أخبار - 2024.06.03

محمد ابراهيم الحصايري - رهانات إفريقيا الكبرى: مزيج من التحديات والفرص لتونس

محمد ابراهيم الحصايري - رهانات إفريقيا الكبرى: مزيج من التحديات والفرص لتونس

هذا المقال في الأصل مداخلة ساهمتُ بها في أعمال اليوم العلمي الذي نظمته جمعية دراسات دولية ومركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية يوم الخميس 23 ماي 2024 بمقر المركز، حول موضوع "تونس وإفريقيا: تحديات وفرص"، وقد ألقيت فيها الضوء على بعض الرهانات الراهنة أو التي يُتَوَقَّعُ أن تواجهها القارة الإفريقية مستقبلا على الأصعدة السياسية والاقتصادية والتنموية والبيئية والديموغرافية، كما استقرأت مزيجَ التحديات والفرص التي يمكن أن تكون لها ارتدادات سلبية أو ايجابية على بلادنا باعتبارها جزءا لا يتجزأ من القارة، وهو ما يجعل التفاعل معها أمرا حتميّا، لكنه يستوجب أن يكون بأسلوب إرادي وواع ومدروس...

وقد انطلقت في تناولي للموضع من قولة أعتبر أنها من أبلغ ما قيل عن مبررات التفاؤل بمستقبل القارة الإفريقية، وهذه القولة جاءت على لسان النائب ووزير الشؤون الخارجية السينغالي السابق شيخ تيديان غاديو  Cheikh Tidiane Gadio الذي يؤكد أن سكان القارة الإفريقية هم أصغر سكان قارات العالم سنا، غير أنه بدلا من النظر إلى هذه الحقيقة كمزية وكثروة للقارة، يبقى الجدل الدائر حول التزايد السكاني "الباهر" في إفريقيا باعثا على القلق والانشغال. ومع ذلك ففي وجود مليار من الأفارقة الشباب أي مليارين من السواعد الإفريقية، تستطيع القارة، بسهولة، أن تنقل الجبال...
" L’Afrique est le continent le plus jeune au monde. Mais au lieu d’en faire un atout et la première ressource du continent, le débat sur la croissance démographique «fulgurante» de l’Afrique demeure essentiellement anxiogène. Avec un milliard de jeunes, soit deux milliards de bras, l’Afrique peut aisément soulever des montagnes..."

ومما لا شك فيه أن القارة الإفريقية تقف اليوم أمام ما يمكن أن نسميه "مفترق طرق متشعّب"، بل على غاية من التشعّب، وعليها أن تحسن اختيار الطريق الذي ستسير فيه، والوجهة التي ستقصدها مع تجنّب الوقوع، مرة أخرى، فيما وقعت فيه خلال العقود الستة الأخيرة التي أعقبت إحراز بلدانها على استقلالاتها الوطنية...

وتشعّب مفترق الطرق الذي تقف القارة الإفريقية، اليومَ، أمامه يرجع إلى التحديات العديدة والعويصة التي تعترضها والتي تمس مجمل مناحي حياتها السياسية والاقتصادية والأمنية والتنموية...

ثم إنها تحديات داخلية في جانب منها، وخارجية في جانب آخر...

وأنا هنا لن أتطرق إلى جميع هذه التحديات، بل سأكتفي بتناول سبعة منها فحسب، لأنها، في نظري، تهم تونس بشكل مباشر سواء من حيث ما يمكن أن يكون لها من تأثيرات ينبغي الحذر منها، أو من حيث ما يمكن أن تنطوي عليه من فرص ينبغي العمل على الاستفادة منها. ولنبدأ من حيث بدأنا الحديث، أي من:

1/ تحدي التزايد السكاني في إفريقيا

وهو تحدٍّ ناجم عن عاملين أساسيين الأول هو ارتفاع نسبة الخصوبة، والثاني هو ارتفاع نسبة الأمل في الحياة، والجدير بالملاحظة أن الاحصائيات تفيد بأن 60 بالمائة من سكان إفريقيا سنهم أقل من 24 سنة (وفي بلاد كالبنين يقدر معدل السن بـ17.5 سنة فقط).

