مذكرات الأستاذ العميد الأزهر القروي الشابي: نسيج الذكريات وخفايا القضاء والمحاماة والسياسة (ألبوم صور)
تختزل مذكرات الأستاذ العميد الأزهر القروي الشابي لا فقط حوالي 60 سنة من ممارسة المحاماة في صدارة المواقع، وإنما أيضا صورا ناطقة عن روعة الطبيعة في الجريد عامة وموطن أبي القاسم الشابي تحديدا، والحياة اليومية بقرية الشابية مسقط رأسه، ومدينة توزر، ثم الدراسة بجامع الزيتونة، قبل الدخول للعمل بمحكمة الدريبة (1954)، والترسيم بجدول المحاماة (1956)، وتولّى عمادة المحاماة، ووزارة العدل سنة 2011 وغيرها.
وتتناغم هذه السردية التي تضمّنها كتابه تحت عنوان "نسيج الذكريات"، الصادر حديثا عن دار نقوش عربية، على وقع شهادات تاريخية هامة، سواء بالنسبة لانخراط المؤلف ضمن العمل السياسي منذ شبابه، وانضمامه إلى الأمانة العامة للحزب الدستوري بقيادة الزعيم صالح بن يوسف، وما تسبّب له ذلك من محن واعتقالات وتعذيب، كما تقترن بمحاولات تدجين القضاء واخضاعه للسلطة، فيما استمات المحامون في الدفاع عن ترسيخ العدالة واستقلالية مهنتهم وعمادتهم.
قضية مخدرات ضد أميرين زمن الأمين باي
وبقدر ما توفّق الأستاذ الأزهر القروي الشابي، بأسلوبه الرائع، في وصف نشأته وبيئته وأسرته التي أثرت القضاء بقامات شامخة، بقدر ما شدّ القارئ بما تناوله من ذكريات خلال مباشرة أول عمل له، كاتبا لدى حاكم التحقيق، سواء القاضي الفاضل الناجم الورتتاني أو خلفه، القاضي الفاضل رضا بن علي، الذي أصبح فيما بعد وزيرا للعدل. وقد ذكر بالخصوص قضية أراضي مقبرة القرجاني قرب العاصمة وقضية المخدرات التي تورط فيها الأميران صالح ورضا باي، وغيرهما من القضايا الهامة.
وتقاطعت مسيرة الأستاذ الأزهر القروي الشابي مع رافدين هاميّن، متفاعلين، أولهما: المحاكمات السياسية الكبرى، وثانيهما النضالات التي خاضها المحامون في سبيل استقلالية المهنة وهكذا يواكب القارئ قضايا العميد الشاذلي الخلادي، وعزوز الرباعي، ومجموعة آفاق، والبعثيين، والليبيين المتهمين بمحاولة اغتيال الهادي نويرة، والحبيب عاشور، ومحاولة اقتحام مدينة قفصة، ومختار مزالي وغيرها من أشهر المحاكمات.
نضالات المحامين
ويستعرض المؤلف ما شهدته عمادة المحامين من محاولات السيطرة عليها من قبل النظام القائم آنذاك والزج بالعميد الشاذلي الخلادي في السجن وحل الهيئة الوطنية للمحامين وتعيين لجنة برئاسة الأستاذ عبد الرحمان عبد النبي، ثم فوز الأستاذ توفيق بن الشيخ بعمادة ثانية (1971-1973) إثر انتخابات حرة، مستقلة، وتلاه الأستاذ محمد بللونة (1973-1975) وإثره الأستاذ فتحي زهير (1975-1979)، ويتوقف المؤلف عند انتخابه في جويلية 1979 عميدا للمحامين امتدت عهدتين إلى غاية سنة 1889، قبل أن يسلم المشعل إلى الأستاذ منصور الشفّي.
مواقف حرجة
ولعل من أهمّ ما جاء في هذا الباب، ما تناوله الأستاذ العميد الأزهر القروي الشابي من خفايا المحاكمات السياسية وكواليس التتبعات القضائية وسير الأبحاث والجلسات وما قد ينتابها أحيانا من إخلالات ومشادات وذكر العديد من المواقف الحرجة وبعضها الطريفة، وكيف توفَق إلى تجاوز الخلافات، في حرص على هيبة القضاء من جهة، وهيبة المحاماة من جهة أخرى، مثلما حدث لبعض زملائه مع عدد من ممثلي النيابة العمومية ورؤساء المحاكم.
كيف أصبح وزيرا للعدل
ويواصل المؤلف نسج ذكرياته، ليصل بالقارئ إلى يوم 14 جانفي 2011 وكيف ألحّ عليه الوزير الأول محمد الغنوشي لتقلد مهام وزير العدل، والحالة التي وجد عليها الوزارة والاحتقان الكبير الذي واجهه، وكشف بالخصوص عن فحوى اجتماعه بجمعية القضاة وتلبية طلباتهم ومحاولة عدد من أعوان السجون اقتحام مكتبه تمّ اعتذارهم عن ذلك، وحقيقة إعداد مرسوم العفو التشريعي العام وما حفّ به من ملابسات بخصوص استثناء الذين حملوا السلاح في وجه الدولة التونسية.
نداء تونس ثم قصر قرطاج
ويصل المؤلف إلى المراحل الأخيرة من مسيرته السياسية عندما دعاه الأستاذ الباجي قايد السبسي زميله في المحاماة وصديقه منذ عهد طويل للانضمام ضمن المؤسسين إلى حركة نداء تونس، ثم كيف عيّنه. غداة انتخابه رئيسا للجمهورية، وزيرا مستشارا ممثلا شخصيا له، وباشر المهمة من الغد إذ رافق رئيس الدولة يوم 3 فيفري 2015 في زيارته الرسمية إلى الجزائر.
ويزخر هذا الباب بالمعطيات الهامة حول تكوين حكومة الحبيب الصيد ثم إطلاق حوار قرطاج وتعيين يوسف الشاهد الذي تنكّر فيما بعد للرئيس الباجي قايد السبسي، وعديد المحطات البارزة، إلى حد وفاة الرئيس، واستقالة الأستاذ العميد الأزهر القروي الشابي من مهامه بقصر قرطاج.
فنون يحذقها
كتاب شيّق رائع، يطالعه القارئ بكل شغف، ليتعرف على عديد الشخصيات الهامّة منها بالخصوص مصطفى الكعاك والطيب الميلادي والشاذلي الخلادي ومحمد الفيتوري ومحمد الأمين الشابي وعبد العزيز الشابي وصالح بن يوسف ومحمد شقرون وكذلك عدد من كبار القضاة، كما يكتشف القارئ تنظيم القضاء التونسي وتطور مهنة المحاماة ويعيش أجواء المحاكمات.
كل محطة من مسيرة الأستاذ العميد الأزهر القروي الشابي انسابت في هذا الكتاب بروح شاعرية رومانسية، أحيانا، وبنبرة حقوقية أحيانا أخرى، وبلهجة سياسية، كلّما استوجب الأمر ذلك، وبأسلوب بديع في كل الأسطر، ويشهد كل من يعرف المؤلف عن كثب، أنه يحذق كل هذه الفنون مجتمعة لديه حذقا كبيرا، وأنه بقي دوما رجل وفاق لا يساوم في المبادئ بقدر ما يسعى إلى التأليف بين القلوب، معتزّا دوما بقيمه الأصيلة وبمهنته النبيلة.
نسيج الذكريات
للأستاذ العميد الأزهر القروي الشابي
منشورات دار نقوش عربية، 2023، 340 صفحة، 38د
- اكتب تعليق
- تعليق