من "صعدة الى صعدة" نحو الجبل، شعار ذهبي للفنانة الكبيرة المتعددة المواهب فاتن الرويسي
بقلم عزّ الديـن المدنـي - لشدّة ما كنت أتمنّى أن تنخرط الفنون التشكيلية اليوم في الحركات التشكيلية العالميّة وعلى الأقل التيّارات التشكيلية الفرنسيّة وأن تساهم فيها مساهمة بارزة من خلال المعارض العامّة والخاصّة التّجارية، وأن يرتفع اسم تونس وفنّها التشكيلي بشكل جماعي أو فردي. ذلك كان أيّام شبابنا وأوّل كهولتنا على امتداد السّنوات السّتّين والسّبعين وحتّى الثّمانين والتّسعين من القرن العشرين.
وقد جمعتني في زمن مبكّر من تلك الأيّام الحماسيّة بأخُوّة الفنّان التشكيلي الشهير نجيب بلْخُوجة وبصداقته الفكريّة ومودّته الحميميّة. فكنّا لا نفترق يوما بل كنّا مُترافقين دوما مُتلازمين.
أمّا من جهتي فقد كانت الكتابة الإبداعيّة في البداية تُحْرقُني بعد أن لاحظتُ أنّ تونس لم تنجب كتابة أدبيّة توصف بالخلق منذ المنتصف الثّاني من السّنوات الخمسين من القرن العشرين الاّ نادرا بل كانت تعيشُ ضربا من الجفاف في الابداع الأدبي فلا تجد ما تستهلكه الاّ ما يردُ عليْها من أقطار المشْرق العربي من دواوين الشّعر ولا سيّما من مجموعات القصص والرّوايات والدّراسات النقدية والنظرية، فكان معظمها اما نسخا لما كان يصدر في أنڤلترا وفرنسا وأمّا صُورة باهتة وإمّا صدى بعيدا مع استثناءات مبتكرة على قلّتها. فلم يتغيّر الوضْعُ الإبداعي في تونس إلّا عند تأسيس نادي القصّة بنادي أبو القاسم الشابي في الورْديّة أواسط السّنوات الستّين، وبدأ أعضاءه يدركون أهمّية الابداع والابتكار والاستنباط وقيمة هذه العناصر الفاعلة في الفكر والثقافة والمستقبل التونسي والعربي للارتقاء الى أجواء أُخرى عليا.
شيخ مدينة داكار يسلم جائزة "بينّال" للفن الافريقي المعاصر لفاتن الرويسي (2014)
أمّا من جهة نجيب بلخُوجة في السّنوات الستّين الأولى التي تعارفنا فيها فقد كانت المخاض الإبداعي الفنّي بالنّسبة إليه. وكان أوصياه النّاقد التّشكيلي المعروف بلقب "مْيادانْ" والصّديق الحميم للرّسام الفرنسي النُّورْمنْدي الشّهير "هُو" Jean-François Hue الذي عاش في تونس وتُوُفّي بها إمّا في أواخر السبعينات أوْ في بداية الثمانينات حسب ذاكرتي. وكان هذا النّاقد المُتتوْنس في الأصل صحافيا في جريدة "لا ديباش تونيزيانْ" La Dépêche Tunisienne وولوعا الولع الشّديد بالفنون التشكيلية وبالرّسّامين الفرنسيّين والايطاليّين والرّوس المقيمين بالبلاد وبالأروقة البلديّة والخاصّة القليلة العدد والمتاحف فضلا عن صداقته ببعض الفنّانين التُّونسيين ومنهم نجيب بلْخُوجة في بداية عطائه. وقد عرفْتهُ عن كثب وكذلك الرّسّام الفرنسي الشّهير " هُو" الذي كان يحضر المعارض العالميّة في باريس والجماعيّة في جنوب فرنْسا مع صديقه الناقد.