وهذا التحدي يتمثل بالأساس في عدم قدرة الدول الإفريقية على الاستجابة لاحتياجات شبابها، مما يدفع به أو بقسم مُتَنَامٍ منه إلى الهجرة، هربا من البطالة والفقر وبحثا عن ظروف عيش أفضل.

ومع ذلك فإنّ الجدير بالملاحظة أن نسبة النمو الاقتصادي في القارة تفوق نسبة التزايد السكاني، غير أن الدول الإفريقية تظل عاجزة عن تلبية احتياجاتها التنموية لعدة أسباب لعل أهمها سوء التصرف في الثروات ورؤوس الأموال الوطنية من حيث التوزيع ومن حيث الاستثمار في المجالات المولّدة لمواطن الشغل، هذا بالإضافة إلى أن الأنظمة التعليمية غير متأقلمة مع سوق الشغل.

2/ تحدّي التنمية المستدامة والحاجة إلى تطوير البنى التحتية

تعاني القارة الإفريقية من عجز بيّن في البنى التحتية عموما، والبنى التحتية الطاقية بصفة خاصة، ومن المسلّم به أن تنمية مستدامة حقيقية لا يمكن أن تتحقق إذا لم يتم التغلب على هذه المشكلة.

وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى جملة من الحقائق المتضاربة أو إن شئنا المفارقات التي تعيشها القارة على هذا الصعيد:

أن إفريقيا تنطوي على حقول نفط ومناجم هائلة من الفحم الحجري لكنها غير مستغلة رغم سهولة استخراجها.

أن إفريقيا تتوفر على موارد هامة من الغاز التي لم يتم استكشافها أو في الحقيقة الكشف عنها والتوجه نحو استغلالها إلا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، لأسباب عديدة من بينها أن أسعار النفط كانت قبل الحرب الأوكرانية منخفضة.

أن إفريقيا بفضل ما تتوفر عليه من موارد طبيعية هائلة، تستطيع، نظريا، أن تحقق تنميتها الشاملة، غير أن ذلك ليس ممكنا، عمليًّا، لأن الدول الإفريقية لا تتوفر على رؤوس الأموال ولا على التكنولوجيا اللازمة لاستثمارها، خاصة في ظل النزعة العالمية نحو تقليص الاستثمار في الطاقات الأحفورية بسبب مشكلة التغير المناخي.

أن إفريقيا تشعر بالغبن، حيث يراد حرمانها من استغلال ثرواتها من الطاقات الأحفورية بدعوى المساهمة في تقليص الانبعاثات الكربونية التي ترجع المسؤولية عنها وعن التغير المناخي عموما إلى الولايات المتحدة والدول الغربية التي لطالما استغلت هذه الطاقات استغلالا مفرطا.

في مقابل ذلك، نلاحظ أن ثلثي الأسر في إفريقيا ما تزال محرومة من الكهرباء، ولذلك فإن تطوير انتاج الكهرباء وامداداته سيشكل أحد أكبر التحديات لعدد كبير من البلدان الإفريقية خلال العقود القادمة، (وقد يكون الحل حسب الخبراء في إقامة شبكات صغيرة ولا مركزية لإنتاج الكهرباء وتوزيعه محليا).

أنّ إفريقيا ستكون مضطرة بسبب التضييقات المسلَّطة عليها فيما يتعلق باستغلال ثرواتها من الطاقات الأحفورية، إلى الانخراط، كرها لا طوعا، في التوجه العالمي نحو التحول الطاقي والبيئي للمساهمة في مكافحة الاحتباس الحراري وتأثيراته التي تهدد الكرة الأرضية.

