تونس: اللاَّعبون بالنار ليسوا وحدهم من سيكتوون بلهيبها !!
خديجة توفيق معلى - لاحديث في تونس، هذه الأيام، إلا عما حصل أمام وفي مقر فرع اتحاد علماء المسلمين ! ومرة أخرى تهب على البلاد ريحٌ سَمومٌ في عز البرد. إحتقانٌ سياسي متعدد الإتجاهات هو أقرب إلى التدافع السياسي منه إلى الجدل وبسط وجهات النظر، وإن كانت مختلفة، بحثا عن حل جذري، أو حتى وسطي، يسترد به الشعب أنفاسه بعد أن ضاع صوابه في اللهاث وراء التصريحات والتصريحات المضادة والوعود المستمرة لإطلاق المشاريع وإصلاح الحال، دون التقدم خطوة واحدة في اتجاه بَرّالأمان والنجاة من كارثةٍ أو كوارث على الأبواب.
ففي خضم هذه الدوّامة الرهيبة، وبالتوازي معها، وفي الوقت الذي كان فيه الشعب يسترجع، بزهوٍ وافتخار، ذكرى ملحمة بنقردان علّها تنسيه مكر السياسيين وما سببوه له من مصائب، تفاجئنا الأخبار باستشهاد يافعيْن في شعاب جبل السلوم بانفجار لغم ارضي كان زرعه رهط من نفس فصيلة إرهابيي العدوان على أرض الوطن في بنقردان منذ خمس سنوات.
إنهم مازالوا يتربصون بالبلد شرا من جحورهم في جبال الوطن التي مارزالت شاهدة على تضحيات مناضلين وطنيين صادقين اتخذوها منذ سبعين سنة خلت ملجأ بين كل هجمة وأخرى على قوات الإستعمار والمستوطنين. ولعلها، تلك الجبال، لاتكف صباحا مساء عن لعنة الزمن كيف انقلب فيه الحال وأصبح أبناءٌ من الوطن يزرعون الموت على أرضه تحصد أرواح أطفاله، ويغيرون على جنوده وقواته الأمنية وينصبون لهم الكمائن لتفجيرهم أو لذبحهم وحتى قطع رؤوس من ينحازون للوطن ويجاهرون بالوقوف في وجوه الإرهابيين.
لقد شكلت ملحمة بنقردان درسا بليغا لصناع الإرهاب الرئيسيين بمختلف الأدوات الجهنمية، من الدعم السياسي بالتبشير بالخلافة السادسة وتشويه القوى المنادية بالدولة المدنية، وبغسل أدمغة الشباب في المساجد، وبالتشجيع على "التدافع الاجتماعي"، تلك الترجمة الأمينة لمصطلح "الفوضى الخلاقة" الذي كانت أطلقته في العام 2005 وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليسا رايس، عندما "بشّر" رئيسها جورج والكر بوش بمشروعه الذي أسماه "الشرق الأوسط الكبير" الملتحف باطلا بالدعوة إلى توخي الديمقراطية منهاجا للحكم، وتعديل المنظومات التعليمية في هذا الإتجاه... وقد سار على دربه بعده، الرئيس أوباما باختياره الإسلام السياسي وزعمائه الأداةَ الطيعة لأمريكا لتطبيق هذا المشروع بتعديلات تراوح بين النعومة والعنف.
وقد كان أوكل للمخابرات الأمريكية ولذراعٍ منها تم إنشأوه للغرض، وأُطلق عليه من الأسماء "بيت الحرية، فريدم هاوس" مهمة التأطير من خلال دورات تكوينية لكوادر الأحزاب رافعة يافطة الإسلام السياسي ومشاريع الحزيبات المتحالفة معها، لتهيئتها لاعتلاء سدة الحكم عندما يحين الوقت المناسب.
غير إن غباء أو مكر قادة تلك الجماعات وعطشهم للسلطة جعلهم يستخفون بتاريخ شعوبهم وبطيبتها حين صدقت إدعاءهم بأنهم إنما جاؤوا لإحلال العدل بين الناس ورفع المظالم عنهم وتحقيق الرخاء والإزدهار لبلدانهم.
