في جريدة الطّليعة لسان الحزب الشّيوعي التّونسي من سنة 1962. ثمّ نشر 31 مقالًا في جريدة الطّريق الجديد من سنة 1981 إلى سنة 1982 من بينها المقال الافتتاحي بمناسبة إصدار العدد الأوّل من هذه الجريدة الحزبيّة.
والحقّ أنّي كنتُ أنتظر نشر المقالات الّتي كتبها عبد الحميد بن مصطفى بالّغة الفرنسيّة وأدرجها في جريدة "ترِيبُونْ دي بروقري" « Tribune du Progrès » لأنّه كان يحسن جيدًا اللغتين العربّية والفرنسيّة ويجيد التّكلّم بهما وتحريرهما، ولأنّه خلال جلساتنا معه في المقهى أو المطعم لم يكن عبد الحميد بن مصطفى يثرثر فيما لا يعني ولا يرضي، ولا يقطع كلامك، ولا يتأستذ ولا يتسقرط عليك بتحليل نظريّات كارل ماركس أو فْرِيدِرِيكْ نِيتْشَهْ ! بل كان يستمع إليك لأنّه كان سامعًا سمّاعًا بكل كيانه. ويتأنّى لحظة ليجيبك وهو يحاورك إجابة مقتضبة... مبتسمًا! فهل فهمتَ ما كان يقوله؟ لاحظت أن وجه المثقّف المبدع الشّاب قد تهلّل بارتياح... ثم لاقيته يومًا صدفةً وأنا في نهج سان شارل حيث اللّيسي كارنو وهو خارج من إحدى العمارات الملاصقة حاملًا ملفًا ضخمًا ثقيلا... فبادرني بالتّحيّة وأشار إلى الملف الثقيل وقال: "...هذا للدّراسة والمحكمة... فعرفتُ أنّ مهنته المحاماة لكن هيئته بل بزّته لا تدلّ على ذلك. وفي سيرته علمتُ أنّه درس القانون وتضلّع فيه...
علامات على طريق حياته
ولد عبد الحميد بن مصطفى سنة 1926 في أسرة "بلْديّة" من أسر بلديّة تونس العاصمة. وصفة "البلديّة" لا تعني الثّراء ولا السّلطة بل التّقاليد المتوارثة جيلًا عن جيل في الثّقافة الحضريّة والأخلاق والقيم والمعاملات. كلّ ذلك يشكّل صنفًا أو على الأصحّ نمطًا من النّخبة الاجتماعية ولكن ليس من الضّروري أن يكون "البلدي" من أعيان البلاد... إذ النّخبة إنّما هي اسم جامع لمختلف النّخب... على أنّ أسرة ابن مصطفى تنتمي حسب تداول اجيالها لما يسمّى قديما في عهد البايات بالمخزن: هذا الاصطلاح الإداري والعسكري الذي فقد مضمون معناه إثر انتصاب النّظام الجمهوري. ولذا فإنّ من وصف عبد الحميد بن مصطفى وصفًا كريها بأنّه أرستقراطيّ أو بورجوازيّ إنّما هو كُفْر اجتماعي وحزبي وفكري وثقافي عند من له بال ميكانيك! لا فكر صحيح!
لعبد الجميد بن مصطفى تكوين مدرسيّ صادقيّ متين في تكوينه باللّغتين العربية والفرنسية وآدابهما وعلومهما بما في ذلك الفلسفة.
لقد برز وعيه الوطنّي التّاريخي يوم 9 أفريل يوم استشهاد مئات الوطنيين الّذين قتلتهم القوى المسلّحة الاستعمارية، المطروحين موتى بدمائهم على الرّصيف...
فلا بدّ أنّ هذا المشهد الدموي المروّع قد ترك أثرًا عميقا لا يُمحَى في نفس عبد الحميد بن مصطفى الذي بدأ يخطو نحو سنّ الشباب وكذلك في ضميره، وسوف يكون له وقع وتطوّرات في مستقبل أيّامه.