أن إفريقيا ستكون مدعوة بإلحاح إلى العمل، من هنا فصاعدا، على انتاج أنواع مختلفة  من الطاقات المتجدّدة على غرار  الطاقة الكهروضوئية photovoltaïque والطاقة الحرارية thermique، وطاقة الرياح éolienne، والطاقة الكهرومائية hydroélectrique وغيرها.

أن إفريقيا لحسن الحظ تتوفر على الظروف الطبيعية الملائمة لإنتاج كميات غير محدودة من الطاقة الشمسية، لأن أشعة الشمس متوفرة فيها على امتداد السنة (على عكس أوروبا التي تواجه مشاكل بسبب الغيوم)، ومن طاقة الرياح لأن الكثافة السكانية ليست عالية (43 نسمة لكل كلم مربع أي أقل من ثلاث الى أربع مرات معدل الكثافة السكانية في اوروبا)، وكذلك من الطاقة الكهرومائية التي لا تنتج منها حاليا سوى 4 بالمائة مما تستطيع انتاجه ببناء السدود الكبيرة على ما فيها من أنهار، ولتخزين مياه الأمطار.

أن إفريقيا التي تستطيع بفضل الطاقة الشمسية وحدها تأمين استقلالها وسيادتها الطاقِيَّيْنِ، تبقى بحاجة إلى تمويلات طائلة لتطوير انتاجها من هذه الطاقات، وهي لذلك مدعوة إلى مواصلة العمل والضغط في القمم العالمية للمناخ من أجل تفعيل "صندوق الخسائر والأضرار" وذلك على غرار ما قامت به خاصة في القمة 27 المنعقدة بشرم الشيخ بمصر، والقمة 28 المنعقدة بدبي بالإمارات.

وهكذا فإن الوقوف في وجه الدول المصنّعة المسؤولة عن الاحتباس الحراري يشكل معركة ينبغي خوضها بكل ثبات وصبر وطول نفس حتى تتحمل هذه الدول وزر استغلالها الفاحش للطاقات الأحفورية على امتداد عقود طويلة من الزمن.

3/ تحدي تغيّر المناخ

رغم أن القارة الإفريقية لا تساهم إلا بنسبة ضئيلة في الاحترار العالمي (3.8 بالمائة مقابل نحو 23 بالمائة بالنسبة إلى الصين و19 بالمائة بالنسبة الى الولايات المتحدة)، فإن التغير المناخي يضعها أمام جملة من المخاطر التي تهدد اقتصاداتها واستثماراتها في البنى التحتية وأنظمة المياه والغذاء والصحة العامة والزراعة وسبل العيش، بصفة عامة.

ودون الدخول في تفاصيل هذه المخاطر، فإننا نشير إلى أن تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة تؤكد أن التغير المناخي سيؤدي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول الإفريقية وإلى التقليص في ميزانياتها الوطنية بنسب تتراوح بين 2 و9 بالمائة وهو ما سيؤدّي بدوره إلى تفاقم نسب الفقر، وسوء التغذية، ويدفع إلى المزيد من النزوح والهجرة، ويؤجج الصراعات على الموارد المتضائلة، ويضاعف من هشاشة المجتمعات.

وسيكون القطاع الزراعي وهو الذي يشكل الحصة الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي أكثر القطاعات تأثرا بالتغيّر المناخي لا سيما وأن الزراعة في إفريقيا جنوب الصحراء تعتمد بنسبة كبيرة على مياه الأمطار، حتى أنها تمثل 95 بالمائة من الزراعة البَعْلِيَّة في العالم.

ثم إن ارتفاع درجات الحرارة، والأحداث الجوية المتطرفة مثل السيول والفيضانات، وهي أحداث تزداد شدتها وتواترها ستكون عاملا آخر من العوامل التي يمكن أن تؤثر بشكل كبير في إنتاج المحاصيل، إذ أنها قد تدمرها وتدمر البنى التحتية التي تكتسي أهمية بالغة بالنسبة إلى القطاع الزراعي.

