الأستاذ نبيل قلالة يقدم في صفاقس كتابه من "التراث المتقاسم إلى اليقظة الثقافية"
بقلم الدكتور رضا القلال
1- الأستاذ نبيل قلالة، باحث أكاديمي وكاتب ودبلوماسي ومفكر
عشية السبت سعدنا برؤية الأستاذ نبيل قلالة والاستماع إليه، بقاعة الكاتب والفيلسوف ألبار كامي (1913-1960) بالمعهد الفرنسي بصفاقس. والمناسبة، حفل تقديم وتوقيع كتابه: "من التراث المشترك إلى الصحوة الثقافية". دار فرنسا أول مؤسسة ثقافية تستضيف هذه القامة العلمية بعد مؤسسات جامعية وجمعيات في جهات من الوطن...
الأستاذ نبيل قلالة الأستاذ الجامعي، مدير المدرسة التونسية للتاريخ والأنثروبولوجيان، مدير عام المعهد الوطني للتراث وممثل تونس في باليونسكو سابقا.
الكتاب اشتمل على 170 صفحة من الحجم الكبير، وضم في متنه 10 مقالات كتبت بين سنتي 2019/2012 في لغة علمية متدفقة ورصينة، قدم الكتاب البروفسور امحمد حسين فنطر، الأستاذ المتميز في التاريخ القديم. إذا كان عنوان الكتاب عتبة للنص الداخلي، فقد وضع المؤلف في صفحة الغلاف الأول صورة لميناء قرطاج، وفي صفحة الغلاف الأخيرة صورة حديثة لما آل إليه تراث قرطاج من 'تاريخ ثقيل وجارح" بتوسّع النسيج المعماري على لأراضي الاثرية. وهو وصف لا يحتاج إلى تعليق أو إضاقة، -كما يقول- ولازال هذا التراث إلى اليوم يجد نفسه وسط رياح عاتية. قدم الضيف الأستاذ الجامعي سفيان السويسي، المهندس المعماري بتفقدية التراث للجنوب الشرقي. وافتتح هذا الحفل المزدوج للتقديم والتوقيع ادريان قيو Adrien Guillot المدير المفوض للمعهد الفرنسي بصفاقس.
ألف الأستاذ نبيل قلالة حشدا من الكتب، أدرج منها 17كتابا ومقالة وفعاليات ندوات وملتقيات في ببليوغرافيا هذا الكتاب. تضخّ هذه الأعمال بالأسئلة والمقترحات، وقد صنعت لكاتبها إسما أكاديميا مهيبا، وحضورا وسط النخب المثقفة، وهو ما زاده شغفا في حب أعماله البحثية والميدانية.
2- زخم تراثي تاريخي: تونس تختزن ما بين 40/30 ألف موقع تراثي ومعلم
على مدى ساعتين من الزمن بين تقديم الكتاب، والمحاورات لم يسبق لي أن أخذت مثل ذلك الكم الهائل من المعلومات والمعارف في التراث والتاريخ والثقافة والاركيولوجيا في زمن واحد. الأستاذ نبيل قلالة الباحث والأكاديمي والكاتب والدبلوماسي والمفكر، أتي لصفاقس لأوّل مرة. والجميع يعرف حجم إشكاليات الوضع التراثي الذي نعيشه، في المدينة العتيقة وباب بحر والجهات الداخلية، وخاصة ما يتعلق بتسجيل صفاقس في قائمة التراث العالمي باليونسكو. والجميع يعلم أيضا أن هذا الملف لا يزال في السكون والثبات منذ 13 سنة، واحتمالات خسارته. وهو ما يعمق المساحة القلقة!
