اصدارات - 2024.06.04

غيض من فيض كتاب "مسار وذكريات" للمكي العلوي

غيض من فيض كتاب "مسار وذكريات" لمكي العلوي

بقلم محمد ابراهيم الحصايري - "مسار وذكريات" هو عنوان الكتاب الذي صدر منذ أيام للصديق العزيز المكي العلوي، وهو كتاب يُقرَأُ بمتعة كبيرة لأنّه، أولا وقبل كل شيء، يشبه صاحبه. يشبهه في عفويته، ويشبهه في طيبته، كما يشبهه في بساطته، وفي بعده عن التكلف والحذلقة.

ثم إنّه، فيما أرى، كتاب يتحدّث عن مسارين لا عن مسار واحد كما جاء في العنوان، إذ يبدو أن المؤلف عمد إلى المزج، عن وعي، بين مساره الذاتي وبين ما يمكن أن نسمّيه المسار الوطني، أي بين ما عاشه هو شخصيا وبين ما عاشته تونس من أحداث ووقائع منذ أربعينات القرن الماضي حتى اليوم.

ومما يؤكد ذلك أنه يقول في التمهيد: "أردت بصياغة هذا العمل أن أرسم للتاريخ سجلاّ من الأحداث التي تبدو في ظاهرها سيرة ذاتية لكنها في الواقع لصيقة بمجموعة من الأحداث والوقائع والمواقف السياسية وكذلك الاقتصادية والاجتماعية المتوازية مع خط حياتي التي بدأت من 1941 وربما قبلها وصولا إلى اليوم" (ص 23).

وهذا المزجُ بين ما هو ذاتيّ وبين ما هو وطنيّ يعطي الكتاب نكهة خاصة، ويجعل القارئ يندمج في قراءته لأنّه يعود به إلى أحداث ووقائع إمّا أن يكون عايشها، (إن كان ينتمي إلى جيلنا، أو سمع أو قرأ عنها إن كان ينتمي إلى الأجيال التالية)، وقد يجد في حديث المكي العلوي عنها اضاءات جديدة لبعض خباياها وحيثياتها...

وفي غضون الاثنين وخمسين فصلا التي يحتويها الكتاب يتطرّق المكي العلوي إلى ظروف مولده ونشأته الأولى في "ربوع بلاد المكناسي المعطاء"، ثمّ إلى التحاقه بالجامعة في تونس وفي رومانيا، وانخراطه في العمل الطلابي، هنا وهناك، ثمّ إلى المسؤوليات الجهوية والوطنية التي تقلّدها، ثمّ إلى عمله البرلماني فعمله الدبلوماسي فمسؤوليته في مجلس المستشارين...

وقد جاء حديثه عن هذه المسيرة الثّريّة بالتجارب مفعَمًا بحسّ وطني مرهف، أشعر بأنه حرص على إبرازه لا فحسب لأنه ينحدر من عائلة ومن منطقة أبلت البلاء الحسن في الكفاح ضد المستعمر، ثم ساهمت في رفع أركان دولة الاستقلال، وإنما لأنه يرى أنّ البلاد باتت بأمس الحاجة إلى استرجاع هذا الحسّ، بل إلى تأجيجه حتى تستطيع مواجهة تداعيات ما يسميه "عشرية الخراب التي سبقت  25 جويلية  2021"  والتي أدّت إلى "تفشي الفساد حتى تغلغل في الإدارة وعكّر الحياة السياسية"، وحتى أن المواطن "إذ فقد الثقة والصبر والأمل بعد أن تفاجأ بالحقيقة، كره السياسة والسياسيين وزهد في الانتخابات، وانكفأ على حياته اليومية العسيرة مواجها الغلاء الفاحش ونقص المواد، والبلاد غارقة في البطالة والديون المستعصية بشروطها التعجيزية، فلا غرابة بعدئذ أن ترتفع الزفرات مُتَأَوِّهَة على المستقبل المجهول، ومتأسّفة على الوضع السابق لسنة 2011 رغم ما شابه من أزمات وإخلالات".

وهو هنا لا يقف عند توصيف الحال، بل يدعو العاقل، كل عاقل، إلى أن "يترك المقارنة مدركا أنّ ما حصل اليوم نتيجة لما شهدته البلاد من 2011 إلى 25 جويلية 2021، ويعوّل على العمل بروح وطنية للنجاة من ورطة ثورة نُسِجَتْ خيوطُها في الخارج وصفّق لها الكونغرس برئاسة أوباما. لكننا أصبحنا تحت ضغوط المجتمع الدولي، والسياسة النقدية المشبوهة، نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني على حساب حق الشعب الفلسطيني المشروع في الوجود على أرضه وفي ظل دولته. وما نفتخر به اليوم موقف تونس الثابت والمشرّف رئاسة وشعبا مناصرة للقضية الفلسطينية وطوفان الأقصى وتصديا للتطبيع مع العدو الصهيوني" (ص 206).