4/ تحدي المديونية المفرطة 

تعاني أغلب الدول الإفريقية، وإن بنسب متفاوتة، من تراكم الديون الخارجية عليها، وهو ما يؤثر بشكل كبير على اقتصاداتها ومساراتها التنموية.

وقد بات عبء الديون أكبر من قدرة العديد من الدول الإفريقية على السداد، مما يستوجب العمل على إيجاد حل ما لهذه الإشكالية. 

ويقدر البنك الإفريقي للتنمية إجمالي الديون الخارجية لإفريقيا في نهاية سنة 2023 بـ1152 مليار دولار بعد أن كانت سنة 2022 في حدود 1.120 مليار دولار. ومن المنتظر أن تسدّد إفريقيا خلال السنة الجارية 163 مليار دولار لخدمة الديون، وهو ما يشكل زيادة حادة بالمقارنة مع الـ61 مليار دولار التي كانت سددتها سنة 2010.

ومن أسباب ارتفاع حجم مديونية الدول الإفريقية ارتفاع أسعار الفائدة العالمية إلى أعلى مستوياتها منذ 40 سنة، هذا إلى جانب أن الدول الإفريقية مرغمة، عند الوصول إلى أسواق رأس المال، على دفع ما يسمى بـ"علاوة إفريقيا" التي تم فرضها عليها بدعوى ما تسميه مؤسسات التصنيف العالمية مخاطر التخلف عن السداد في القارة الإفريقية، وذلك بالرغم من أن البيانات تظهر أن معدلات التخلف عن السداد في إفريقيا أقل من المعدلات المسجلة في مناطق أخرى من العالم.

وقد بات من الملحّ في ظل هذا الوضع التعجيل بإيجاد حل لديون الدول الإفريقية، وذلك حسب حالات كل دولة إما بإلغائها كليا أو جزئيا أو بتخفيضها أو بإعادة هيكلتها أو بإعادة رسكلتها في مشاريع تنموية جديدة... على أن الأهم من ذلك كله هو إصلاح النظام المالي العالمي "وذلك بتغيير هيكله وأسلوبه وأدائه من أجل تحقيق عالم أكثر عدلا وإنصافا"، لا سيما وأن العبء المتزايد لخدمة الديون يهدد بتقويض مقومات الاستقرار في العديد من البلدان التي  باتت عاجزة أو شبه عاجزة عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وعن توفير ما تحتاجه مجتمعاتها من خدمات حيوية في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية...

ومن الضروري أيضا في أي إصلاح للنظام المالي العالمي أن يضمن لإفريقيا تمثيلا أفضل في هيئات تمويل التنمية، حتى يتسنى للقارة أن تشارك وأن تبدي رأيها في المناقشات الجارية أو التي ستجري بخصوص الحلول الفعالة والجريئة لمسألة الديون الإفريقية وغيرها من المسائل.

5/ التحدي الأمني أو إشكالية الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة العابرة للحدود

إن إشكالية الإرهاب تهم بصفة خاصة منطقة الساحل الإفريقي وغرب إفريقيا، وهي المنطقة المجاورة للمنطقة المغاربية، مما يعني أنها تتأثر بها وتؤثر فيها.

إن التنظيمات الإرهابية على غرار تنظيم القاعدة في الغرب الإسلامي وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وجدت، بعد أن تم طردها من المشرق العربي، ملاذا في هذه المنطقة المضطربة من جراء الكارثة التي تسببت فيها فرنسا وبريطانيا وحلف شمال الأطلسي بتدخلها المتهور في ليبيا سنة 2011، وما أعقب ذلك من فوضى تسربت إلى بلدان الساحل الإفريقي وخاصة إلى شمال مالي الذي تحول إلى بؤرة تجمع بين الجماعات الإرهابية وعصابات التهريب والجريمة المنظمة... 

وإذا لاحظنا أن بعض بلدان المنطقة فقدت السيطرة على أجزاء من أراضيها، وهو ما ينطبق بالخصوص على منطقة المثلث الحدودي الواقع بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، فإن الخبراء يحذرون من إمكانية خلخلة الحدود الموروثة عن الاستعمار، وحتى من احتمال قيام دولة خلافة جديدة في المنطقة...

