تطبيع السياسة النقدية في اليابان لا يُعتبر مصدراً للمخاطر المالية العالمية

بعد عقود من مكافحة الركود الانكماشي، الذي بدأ بعد انفجار فقاعة أسعار الأصول المحلية في أواخر الثمانينيات، بدأت بيئة الاقتصاد الكلي في اليابان تتغير. خلال فترة الانكماش (1990-2020)، دخلت البلاد في حالة غير طبيعية تتسم بانخفاض كبير في معدلات النمو، وضعف التضخم، والتيسير النقدي الاستثنائي. ولكن يبدو أن التأثير المشترك لجائحة كوفيد-19 وصدمات العرض العالمية والتحفيز المالي والنقدي القوي قد أدى أخيراً إلى "إنعاش" الاقتصاد الياباني. وبعد الجائحة، شهدت اليابان معدلات نمو أكثر اتساقاً، مع مستويات تضخم لا تقل بكثير عن تلك السائدة في الاقتصادات المتقدمة الأخرى. ويمثل ذلك تحولاً هيكلياً، ينقل اليابان إلى بيئة اقتصاد كلي تُعتبر "طبيعية" بدرجة أكبر بعد سنوات من عدم الاتساق مع النظراء العالميين.
تغير بيئة الاقتصاد الكلي في اليابان
(متوسط نسبة التغير السنوي للفترة) المصادر: هيفر، صندوق النقد الدولي، تحليلات QNB
وفي هذا السياق، بدأ بنك اليابان في تنفيذ التطبيع الذي طال انتظاره للسياسة النقدية. فقد تم إلغاء أسعار الفائدة السلبية، وتم الاستغناء عن عمليات التحكم في منحنى العائد، وبدأ البنك المركزي يقلص تدريجياً دوره كمشترٍ رئيسي لسندات الحكومة اليابانية. وتم تغيير السياسة النقدية استجابة لتحسن أُسس الاقتصاد المحلي، بما في ذلك ضيق سوق العمل وبقاء التضخم فوق نسبة 2%.
ولكن تطبيع السياسة النقدية في اليابان أثار المخاوف في الأوساط المالية العالمية، إذ يخشى المشاركون في السوق أن يؤدي هذا التحول في السياسة إلى انعكاس سريع لتدفقات رؤوس الأموال وزعزعة الأسواق المالية العالمية. وتمتد جذور هذه المخاوف إلى الدور التاريخي الذي ظلت تلعبه اليابان كمصدر رئيسي للسيولة العالمية. فبعد سنوات من السياسة النقدية الميسرة للغاية، التي شملت أسعار الفائدة السلبية، والتحكم في منحنى العائد، والمشتريات الضخمة للأصول، أصبح بنك اليابان ركيزة لأسعار الفائدة العالمية. وقد تحول المستثمرون اليابانيون الباحثون عن عوائد أعلى في الخارج إلى مساهمين بارزين في أسواق رأس المال العالمية، فقد انخرطوا في استثمارات واسعة النطاق عبر الحدود ونفذوا عمليات "اقتراض للتداول بفوارق أسعار الفائدة" بهدف زيادة العوائد. في الواقع، يحتفظ المقيمون في اليابان بأكبر صافي مركز استثمار دولي في العالم، وهو أعلى بكثير بالمقارنة مع الصين أو منطقة اليورو.
صافي مركز الاستثمار الدولي
(مليار دولار أمريكي، الربع الأخير من عام 2024) المصادر: هيفر، تحليلات QNB
في ظل هذه الخلفية، يُخشى أن يؤدي تطبيع السياسة النقدية وارتفاع عوائد سندات الحكومة اليابانية إلى إعادة تخصيص رؤوس الأموال إلى اليابان، مما يقلل السيولة العالمية ويولد ضغوطاً على السوق. ولكننا نرى أن هذه المخاوف مُبالغ فيها. وهناك سببان رئيسيان يؤكدان أن تشديد السياسة النقدية في اليابان لا يُرجح أن يؤدي إلى حالة ملموسة من عدم الاستقرار المالي، سواءً على الصعيد المحلي أو العالمي.
أولاً، حتى بعد التعديلات الأخيرة، لا تزال فروق أسعار الفائدة بالمقارنة مع الاقتصادات المتقدمة الرئيسية كبيرة، سواءً بالقيمة الاسمية أو الحقيقية. حالياً، يبلغ سعر الفائدة قصير الأجل لبنك اليابان 0.5%، بينما يحافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية عند 4.5%، ويبلغ سعر الفائدة على الودائع لدى البنك المركزي الأوروبي 2%. ويأتي هذا في سياق يبلغ فيه معدل التضخم في اليابان 3.5%، وهو أعلى بكثير من المستويات التي تشهدها الدول النظيرة الأخرى. وبالتالي، لا تزال أسعار الفائدة الحقيقية سلبية للغاية في اليابان، على عكس أسعار الفائدة الحقيقية الإيجابية في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو. ولا تزال هذه الفروقات المستمرة تحفز المستثمرين اليابانيين على السعي وراء عوائد أعلى في الخارج، مما يحافظ على تدفقات رؤوس الأموال الخارجة وأنشطة التداول بفوارق أسعار الفائدة.
ثانياً، من المتوقع أن يكون التشديد النقدي منظماً ومحكم التنفيذ، مما يمنع نوبات كبيرة من الضغوط المالية أو الاقتصادية. في الواقع، تتسم استراتيجية بنك اليابان لتطبيع السياسة النقدية بالحذر والتخطيط والتواصل الجيد. وقد ظلت وتيرة التشديد بطيئة، مما يسمح للأسواق بالتكيف بسلاسة. ويتمتع بنك اليابان بالمرونة، وقد أبدى استعداده لتعديل مساره عند الحاجة. وتجدر الإشارة إلى أن السياسة النقدية في اليابان لا تزال ميسرة للغاية، أي أن أسعار الفائدة الرسمية، وحتى عوائد سندات الحكومة اليابانية لأجل 10 سنوات، أقل بكثير من المعدل المحايد الاسمي البالغ 2.5%. إذا استمر التشديد التدريجي للسياسة النقدية كما هو متوقع، مع رفع أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس مرتين سنوياً، فإن الانتقال إلى موقف أكثر حياداً أو تقييداً سيكون سلساً، مما يقلل من احتمال حدوث انعكاسات مفاجئة في تدفقات رؤوس الأموال.
بشكل عام، يمثل انتقال اليابان إلى بيئة اقتصاد كلي وسياسة نقدية تقليدية تحولاً عالمياً هاماً، ولكنه لا يشكل مصدراً لعدم الاستقرار المالي، حيث لا تزال فروق أسعار الفائدة تدعم تدفقات رؤوس الأموال العالمية، كما أن تطبيع بنك اليابان لسياسته النقدية يتسم بالحكمة والشفافية. وبدلاً من أن يمثل هذا التحول صدمة لتدفقات السيولة العالمية، ينبغي النظر إليه كإشارة إيجابية على عودة الاقتصاد الكلي إلى طبيعته بعد عقود من الركود.
- اكتب تعليق
- تعليق