ولم يمض وقت طويل، حتى أفاقت الشعوب المكتوية بنيران مخططاتهم الجهنمية، على ما أتوه من خراب ودمار في العقول قبل الحجر. وقد كان مصاصو الدماء أولئك كلما لقوا من أي شعب مقاومة ورفضا لمشروعهم التدميري ذاك ازدادوا تنكيلا به، ببث الفتنة في صفوفه وتوسيع دائرة الفقر بين فئاته ومناطقه للتمكن من إذلاله بهدف إجباره على السير في ركابهم. وهو ما أتوه في تونس في بحر السنوات العشر المُرة المنقضية.
فحتى درس بنقردان البليغ لم يستوعبوه !! فلم يقلعوا عن إستبلاه الشعب ولم يراجعوا سياساتهم الحمقاء السائرة عكس مسار التاريخ.
لو فقط يحسنون قراءة الإشارات القادمة من خارج حدود الوطن، لأدركوا أن حُماتهم قد أدخلوا أو هم بصدد إدخال تعديلات كبرى على مخططاتهم وبرامجهم، ممهدين لتغييرات ضخمة على الأرض تشمل كامل المنطقة العربية بعد فشل تلك المخططات القائمة على سفك الدماء وبث التفرقة بين أفراد وفئات شعوبها.
فها إن تركيا تحيي الإتصالات الديبلوماسية مع مصر. مصر التي كانت تراها ضحية "إنقلاب" قاده العسكري السيسي ضد الشرعيىة الإخوانية. وتعبر عن استعدادها لفتح صفحة جديدة معها تقوم على درس الملفات الساخنة بيتهما وفض المشاكل الناجمة عنها.
للعلم، تركيا تحتضن طيلة السنوات السبع الماضية التي أعقبت إسقاط منظومة الإخوان في مصر، قيادات من تنظيم الإخوان بعد فرارها من مصر، وقنوات تلفزيونية تهاجم ليلا نهارا الرئيس المصري السيسي وحكام السعودية. وها هي أنقرة تعلن بالمَرّة استعدادها لفتح صفحة جديدة مع دول الخليج وفي مقدمتها السعودية!!
وكانت قطر قد سبقت خطوةَ تركيا بعودتها إلى حضنها الطبيعي، مجلس التعاون الخليجي، والعمل على إنهاء الخلاف مع أعضائه وفي طليعتهم حكام الرياض.
هذا الخلاف الذي وصل إلى حد مقاطعتها من كل دول المجلس بسبب عدم إنضباطها لقرار التوقف عن دعم حركات الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية المتفرعة أو المنشقة عنها. أي إن البحث جار الآن عن طرقٍ لطي تلك الصفحة السوداء.
ولعل النداء الذي توجه به بابا الفاتيكان إلى كل العالم في زيارته التاريخية للعراق منذ أيام قليلة، في قالب تحذير وإستغاثة في نفس الوقت، مما تعرض له ذلك الشعب من تخريب وتدمير، وكذلك مالقيَه أبناؤه من المسيحيين من تقتيلٍ وتنكيلٍ بأيدي "المسلمين" دفعَا ثلثيْهم إلى الفرار بجلودهم من وطنهم، قد أعطى أو هو سيعطي مفعوله في ماسكي ماكينة الإرهاب الكبار في العالم ومعينيهم في المنطقة، للقيام بمراجعات ملحة على سياساتهم ومخططاتهم.
وليس من المصادفات أن تنجح بالتوازي مع كل هذه المتغيرات الجاري طبخها على نار هادئة، مفاوضات مبعوثة الأمم المتحدة المارطونية حيث أخفق سابقوها. وتُجمِع الإخوة الليبيين على كلمة سواء بوضع حدٍ للإقتتال وبالوفاق على مجلس نيابي وتحديد تاريخ للإنتخابات التشريعية والرئاسية واختيار رئيس للحكومة ورئيس للبلد والنجاح في تشكيل حكومة تهيء الظروف الملائمة لتلك الإنتخابات في نهاية العام.