وما جرى في السودان الذي تم تقسيمه مرة أولى سنة 2011 بانفصال جنوبه عنه، والذي قد يشهد تقسيما ثانيا في أعقاب الحرب الدائرة فيه منذ أكثر من سنة، ينذر باحتمال بلقنة بعض الدول الإفريقية خاصة في منطقتي الساحل الإفريقي وغرب إفريقيا. (لا بد من أخذ هذا الاحتمال مأخذ الجد خاصة في ظل وجود مشكلة الأزواد، والكازامانس، وما يسمى بغرب توغو، وأمبازونيا، وخطط انفصال عدة ولايات عن نيجيريا أو جمهورية الكونغو الديمقراطية)...

ومما يعقّد الأمر في نظر الخبراء تعاقب الانقلابات في دول المنطقة وسعي هذه الدول الى فك الارتباط مع فرنسا والقوى الغربية والتخلص من هيمنتها عليها مع النزوع نحو تعويضها بروسيا التي ما فتئت تدعم حضورها العسكري والأمني في المنطقة، وبالصين التي ما فتئت بدورها تطور علاقاتها الاقتصادية والتجارية معها.

6/ التحدي الجيو-سياسي والتنافسات الاستراتيجية الجديدة  على إفريقيا

يواجه تطلّع إفريقيا إلى تحقيق ازدهارها الاقتصادي، وتوقها إلى ترسيخ أركان السلم والأمن في مختلف بلدانها ومناطقها العديد من المثبطات الداخلية والخارجية، فبالإضافة إلى العدد الكبير من التحديات التي تعترضها على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية، تشكل وفرة مواردها الطبيعية باعثا على التنافس عليها بين العديد من اللاعبين القدامى والجدد الذين يريد بعضهم الحفاظ على مواقعهم فيها بينما يريد البعض الآخر التموقع فيها من أجل نيل نصيب من "الكعكة الإفريقية" (الصين والهند وروسيا وتركيا...). 

وهذا التنافس ما فتئ يشتدّ ويحتدّ حتى إنه ينذر بحدوث صدامات ومواجهات مباشرة أو بالوكالة بين هؤلاء المتنافسين.

ومع أن القارة الافريقية مرتبطة بأوروبا التي تظل شريكها الأول والأهم في كافة الميادين (التجارة، والاستثمار والمساعدات من أجل التنمية، واستقبال المهاجرين الذين يحولون جزءا هاما من مدخولهم إلى بلدانهم، وتكوين النخب والطلبة والتزويد بالتجهيزات والمعدات العسكرية...)، فإن الإرث التاريخي والانساني المشترك بين الجانبين يظل ثقيلا ويصعب التخلص منه، وهو ما يطرح بإلحاح ضرورة إعادة تأسيس العلاقة بين إفريقيا وأوروبا على قواعد جديدة ومن أجل شراكة متوازنة ومفيدة لكلتيهما. ولعل هذا ما جعل أوروبا تتعهد في 18 فيفري 2022 خلال القمة السادسة للاتحاد الافريقي والاتحاد الأوروبي بتقديم 150 مليار يورو من المساعدات الإنمائية لإفريقيا على مدى سبع سنوات.  

وهذا ما تجلى في الفترة الأخيرة في موقف بلدان الساحل الافريقي من فرنسا. كما تجلى في محاولة روسيا ملء الفراغات التي تركتها فرنسا في المنطقة.

ويبدو من خلال تطور الأوضاع في هذه البلدان أن التوتر في هذه المنطقة المجاورة لمنطقتنا المغاربية مرشَّح للتصعيد، وهو ما سيكون له، إن حصل، تداعيات خطيرة على بلداننا التي ما تزال تعاني من تداعيات الأزمة التي باتت مزمنة في ليبيا.