ومع أن البعض قد يرون أن الفصول الأخيرة من الكتاب جاءت في غير مكانها، فإنّني من ناحيتي، أرى أنه لم يكن غريبا أن يُشْفِعَ الكاتب دعوته إلى التعقّل بتلك الفصول التي خصّصها للحديث عن ثورة 18 جانفي 1952، وعن عدد من مناضلي الحركة الوطنية وشهدائها (الشهيد حسين بوزيّان، والشهيد محمد السالم الحيدوري، والشهيد القائد محمد الصالح بالحاج السماري) وعدد من المعارك التي خاضوها ضد المستعمر الفرنسي (معركة كاف حسن والسند وجبل عرباطة، ومعركة جبل المالوسي الأولى، ومعركة جبل المالوسي الثانية)...

وأحسَب أنه أراد بذلك الترتيب أن تكون آخر الصور التي يخرج بها القارئ من الكتاب هي تضحيات عدد ممن استشهدوا في سبيل هذا الوطن العزيز، وهي تلك الدعوة الصادقة للتونسيين إلى أن يكونوا أوفياء للدماء الزكية التي بذلها الشهداء من أجل أن تكون تونس وأن تظل حرة منيعة شامخة...

والكتاب، إلى ذلك، غنيّ بالمحطات الجديرة بالوقوف عندها، غير أنني سأكتفي بالتوقف عند ثلاث منها لأنها فيما أرى تضمنت بعض المواقف ووجهات النظر اللافتة.

أما المحطة الأولى فهي تتعلق بفترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي التي استغرقت، كما هو معلوم، ثلاثا وعشرين سنة، ولكن الكاتب لم يخصّص لها إلا فصلا وحيدا من أقل من ستّ صفحات اختار له كعنوان "مرحلة زين العابدين بن علي".

وغنيّ عن البيان أن اختزال هذه الفترة، أو هذه المرحلة كما سمّاها، بهذه الطريقة ينم عن أكثر من معنى، لا سيما وأن الكاتب أشفع الحديث عن مرحلة زين العابدين بن علي بفصلين يقطران بالمرارة، كان أولهما تحت عنوان "تغيير تسمية الحزب"، وكان الثاني تحت عنوان "وفاة الزعيم الحبيب بورقيبة" وقد عدد فيه النقاط السوداء التي شابت جنازته قبل أن يؤكد في خاتمته أن الحبيب بورقيبة "يبقى ورغم إجراءات العزل ومحاولات التغييب منذ 7 نوفمبر بما في ذلك عدم نقل جنازته مباشرة عبر وسائل الاعلام بتعلات فنية ولوجستية أو طريقة نقله بالطائرة في مكان البضائع دون أن يكون للحزب دخل في ذلك كله، مما اعتبر نقطة سوداء وغلطة فادحة في حق الزعيم ارتكبها النظام، يبقى الرمز والأب الروحي لكل التونسيين حيث رافقهم بصدق والتحم بهم طيلة الحركة الوطنية والكفاح الوطني ضد التخلف والجهل وطيلة مراحل البناء، جاعلا من خياراته في التربية والصحة وخاصة المرفق الاجتماعي والاقتصادي المنظار الأساسي لاستشراف مستقبل الشعب ومناعة الدولة وهاجسه الدائم. وكان يردد في كثير من المناسبات: لا أخاف على الدولة وتونس الا من أبنائها" (ص 173).

وأما المحطة الثانية فهي تتعلق بما سمّاه "العمل الدبلوماسي" وقد تحدّث فيها عن تعيينه قنصلا عاما بجدة بالمملكة العربية السعودية ثم مندوبا عاما بليبيا، وقد استوقفني بشكل خاص رأيه في العقيد معمر القذافي الذي يقول إنه حظي، خلال فترة عمله في ليبياـ بمقابلته عشرات المرّات لا سيما وأنه كان يحيطه بتقدير واحترام كبيرين.

يقول في هذا الشأن: "ومما احتفظ به عن معمر القذافي أنه كان قائدا عروبيا، وطنيا حتى النخاع، ومثقَّفا ومتعمّقا في التاريخ بجوانبه في كثير من القضايا، ومُجَانِبٌ للصواب من يتصوّر غير ذلك، فالرجل ذكي وقوي ويتمتع بدهاء كبير ومناور في أخذ المواقف ومتمسك بمبادئه ومدافع شرس عن مصالح ليبيا والقضايا العربية والإفريقية.

وكان خوفه الكبير من الولايات المتحدة ومن الاتحاد الأوروبي وكل هياكل الحلف الأطلسي، هذا الكيان الذي أسقط فيما بعد نظام القذافي ودمّر ليبيا" (ص 191)...

وأما المحطة الثالثة فهي تتعلق بثورة 17 ديسمبر2011 وبأسباب "سقوط النظام وبقاء الدولة". وهو، في هذا الإطار، يلاحظ أن السلطة "لم تقم بتقييم الوضع منذ البداية، ولم تقدّر مآل الأحداث قصد إيجاد الحلول للسيطرة على الوضع بل كانت تتوهم أنه سحابة صيف عابرة. وحتى في مستوى قيادة الحزب أي الديوان السياسي فإنه لم يجتمع إلا متأخرا، ولم يُكَوِّنْ خلايا ولجانَ أزمةٍ، الأمر الذي تسبّب في تطور الأحداث سريعا في أواخر ديسمبر والرئيس متغيِّب. ولما عاد وبادر بزيارة محمد البوعزيزي وجد الأمر مقضيّا. وحتى الخطابات التي توجّه بها إلى الشعب لم يكن لها تأثير " (ص 196/197).  