نظرا لكون والدة نجيب بلْخُوجة هُولنْدية-عرفتها في السّنوات السّبعين- فإنّه سافر الى أمسْترْدامْ وروترْدامْ. وهُولندا من أهم الدّارات الفنّيّة التشكيليّة في العالم كالدّارات الإيطالية والفرنسيّة والألْمانيّة والأنڤليزيّة مثلا.
ولا شكّ أنّ نجيب كان عصاميّ التكوين الفنّي والفكري معا فلم بتتلْمذ ربّما على أحد بل ثقّ نفسه بنفسه مع قوّة الذّكاء والنّقد. وأدرك يوم ترسّخت الصّداقة الحميميّة بيننا انّ البحث هو ضرورة الابداع والابتكار والاختلاف. وبفضله يقع الارتقاء الى العالميّة.
خلال الأسابيع القليلة الماضية عرفت السّيدة فاتن الرويسي الفنّانة الكبيرة ذات المواهب المتعدّدة. ومن المؤسف بالنّسبة إليّ أنّي لم أقابلها ولم أعرفها الا أخيرا. فأين هو الإعلام الفنّي؟ أليس هو في تناقص منذ سنوات طويلة وقد حملتهُ اليوْم إليْنا الأنترنت والشّبكات الاجتماعية لكنّه يُنسى بعد لحظات أو يُنسى في يوم على أكثر تقدير من نشْره في الحاضر، كأوراق الخريف لا تصونه الذّاكرة!
ولذلك كان فضل الصّحافة المكتوبة معرُوفا لأنّ المرْجع إلى الصّحافة أمر يسير لا مثل الأجهزة الإلكترونية رغم أنّها ضرورية اليوم.
دعتْني الى زيارتها في ورشتها الفنّية، فشُكرا لمن عرّفني بهذه الفنّانة المُبدعة حقّا لا مجازا ولا مدْحا، وهو كاتب وباحث ومؤرّخ للفنّ التّونسي المُعاصر. أمّا فنُّ السّيدة فاتن فهو مفتُوح على جُمْلة كالرّسم والنّحت والتّصوير بأشكاله ووسائله التّقنية الشّتّى والخطوط والنسج Textile ونتاج ما يتفرّع عن عمل اليد المهنيّة الفنّية من القُطن والصُّوف والكتّان والخشب واليسْر Jonc والخيْزُران ولا نهاية لذكر المواد التي يعتمدها الفنّ البصري من خلال ابداعات هذه الفنانة...
Lignes cardinales
شاهدتُ عنْدها لوْحات رسم من الحجم الكبير Correspondances du Temps Présent ولوْحات نحت أخرى من الحجْم المربّع الصّغير Lignes Cardinales، وصُور تعْكس منظر ثياب الغسيل "المجمّد" المنشور على حبْل الصّابون La grande Lessive "طلع الصابون نظيف" وصُورة أخرى تمثّل صفّا منتظما لعدد من القصاري (جمع قصريّة) Le Fantôme de la Libertéتتألّق بلون ذهبيّ ذي اصفرار مشعّ. ولاحظتُ أشياء مادّية مُبدعة استثنائيّة عديدة لا فائدة من ذكْرها بالتّفصيل على هذه السُّطُور.
إنّ هذه الفنّانة تسبحُ بيْن الألْوان والمواد والاشكال والصّفات والأساليب سباحة العارفين الماهرين الحذّاق. فلعلّها تؤدّي بنا الى الغد استئنافا لزيارة ما تبدعه قادما من الخزف والفسيفساء والطّين والصّخر والتُّراب، من يدري؟ ألمْ تسْبق وقوع الأحداث أحْيانا، فقد تتنبّأُ بسقوط بن علي بأربع شُهُور؟
L’Aboyeur 2 à mille facettes
ولكن من يستطيع قراءة العلامات؟ من يحدس؟ ومن يفهم؟ من يُخنّم؟
تتمركز اعمالها الإبداعيّة على الحضور بمعناه الحاضر الذي يصيب الهدف ومع ذلك هو باق على وجه الآن الممتدّ زمنيّا. فليس البقاء مُنحصرا في معنى الدّوام أو الخُلود. وليس الزّوال أي حركة الأيام والشُهور انعداما. وتلك هي ضُروب الفنّ ودلالاته السّرية المحجوبة بالمظاهر الطارئة.