طرح مؤلف الكتاب موضوعات ذات وزن ثقيل، متعلقة "بتيه وضياع المسألة التراثية"، بين مؤسسات وزارة الشِؤون الثقافية وهي المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، والإدارة العامة للتراث في صلب الوزارة، وذلك بسبب غياب التنسيق أو استحالته، والتداخل في المهام والصلاحيات. وقدم تاريخا "ثقيلا" عن الوضع التراثي الذي يعيش التخوم والهامش في كل الجهات، مدعوما بصورة الغلاف الأول والغلاف الرابع للكتاب، وبمسح تاريخي ومراجعة رصينة. ولم يغفل المؤلف أبدا عن تقديم جملة من المقترحات من نحو فتح حوار واسع -لم يعرفه في حياته- عن معوّقات صيانة التراث وتحويله الى قاعدة للترقي الاجتماعي والديناميكية الاقتصادية، إعادة النظر في مجلة التراث، إحداث كتابة دولة للتراث لتوحيد استراتيجية المؤسسات الثقافية، أو تغيير اسم الوزارة إلى وزارة الأملاك الثقافية على غرار إيطاليا...
3- 1000 متحف بكل من فرنسا وإسبانيا، مقابل 26 متحفا بتونس
ومن الحقائق التي لا يمكن حجبها عن العيان أن تونس تختزن ما بين 40/30 ألف موقع تراثي ومعلم. "à on fouille on trouve de la mosaïque". في إشارة لما تزخر به تونس من كنوز الآثار والمعالم. ولم ينكر تحقيق عديد النجاحات، ولكن النتائج مازالت ضعيفة. فرنسا تصرف في هذا المجال أورو واحد، وتربح منها 70 أورو! وأن حجم الباحثين تقلص في المعهد الوطني للتراث من 57 مهندس إلى 37 فقط وهو في حد ذاته رقم منخفض جدا، وعدد المهندسين المعماريين 14. وبتونس 6 تفقديات جهوية للتراث، وصفاقس على سبيل المثال تشرف على صفاقس وقابس ومدنين وتطاوين، ولا تملك إلا سيارة واحدة، وعندما تحتاج إلى قلم جاف يجب المرور عبر تونس، ولم أتحدث عن الحاجة دائما إلى أدوات العمل ولوازمه والعمال، كما يصعب مراقبة الرخص المستندة من التراث نظرا لقلة الإمكانات البشرية واللوجستية..... ولسيطرة هذا المشاكل على الحياة اليومية-كما يذكر-. كما لدينا 26 متحفا، 5 منه مغلق أو بحالة ترميم، في حين نجد 1000 متحف بكل من فرنسا وأسبانيا.
هذا الكلام للأستاذ نبيل قلالة فيه الكثير مما يستحق الرصد وجدير بالتأمل. وقد قوبل كتابه بقراءات عديدة ورسائل مختلفة. وقد شاركت في هذا الحوار الأستاذة هادية عبد الكافي التي عينت مؤخرا على رأس برج القلال، والحكيم وسيم السلامي رئيس جمعية أبواب، ود. التوفيق مقديش، الخبير في الجغرافيا الحضرية، وفتحي بلعيد أستاذ التاريخ والمرشد السياحي، وعايدة الزحاف، وغيرهم ....
4- د. ناصر البقلوطي "يستحيل تحويل هذا المعلم التاريخي إلى مُتحف
الحقيقة انتعش الحضور بأمل متجدّد من خلال تعقيب الباحث والخبير د. ناصر البقلوطي، الذي أشار إلى امكانية بعث ديوان وطني للتراث. واحترز على مصطلح "التراث المشترك" الذي يحيل إلى تعريف لليونسكو يرتبط بتراث قرن العشرين في حوض البحر الأبيض المتوسط. وردا على سؤال يتكرر بخصوص تحويل مبنى شركة صفاقس-قفصة إلى مُتحف، أجاب بأنه "يستحيل تحويل هذا المعلم التاريخي إلى متحف". ود. ناصر البقلوطي أستاذ جامعي في مادة الميزيوغرافيا (علم المتاحف)، ومؤسس لبعض المتاحف، وكان مسؤولا عن متاحف صفاقس والجنوب.
