مصطفى كمال النابلي: خارطة طريق لحوار وطني ناجح
عشر سنوات بعد اندلاع الثورة، تجد تونس نفسها مكبّلة، محشورة في نفق دون منفذ. بديل ممكن للبلاد هو الإصرار على المضيّ في نفس المسار، في فقدان عميق للأمل، وعدم الاعتراف بأنّ الفشل عمّ النظام السياسي والإدارة الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذه الحال، سوف نستمر بنفس الممارسات ونتشبث بإبقاء النظام في "حدوده القانونية" و"شكليته" في نفس الوقت، وعدم قدرته على رفع التحديات الجسام التي تواجهها البلاد. ويمكن أن نتمادى في الاعتقاد بأنّ هذا هو قدرنا المحتوم وأنّ كل مسار انتقال ديمقراطي يبقى عسيرا ومكلفا. كل هذا يجعل مخاطر القفز نحو المجهول تخيّم على الوضع، مع احتمال كبير بالانحدار نحو العنف والفوضى. فيما تواصل تونس التخبط في تناقضاتها، عسى أن تتمكّن يوما من التوثب من جديد والتوفق إلى طريق الأمل. هذا خيار غير مسؤول، وغير مؤكد النجاح.
بديل آخر يبقى ممكنا وهو السعي الآن لإحياء الأمل في النفوس والعمل على الخروج من النفق المسدود باحترام النظام الشكلي ولكن باستكماله وتجنب السقوط نحو العنف. وهذا مسلك دقيق وضيّق، يعسر توخيّه ولكنه يبقى غير مستحيل وهو الأجدى. لقد مكّن الحوار الوطني في سنة 2013 من تحقيق جانب من هذه المهمّة واستكمال الدستور وتنظيم انتخابات سنة 2014 ولكن هذه النتائج بقيت غير مكتملة، لا تخلو من عديد النقائص والغموض وحتى من العراقيل ولم تتوفق إلى حل القضايا الأساسية خاصة بالنسبة لتنقية المناخ السياسي العام ورفع الرهانات الاقتصادية والاجتماعية وبذلك بقيت هذه المشاكل معلّقة، بل قد ازدادت خطورة، مما يجعلها تطرح اليوم بحدّة، وتفضي إلى وأد الأمل لدى التونسيين.
تعددت النداءات منذ أشهر لإطلاق "حوار وطني" ويكاد يحصل اجماع على ضرورته للخروج من الأزمة، ولكننا نعتقد أن مفهوم "مؤتمر" أنسب من "حوار وطني" لأن الأمر لا يتعلق فقط بمجرد تحاور والتوصل إلى بلوغ توافق حول مسألة أو إثنين وإنما هو بالخصوص معالجة جملة من القضايا، وبصفة معمقة،والتوصل إلى نتائج فعلية، ملموسة.
ومن هنا يتأكد ضرورة تنظيم"مؤتمر من أجل الرقي والديمقراطية"، لبناء توافق حول القضايا الأساسية "للعيش المشترك" في تونس، ورسم مسار الخروج من الانسداد.
وما لم يتم تحديده والتوسع فيه بعد، هي الشروط الضرورية لنجاح مبادرة دقيقة مثل هذه وحياتية لصالح البلاد، ولا مناص من الإقرار أن هذه الفكرة هي في الواقع عسيرة التشكّل وصعبة التحقيق.
وتتمثل الصعوبات في تحديد الجهة المنظمة، والمشاركين، ومضمون المواضيع التي تطرح على النقاش وطريقة إدارة هذا المؤتمر. ومن الضروري اعداد خارطة طريق لتنظيم هذه المبادرة وتفعيلها بنجاح.
أولى الصعاب تخصّ تحديد الجهة الراعية لعقد هذا المؤتمر ويبدو أن المؤسسات الرسمية على غرار الحكومة والبرلمان قد فقدت شرعيتها ومصداقيتها للاضطلاع بهذاالدور، باعتبارها طرفا متسببا في انسداد الوضع. وحتى رئاسة الجمهورية، التي من المفروض أن تكون هي المؤهلة لذلك أكثر من أي جهة أخرى، أضحت هي نفسها جزءا من المعضلة بدلا من الحلّ، خاصة وأن لها أجندتها الخاصة بها، وأظهرت عدم قدرتها على التجميع وقيادة مبادرات دقيقة مثل هذه. فهل يقدر "المجتمع المدني"، مع عدد من المنظمات الوطنية والجمعيات والشخصيات الأخرى، الاضطلاع بهذا المشروع؟ هذا هو الخيار الأوحد الذي يبقى ولكن من المهم انضمام جهات أخرى تحظى بالمصداقية وقادرة على التجميع.
المجتمع المدني هو الذي يقع على عاتقه إطلاق هذا المسار الذي لا يمكنه الانطلاق دون تعيين " فريق قيادة" مضيّق، محايد وذي مصداقية، ليتولى تسييره.