7/ تحدي النزوح والهجرة

إن ظاهرتي النزوح والهجرة مرشَّحتان للتفاقم مستقبلا نتيجة تضافر عدة عوامل يأتي على رأسها عجز العديد من الدول الإفريقية عن تحقيق التنمية المستدامة الشاملة وهو ما يتسبب في انتشار الفقر والبطالة وعدم الاستقرار وتفشي العنف.

ومن أهم العوامل التي ستتسبب في هذا التفاقم خلال السنوات القادمة تأثيرات تغيّر المناخ وما سينجم عنه من ندرة في المياه وانخفاض في إنتاجية المحاصيل وتدهور في النظام البيئي وارتفاع في مستوى سطح البحر وزيادة في شدة العواصف، مما سيدفع مزيدا من الناس إلى النزوح داخل بلدانهم أو الهجرة إلى خارج حدودها.

وفي هذا الصدد تشير تقارير البنك الدولي إلى أن القارة الإفريقية ستكون الأكثر تضررا من تغيّر المناخ، حيث يتوقع أن ما يصل إلى 86 مليون إفريقي سيهاجرون داخل بلدانهم بحلول سنة 2050، ويمكن أن تظهر النقاط الساخنة للهجرة المناخية في وقت مبكر من عام 2030.

ولا شك أن احتواء هذا الوضع ومحاولة الحيلولة دون استفحاله أمر ضروري وعاجل، ومن المهم أن تنتبه بلادنا والبلدان المغاربية التي ستكون، شاءت ذلك أو أبَتْهُ، معبر المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا، إلى هذا الخطر المحدق والوشيك، وأن تستعد للتعاطي معه بحكمة واتزان.

وقبل الحديث عما يمكن لبلادنا أن تقوم به في مواجهة مجمل التحديات التي ستواجهها القارة الإفريقية والتي يمكن أن تكون لها تداعيات على تونس، أريد أن أنبه إلى مفارقة عجيبة في سردية الدول الغربية حول واقع إفريقيا ومستقبلها.

هذه السردية متناقضة فهي تتحدث باستمرار عن إفريقيا البائسة والتي ستزداد بؤسا في المستقبل، ولكن الدول الغربية تعمل، في نفس الوقت، على التمسك بمواقعها فيها وعلى مقاومة أي منافسة عليها من قبل القوى الاقليمية والدولية الصاعدة...

ومعنى ما تقدم أن علينا أن ننظر إلى إفريقيا بعيوننا لا بعيون الدول الغربية التي تريد أن تنفّر كل من يقترب منها حتى تظل القارة حكرا عليها...

وفي هذا النطاق ينبغي أن نتذكر أن الظروف في بعض البلدان الآسيوية الصاعدة كانت قبل جيل واحد فقط، مماثلةً تقريبا للظروف السائدة في العديد من البلدان الإفريقية اليوم، وأن الخروج من هذه الظروف لا يمكن أن يتحقق إلا باعتماد الدول الإفريقية على ذاتها وبالتحرر من القوى التي هيمنت عليها وحددت ماضيها وذلك حتى تتمكن من تحديد مستقبلها بنفسها وتمسك بمقاليد مصيرها بأيديها...

ثم إننا في تونس مدعوون إلى تجاوز الخطاب الانشائي عن انتمائنا إلى القارة الإفريقية إذ لم يعد كافيا، في نظري، أن يقول السياسي التونسي، أي سياسي تونسي، عندما يُسأل عن أهمية القارة بالنسبة إلينا أن تونس هي التي منحت إفريقيا اسمها...

إن المطلوب الآن وبكل الحاح هو التحرك بعزم راسخ نحو افريقيا ووفقا لاستراتيجية متكاملة العناصر لاستغلال الفرص المتاحة ولبناء شراكات ناجعة ونافعة لنا ولشركائنا الأفارقة.