وأقترح من ناحيتي ترجمة عنوان كتاب البروفسور نبيل قلالة على النحو التالي" من التراث المتقاسم إلى اليقظة الثقافية" (المتقاسم) لفك الارتباط بتعريف اليونسكو، وهو في شرحه يشير لهذا المعنى العمودي والافقي بين الوزارة والمؤسسات والمجتمع المدني وكل الناس، و(اليقظة)، لأن الصحوة في اللغة العربية، تُستخدم بمعناها الحرفي (الاستيقاظ من النوم أو ذهاب السّكر) أو بمعناها المجازي (الصحوة الروحية أو الإسلامية التي تشير إلى العودة إلى الالتزام الديني) ولا علاقة لنا بذلك. وعندما عرض عليه النص، أضاف الأستاذ نبيل قلالة ما يلي: "في الحقيقة، تتالت منذ العشرية الأولى من هذا القرن وحتى منذ أواخر القرن السابق محاولات الاصلاح وهي عديدة. اما على مستوى الدولة والوزارة بعضها بالتعاون مع البنك العالمي أو على مستوى المعهد الوطني للتراث أو الوكالة الوطنية لإحياء التراث والتنمية الثقافية، ولكنها لم تأت بنتيجة كلها إلا أخيرا شرعت الوزارة والحمد لله في التحضير لتأسيس ديوان يجمع بين المعهد والوكالة وهو مقترح كنا قد تقدمنا به. تبدو الأمور جدية واعتقد أن توصلنا إلى إنجازه سيسمح بتجاوز الكثير من الصعوبات المالية والبشرية واللوجستية وخاصة التسييرية، وهو أملنا جميعا. على أن أساس الإرتقاء بقطاع التراث يبقى للمواطن ومدى انصهاره في حمايته وفي تثمينه وفي اعتباره بحق عنصرا أساسيا، ليس فقط في تحديد هويته وتعميقها، بل أيضا في جعله عامل تنمية على المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. وهذا مفهوم التراث المشترك الذي قصدته وبلورته في كتابي".
على سبيل الخاتمة
لم أتوقع أن يمتد هذا المقال إلى هذا الحد، لأنه يمكن أن يأخذ صفحات أخرى.
والسؤال يولّد السؤال: هذا الزخم التراثي والتاريخي كيف يمكن تفعيله؟ هذا الكم التراثي الحضاري هل قدمناه "هل بسّطناه" لشريحة الأطفال وفئة الشباب؟ هل يذهب التونسي الى المتاحف والمواقع الاثرية؟ هل آن الأوان للتفكير في آليات أكثر جاذبية وديناميكية لأجيال من التلاميذ والطلبة الذين "يكرهون" التاريخ، أو على الأقل لا يعتبرونه مهما مثل التراث والثقاة؟ أليس مهما أن نبتعد على الجانب الفولكلوري كلما تحدثنا عن التراث؟ ...
لقد غمرنا الأستاذ نبيل قلالة بشلال من الحقائق والمعارف، وهو الذي يتمتع بموهبة في تضفير التاريخ والأركيولوجيا والأنثروبولوجيا والتراث والثقافة. ولا شك أن منجزه العلمي والنقدي ينبع من قلق الفكر وصخب السؤال وبصيرة العقل الباحث. وتساءل الحاضرون عن غياب الأطراف المعنية بالتراث في صفاقس، وما أكثر هذه الجمعيات في الأيام العادية! وكانت فرصة لسد فراغها المعرفي بالتراث، فقد فكّك الأستاذ الضيف خيطا زمنيا طوله عدة قرون، من قرطاج إلى اليوم.
هذا الكتاب في نهاية المطاف، واستنادا إلى الحكمة التي تقول عندما تعالج مشكلا، وهنا مسألة التراث، لا تبحث عن مذنب، إنما ابحث عن حل، وفي ذهنية المدارس التحضيرية بفرنسا، كما أسرّت لي بذلك المهندسة شيراز المنيف خريجة المدارس الفرنسية العليا "ليست هناك مشاكل، لأنه دائما هناك حل" بمعنى يجب قلب المعادلة الذهنية، حتى لا نهدر وقتنا في الحديث عن المشاكل بدل البحث عن الحل. وهذا الكتاب للأستاذ نبيل قلالة يدعو إلى تعميق التفكير في المسألة التراثية، وإعادة ابتكارها. وما أجمل مثل هذه الأفكار!
الدكتور رضا القلال
- اكتب تعليق
- تعليق