جل ما شاهدتُه ولاحظتُ، ابداعات هذه الفنّانة النّابغة تُخاطبنا، تدْعُونا الى الانتباه والعناية والى تغيير زاوية الرؤية/الرؤيا الى أشْيائنا وأحْداثنا وزماننا، ترحّب بنا الى الاسْهام في رحاب إبْداء تبادل وجْهات النّظر والآراء والأفْكار والمشاعر. لا الى الهذْر والنّباح والصّراخ! فلابدّ حسب رأيي من قراءة الألوان والاشْكال والأحْجام وما يُرافقها من نتاج الصّناعة اليدويّة.
لقد ذكّرتني زيارتي الفنّية الى ما في ورشة السّيدة فاتن الرويسي من أعْمال إبداعيّة مختلفة وثريّة المعاني والأبعاد يجْمعُها كقاسم مُشْترك وهو الفكْر المُبْدع الخلّاق ولا سواه. ذكّرتني بحركات ألباوْهاوسْ الألمانية Bauhaus التي ترأّسها المهندس المعماري ڤْروبيوسْ Walter Gropius وأعْمال جماعات الدّادائيّة Les Dadaïstes والسّرياليّيين Les Surréalistes وكُبْرا Cobra وأعمال مانْ رايْ Man Ray ودو شان Marcel Duchamp مُونْدريانْ Piet Mondrian وفازارلّي Victor Vasarely وسُولاجْ Juan Soler وكدنْسّكي Vassily Kadinsky وماليفيتْشْ Kasimir Malevitch.
Fantômes de la liberté ملّى غصرة
لقد شاركت فاتن الرويسي بإبداعاتها في معارض أوروبية عديدة، وتمّ اقْتناء بعضها لتكون ممثّلة للحضور الفنّي من غير أوروبا في أروقة ومتاحف ألمانيّة وأمريكيّة، وتمّ تتْويج هذه الفنّانة بجائزة مُعْتبرة في معْرض دوْلي في بلاد السنيغال La Biennale d’Art Africain du Sénégal أي أنّ حضورها لم يقْتصر على أوروبا وغيرها بلْ وما يزال في إفْريقيا القارّة الغنيّة بالإبداعات العظيمة، هذا ما كنت أتمنّاه للفنّ التُونسي منذ سنوات السّتّين من القرْن العشْرين، وكانت أمنياتي معلّقة على أعمال نجيب بلْخُوجة، ضمْن التيّارات العالميّة المتقدّمة ولنْ أنْسى ما حقّقه الفنّان نْجا المهْداوي من مُشاركات فنّية ابداعيّة عليا في البلدان العربية وفي أمريكا فضلا عن أوروبا.
Correspondances du Temps Présent
هذا موجز لما يُمْكنُ أنْ يتعلّق بأعْمال هذه الفنّانة الكبيرة من رسْم منْزلتها بالخطّ الغليظ، إذْ يجب أن يتوقّف المرءُ عند جمْلة من الأفكار والآراء ليتأمّلها بالنّقاش فقد تصدّت لقراءة ظُروف المُجْتمع فخلقتْ فكْرة النّبّاح L’Aboyeur وكأنّ هذه الفكْرة قد تصاعدتْ نحْو المفهُوم الفلْسفي بوصْفه مفْهُوما للتّحْليل لا الفكْري بل الفنّي أيْضا. وأعْمالها الفنّية والفكْرية تستحقُ خطابا أشمل.
وخُذْ أيْضا فكْرة من صعدة الى صعدة De Colline en Colline، الصّعْدة التي تكلّم فيها الفلاسفة العرب القدامى بوصفها مصطلحا فلسفيّا، نجدُ نصّا بديعا في شأنه في كتاب إخْوانُ الصّفاء.
عزّ الديـن المدنـي
- اكتب تعليق
- تعليق