إن أمام تونس اليوم فرصا عديدة وكبيرة:

ومن هذه الفرص التي يمكن أن تخدم العديد من المصالح المشتركة والمتبادلة مع الدول الإفريقية تطويرُ القطاع الزراعي في القارة الإفريقية التي تجمع الدراسات على أنها تستطيع، نظريا، إذا اهتدت إلى سبيل تنمية قطاعها الزراعي وما يرتبط به من أنشطة متعددة، أن تكون مطمور العالم، وأن تحقق سيادتها الغذائية وأن تتخلص من التبعية الخطيرة التي كشفت عنها الحرب في أوكرانيا.

هذا إلى جانب أن القطاع الزراعي يمكن أن يوفر كما كبيرا من مواطن الشغل للشباب الإفريقي، لأنه لا يقتصر على فلاحة الأرض بل يشمل العديد من المجالات الأخرى كتطوير شبكة الطرقات والتحكم في المياه وتوفير الكهرباء بما يمكن من تطوير عملية تبريد المنتجات والتحكم في مواقيت نقلها إلى مراكز الاستهلاك والحيلولة دون فسادها...

إن إفريقيا بما لها من موارد مائية هامة، وغابات عملاقة، وأراض شاسعة صالحة للزراعة وإمكانيات ري وافرة، ومئات الملايين من السواعد الفتية، وما تختص به من إمكانية انتاج محصولين سنويا بفضل موقعها على خط الاستواء، يجب أن تكون مكتفية ذاتيا من الفواكه والخضراوات والحبوب وألا تعتمد على دولة أوروبية صغيرة مثل أوكرانيا في التزود باحتياجاتها من الحبوب، وتونس بما راكمته من خبرات عبر عشرات القرون في المجال الزراعي تستطيع أن تستفيد أيما استفادة من المشاريع الزراعية التي سيتم إطلاقها من قبل الدول الافريقية.

وهنا تجب الإشارة إلى أن أشغال "المنتدى الاقتصادي تونس/ النيجر للتنمية"، الذي شارك فيه حوالي 35 فاعل اقتصادي تونسي وفي حدود 400 من نظرائهم من النيجريين، أسفر فيما أسفر عنه من نتائج عن اتفاق مبدئي بين الجانبين على تمكين الجانب التونسي من قطعة أرض بـ20 هكتارا ستتوزع على الفاعلين التونسيين من أصحاب الصناعات، وقطع أرض لفائدة الباعثين العقاريين التونسيين لبناء 500 مسكن في مرحلة أولى.

ومن القطاعات الصناعية التي ستستفيد من قطعة الأرض المخصصة للجانب التونسي صناعة التجهيزات المائية والطاقات البديلة والطاقات المتجددة، إضافة إلى الصناعات الغذائية وقطاع البناء والأشغال العامة... كل ذلك الى جانب اتفاقات في قطاعي الصحة والتعليم في طريقها إلى التنفيذ، ويتعلق الامر بإحداث مراكز تشخيص في مرحلة أولى ثم إنشاء مصحات في مرحلة لاحقة.

إن لتونس منذ السنوات الأولى لاستقلالها تجربة رائدة في مد الدول الإفريقية بالخبرات التونسية في العديد من المجالات، وفي احتضان الالاف من الطلبة الافارقة في جامعاتها ومدارسها العليا.

وسيكون من الوجيه أن تعزز تونس هذه التجربة وان توسع نطاقها لتشمل المجالات المستجدة بما يمكنها من المساهمة في التحولات الثلاثة التي يشهدها العالم اليوم وهي التحول البيئي والتحول الطاقي والتحول الرقمي.

وفي هذا الإطار سيفتح اتجاه إفريقيا نحو إنتاج الطاقات المتجددة، وخاصة منها الطاقة الشمسية آفاقا واسعة أمام بلادنا التي ستتعزز خبرتها في إنتاج هذا النوع من الطاقة والتصرف فيها من خلال المشاريع التي شرع في إنجازها بالتعاون مع الجانب الأوروبي...