ولقد عاشت ولمست تونس بكل ابتهاج، من مدينة صفاقس، منذ أيام قليلة أولى ثمرات ذلك النجاح الباهر من خلال انعقاد الجولة الثالثة من المنتدى الاقتصادي التونسي الإفريقي لرسم خطوط جلية لإحياء التعاون التونسي الليبي في الميدان الاقتصادي وما يجنيه منه المجال الاجتماعي من فوائد مشتركة.
وخلاصة القول لمن مازال في عقولهم بقيةٌ من منطق وفي قلوبهم ذرة من وطنية، أن الشعب استيقظ على ما لحقه من غدر باسم الدين مرة، وبلحاف الديمقراطية المغشوشة مرة، وبضربات الإرهاب مرات، فجدد بأفواج أهالي بنقردان التي التحمت بقوات الوطن العسكرية والأمنية لدحر جحافل إرهابيين خانوا وطنهم، وعلى ألسنة شبابه المحتج في الشوارع والمذكّر بمطالبه في الكرامة الوطنية والشغل والحرية البناءة. وهي المطالب المهمَلة قسرا أو عجزا، وأنه لن يقبل أن يجثم على أرضه مؤسسة، تحمل إسم "علماء المسلمين" تقدم دروسا باسم الدين في معارضة جذرية لنمط المجتمع ولقوانينه وخياراته المدنية، وفي ضربٍ صريح لمدرسة الجمهورية وفي حجرٍ مبطَّن بالوعظ على عقول المواطنات والمواطنين.
فبقطع النظر عمن بادر بالتحرك للإحتجاج على وجوده على أرض تونس، حتى ولو كان تحصل على ترخيص قانوني من ذات حكومةٍ في ذات فترةٍ من الحلم بالخلافة، فإنه لزاما على الدولة التونسية وعلى قضائها الطامح إلى الإستقلال تعديل الأوتار. وكما يعلم الجميع، إن لنا في تونس مختصين في الشريعة من أعلى المستويات الإقليمية والدولية، يمكن أن يقدموا مقترحات عملية في المساعدة على إثراء الجانب الروحاني للشباب بما يقوي الروابط العائلية والمجتمعية والوطنية وليس بتخريبها.
أما إستغلال ذلك الإحتجاج المشروع الذي بدأ منذ أشهر ولم يحرك طيلتها أيُ طرفٍ في الحكومة ساكنا ثم فجأة تتحرك الماكينات القضائية والأمنية والسياسوية، من ذات اليمين وذات اليسار، لشيطنة حزب الدستوري الحر ورئيسته، فذلك إنما هو هروب إلى الأمام وعكس ما أرسلته كل الإشارات التي عددت كثيرا منها داخليا وخارجيا في ما سبق من فقرات في هذا المقال.
إن تأييد المحتجين على وجود فرع اتحاد علماء المسلمين ذاك، ليس بالضرورة يساوي الإنخراطَ في الحزب الذي تصدى لهذه المهمة أو تبني توجهه السياسي، إنما تشويهه والتهجم على رئيسته هما ما سيزيدان في عدد المقتنعين به لو تعلمون.
إن التمادي في إشعال الحرائق وغض الطرف عن أسبابها الحقيقية سيطال لهيبها الأخضر واليابس والجميع بمن فيهم مُشعلوها، إن لم يثب السياسيون، كل السياسيين، إلى رشدهم ويتعضوا بالدروس الملقاة أمامهم على قارعة الطريق مما مرَّ بالبلاد وبالمنطقة من أحداث من حولهم فيقوموا بالمراجعات التي يحتمها الوضع. وأول من يعنيهم هذا الكلام حركة النهضة التي تأتينا الأخبار هذه المدة بين الحين والأخر بخبر استقالة جانب من كبار قادة الصف الأول فيها. بل وقد ذهب أحدهم وأقربهم للتصديق، بأن أعلن صراحة أن حركة النهضة قد انتهت إن لم تقم بالمراجعات العميقة الضرورية. كما أقرّ آخر بأن الحركة قد فشلت في أن تخرج من عباءة الجماعة وأن تتكيف مع مباديء ومقتضيات الأحزاب المدنية.
لا مفر للجميع من تعديل البوصلات والإقدام على الإصلاحات الكبرى قبل فوات الأوان، إن لم يكن قد فات!
خديجة توفيق معلى
- اكتب تعليق
- تعليق