إضافة إلى ذلك يعيد المكي العلوي سقوط النظام إلى عاملين أساسيين أولهما خارجي حيث يؤكد في هذه الصدد أنه "يمكن القول إنه (أي ما حدث) لأسباب خارجية معروفة، وليس الهدف منه تونس فحسب، وإنّما هي مرحلة سهلة تفتح الباب على بلدان أخرى مثل ليبيا ومصر وسوريا واليمن والجزائر بعد سقوط العراق. وقد بدأ الأمر في الولايات المتحدة منذ زيارة قندليزا رايس لتونس" (ص 199).

أما العامل الثاني فهو داخلي. وفي حين يكتفي، في هذ السياق، بإشارة سريعة، بل تكاد تكون برقية إلى "مجموعة الطرابلسية المعلوم ما كان لها من أثر سيء على الاقتصاد الوطني واستغلال النفوذ" (ص 168/169)، فإنه يطنب في الحديث عن عدم تمكن الحزب من الاضطلاع بدوره المعهود في زمن الأزمات، حيث يقول في هذا الصدد: "أما الأسباب الداخلية فهي أعمق وأهمها أنّ الحزب العريق القائم لأكثر من مائة سنة وقع تهميشُه وإفراغُه من الداخل وجعلُه حزبَ الدولة، تتصرف فيه كما شاءت بعدما كان الحزب يقود الدولة لتنفيذ خياراته وتوجهاته. وقد شهدت البلاد طيلة أكثر من 50 سنة أحداثا كبيرة لكنها واجهتها وصمدت أمامها لأن الحزب كان قويا وكان حزام النظام" (ص199).

وتجدر الملاحظة في هذا السياق أن الكاتب يتطرق، بنوع من المرارة، إلى مسألة تهميش الحزب في أكثر من موقع، وخاصة في الفصل الذي يحمل عنوان "تغيير تسمية الحزب" حيث يشير الى أن الرئيس زين العابدين بن علي استقبله صباح افتتاح المؤتمر الاستثنائي الذي انعقد أيام 28 و29 و30 جويلية 1988، وسأله "إن كانت هناك ملاحظات فقلت له إن عديد الكتاب العامين للجان التنسيق وكثيرا من المناضلين يؤكدون على بقاء لجنة التنسيق منتَخَبَة في الجهات فكان جوابه بالإبقاء على الصيغة الجديدة أي بالتعيين. وهي تجربة نقيِّمها فيما بعد. ويمكن القول إن هذه التجربة هي التي أضعفت الحزب وحدَّت من دوره التاريخي في قيادة الجماهير وتسيير الهياكل القاعدية" (ص 168).

وإضافة إلى كل ذلك، يذهب المكي العلوي، وهو في نظري محقٌّ فيما يذهب إليه، إلى أن بعض الأشخاص المقرَّبين من الرئيس أساؤوا له وساهموا في التمهيد لسقوط النظام، إذ يقول في هذا الصدد: "كما إن ابن علي أَلْحَقَ بديوانه الوزيرين السابقين عبد الوهّاب عبد الله وعبد العزيز بن ضياء اللًّذَيْن أمعنا في شخصنته والتأثير عليه واستطاعا أن يشيرا عليه بتنقيح الدستور مرارا عديدة وإفراغه من محتواه السياسي والاقتصادي وبعده الاجتماعي وإضعاف دور السلطة التشريعية ليصبح ليبراليا وقابلا لأن تسوسه يدٌ واحدة، ونتيجة لذلك فقد تغيّر اسم (الحزب الاشتراكي الدستوري) ليصبح (التجمع الدستوري الدمقراطي) وإضافة كلمة الديمقراطية في مؤتمر 1988 على اعتبار أن بورقيبة لم يكن ديمقراطيا في تقديرهم. وتم توظيف هذا الشعار واستغلاله. ولكن بعد مرور عشر سنوات تبدّلت الأمور وأصبح الحزب لا دور له والديمقراطية شكليةً" (ص 165/166).

*************

ذلك غيض من فيض كتاب "مسار وذكريات" الذي أودّ في الختام أن أحيي أخي المكي العلوي على تجشّم عناء تأليفه وإصداره، وأن أثني، مجدّدا، على الحس الوطني الذي بثه في ثناياه، للتذكير علّ الذكرى تنفع المؤمنين، وفي ذات الوقت التنبيه إلى أن فوز تونس بالمعركة التي تخوضها للقضاء على رواسب عشرية الخراب، والانطلاق، من جديد، نحو تحقيق ما تصبو إليه من رقي ورخاء ورفعة يبقيان رهيني تحلي أبنائها وبناتها كافة بأكبر مقدار من هذا الحس الكفيل بأن يُكْسِبَهم القدرة على تحقيق المعجزات.

محمد ابراهيم الحصايري
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.