ثم عرف عبد الحميد بن مصطفى الحزب الحرّ الدّستوري التّونسي الجديد. وولع بقراءة الصّحف والمجلات السّياسيّة والثّقافية التونسية والعربّية والأجنبية ومنها الفرنسية الّتي كانت ترد على تونس خلال سنوات الاستعمار وإلى ما بعد الاستقلال... ودرس ما فيها من مقالات وتصريحات وتحقيقات بعين المتابع الفاحص، بفكر النّاقد المتأمِّل، بثقافة المطلّع على الأصول ومسيرها ونتائجها وحتميّاتها وعواقبها ونكوصها وتراجعها ودحضها بمحاولات شتّى...
لم يذكر عبد الحميد بن مصطفى مصادره ولا مراجعه الفكرية القومية والأيديولوجية العالمية والفلسفيّة. ولكنّي أعتقد أنّه انكبّ على دراسة أعلام الوطنيين القوميين والاشتراكيين والشّيوعيين والثّوريّين في روسيا وبولونيا وألمانيا والنّمسا وفرنسا والهند الصّينية والصيّن والمكسيك وسواها، وهذا هو استقراء منّي بعد ما قرأتُ قراءةً أولى مقالاته في الطلّيعة والطرّيق الجديد... إذ الكيفيّة الّتي يفكّر بها عبد الحميد بن مصطفى ليست عادية مثل عاديّة كيفيّة التّفكير لدى سائر النّاس ومنهم سائر المتحزّبين. فعبد الحميد بن مصطفى يؤمن بالعقل وبالعقلانيّة - وقد قالها في غضون سيرته الذّاتية- وبالتّمشّي العقلاني لأنّ الحِجَاج عقلانّي والنّتيجة أنّه انتمى للحزب الشّيوعي بإرادة عقلانّية لا برغبة الطّمع في الشّهرة أو الكرسي والمنصب أو المال والسّلطة والنّفوذ والجاه. وسوف يدفع الثّمن باهظًا مثنى وثلاث ورباع وخماس مقابل عقلانيّته خلال حياته الحزبّية الشيّوعيّة.
لقد عاقبته قيادة الحزب الشيوعي، وهو منخرط ومتحزّب ومناضل في صفوفه لأنّه نقد السّياسة الّتي سلكها الحزب في إحدى فترات انخراطه ولعلّها كانت مبكّرة، عاقبته على تصرّفه الفكري الجريء وذلك بتجميد نشاطه مدّة ستّة شهور. وقد تكون جرأته علامةً عن عدم رضاه بالموجود والسّائد من سياسة الحزب يومها وغدها في سبيل إعطاء وجه آخر للحزب قصد تجاوز وُثُوقِيَّتَه واطمئنانه على أنّه يمتلك وحده الاستراتيجية الصّائبة الكفيلة بالنّجاح. وضمنيا لقد شقّ عبد الحميد بن مصطفى عصا السّياسة الحزبّية الشّيوعيّة. ولكن تدور الأيّام دورتها وإذا بعبد الحميد بن مصطفى يكون على صواب لأنّ الواقع صدّقه والقيادة الحزبّية على خطا. وإنّي أتساءل: هل كان يدعو إلى التّجديد بفضل حوار حرّ ومفتوح داخل الحزب وخارجه؟ هل كان ينتقد التّصلّب والتّحجّر ومواقفه للإجماع في كلّ حين وآن وكذلك العقلية الميكانيكية ولا تحسب أيّ حساب للحياة بإشكالياتها المعّقدة؟
وعلى كلّ، فالمناضل عبد الحميد بن مصطفى كان عفيفًا نزيها!
(يتبع)
عزالدين المدني
الحلقة القادمة: قراءة مقالات النّضال
- اكتب تعليق
- تعليق