ومن المهم هنا أن نشير إلى أن تطبيق القرارات المنبثقة عن القمم العالمية للمناخ وخاصة ما يتعلق منها بمساعدة البلدان النامية على تحقيق تحولها الطاقي من خلال التمويل ونقل التكنولوجيا سيفسح أمام الخبرات والشركات التونسية مجالا واسعا للمساهمة في انجاز بعض مشاريع الدول الإفريقية، لا سيما وأن الشركة التونسية الدولية للكهرباء والغاز اكتسبت من خلال تعاونها مع بعض الدول الإفريقية خبرة باحتياجات هذه الدول وبكيفية التعامل معها.

ومن الفرص الهامة بالنسبة إلى تونس التي عملت مبكرا على التحكم في نموها الديمغرافي أن تنخرط في الجهود التي ستبذلها العديد من دول القارة من أجل تنظيم نموها السكاني  حتى تتلافى استفحال اختلال توازنها الديمغرافي.

إن التخفيض في معدل النمو السكاني الذي يقدر حاليا بـ2.7 بالمائة ٪ سنويا، من شأنه أن يحدث تحولا ديمغرافيا في إفريقيا يساعد على الحد من ارتفاع عدد سكانها الذي كان 283 مليون سنة 1960، وارتفع إلى 1.34 مليار سنة 2020 ويمكن أن يتضاعف أكثر بحلول سنة 2050، وهذا التحول الديمغرافي من شأنه أن يساعد على التخفيض من نسبة الفقر الجماعي، والهجرة، وانعدام الأمن، والصراعات بين الرعاة والمزارعين، وانفجار نفقات الصحة والتعليم، واستنفاذ الأراضي، واختفاء الغابات وزحف التصحر.

إن ظهر إفريقيا ينحني تحت وطأة نمو احتياجاتها، وسيكون من مصلحتها التحكم في نموها السكاني من خلال تنظيم الأسرة، والمباعدة بين الولادات، وتوعية النساء وغيرها من الإجراءات...

والى ذلك وعلى الصعيد السياسي ينبغي لتونس التي تغار على سيادتها واستقلالية قرارها أن تدعم وان تستفيد من التوجه نحو تعزيز استقلالية القارة وبلدانها.

إن هذا مطلب مشترك تونسي إفريقي سيكون من المهم العمل على تحقيقه بالتعاون مع بقية البلدان الإفريقية التواقة هي أيضا إلى تعزيز مقومات سيادتها واستقلالها.

ونفس الشيء ينطبق على الصعيد الاقتصادي حيث أن مطلب إصلاح النظام الاقتصادي والمالي العالمي المجحف مطلب مشترك ومن الضروري كما يقول الاقتصادي والأستاذ الجامعي جيفري ساكس أن "تعمل إفريقيا، رغم كل الصعاب، ككيان واحد" من أجل تلبيته.

وخلاصة القول في الختام هي أن تونس مدعوة اليوم الى تعزيز حضورها الفاعل على الساحة الإفريقية بالانطلاق من مقاربة مدروسة وواعية وتقوم على الأركان الثلاثة التالية:

تدعيم الحضور الدبلوماسي التونسي في إفريقيا جنوب الصحراء، وتوطيد العلاقات الثنائية مع مختلف دولها.

تعزيز التعاون متعدد الأطراف من خلال المشاركة في المنظمات والهيئات الإفريقية المختلفة، مع السهر على تفعيل عضوية تونس في المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا (CEDEAO) والسوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (COMESA) ومنطقة التبادل الحر القارية الإفريقية (ZLECAF).

السهر على تنسيق تحركات مختلف الهياكل التونسية العاملة في الخارج وفي إفريقيا بالذات (مركز النهوض بالصادرات، والخطوط الجوية التونسية، والوكالة التونسية للتعاون الفني والديوان الوطني للسياحة والوكالة التونسية للاستثمار الفلاحي والشركة التونسية الدولية للكهرباء والغاز، والشركة الوطنية الدولية لاستغلال وتوزيع المياه).

محمد ابراهيم الحصايري
تونس في 23/05/2024
 

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.