الصعوبة الثانية تكمن في التأكد من هل أنّه بالإمكان جمع حول نفس الطاولة فرقاء سياسيين متنافرين، والتوفق إلى حملهم على الاتفاق على خريطة طريق للخروج من النفق المسدود؟ الأسئلة المطروحة والرهانات هي دقيقة ومصيرية ومن الأكيد أن التضحيات والتنازلات للتوافق ستكون صعبة على الجميع ومؤلمة، ولكنها ضرورية لبناء مصير هادئ ومستقبل زاهر للبلاد. ولذلك فإنّ نجاح هذا المؤتمر يبقى رهين محتواه وفي نفس الوقت رهين المشاركين فيه، وكذلك المنهجية والأساليب المتوخاة لإنجازه.وحرصا على تذليل الصعاب وتوفير أقصى حظوظ النجاح، يكون من المرجو، بل أكثر، من المستوجب، التدرج على مرحلتين اثنتين.
المرحلة الأولى: ما قبل المؤتمر
في مدة محددة بيومين أو ثلاثة، يمكن لهذه المرحلة أن تنتظم على نطاق موسّع ونسبيا مفتوحا، وتمثل اعدادا أساسيا هاما لانعقاد المؤتمر، ولكن المهم أن يسبقها اعداد فني دقيق لضبط المواضيع، واقتراح الخيارات الممكنة واعداد وثائق العمل.
ويعهد بإنجاز هذا الاعداد الفني، إلى فريق من الأخصائيين الخبراء، تحت متابعة فريق القيادة. وقد تستدعي هذه التحضيرات بضعة أسابيع من العمل الدؤوب.
ولابدّ أن تفضي مرحلة ما قبل المؤتمر إلى تحديد جدول الأعمال، ومقاييس المشاركين، وقواعد العمل، ومقومات القرارات.
1- تحديد جدول الاعمال: يتعين على المؤتمر الانكباب على مجمل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن وقت المعالجة المنفردة لهذه القضايا، قد ولّى وانتهى، باعتبار أن تداخلها وتفاعلها أصبح يفرض نفسه ولا يمكن تجاهله وليس بالإمكان تناول القضايا السياسية دون القضايا الاقتصادية والاجتماعية مثلما جرى العمل به في السابق، أو الاقتصار على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وترك القضايا السياسية جانبا، مثلما يقترحه البعض الآن.
ومن المهم أن يعكف المؤتمر من أجل الرقي والديمقراطية على البتّ في القضية الأساسية المتمثلة في احترام أسس توافق دستور 2014، ومدنية الدولة، واحترام الحريات الفردية وخاصة منها المتعلقة بالمرأة، ومجتمع الانفتاح والتسامح.
ولابد من توضيح كل غموض قد يكتنف الجوانب العملية، لاحترام هذا التوافق حول النمط المجتمعي، ورفع كلّ لبس بشأنها، بما لا يبقي أي مجال للتأويل أو الالتباس.
ومن الأكيد التعاطي مع المسائل المتعلقة بالنظام السياسي (ومنها وبالخصوص القانون الانتخابي، وتمويل الأحزاب والانتخابات)، وقضية العنف في السياسة، وأيضا مدنية الدولة، واستقلالية هياكل الدولة الأساسية مثل القضاء والأمن والإدارة.
إن الديمقراطية ليست تسلسلا لانتخابات شكلية وإنما هي نظام حكم يمكّن من منافسة شريفة للولوج إلى السلطة، مع ضمان الحقوق، دون تداخل أو استعمال مفرط لأسلاك الدولة، ودون تأثير غير مشروع لمصالح خاصة وفئوية، في احترام كامل للحريات الأساسية، بما فيها حقوق الأقليّات.
ولابد لهذا المؤتمر من أن يعالج الاختيارات الجوهرية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي وهي قضايا صرف عنها النظر عند صياغة الدستور وخلال الحوار الوطني لسنة 2013 وهي اليوم تفرض نفسها بقوّة حتى يمكن الخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تتخبط فيها البلاد. لقد أصبح الوضع اليوم أكثر تشعّبا وصعوبة، وأوكد الواجبات هو إعادة بناء الثقة وفتح الآفاق وإعادة التوازنات ووضع البلاد على منهج البذل والعمل. وإن غياب رؤية واضحة وآفاق فسيحة حول التوجهات الكبرى للبلاد تمثل عائقا أساسيا أمام عودة الاستثمار والتنمية الاقتصادية. إن فضّ هذه الإشكاليات وحلّ الأزمة الاقتصادية والشروع في الإصلاحات اللازمة هي أساس هذا المسار، ولكن العديد من التعديلات والتوجهات في المجالين الاقتصادي والاجتماعي تستوجب حوارا واختيارات. وليس المطلوب، ولا يمكن ذلك، الخروج ببرامج وسياسات اقتصادية واجتماعية مفصّلة.
وكفي المؤتمر أن يحدد الخيارات الجوهرية والتوجهات الكبرى بخصوص القضايا الأساسية التالية:
أ - تصحيح وضع المالية العمومية الذي يشكل أولوية قصوى مع قضايا العجز والتداين العمومي،
ب - السبل الكفيلة بإرساء العدالة الاجتماعية ومن بينها الجباية والتعويض والأجور والتنمية الجهوية والحماية الاجتماعية (التغطية والتمويل والمقتضيات)،
ج - دور الدولة والمؤسسات العمومية ومسؤولياتها ومن بينها دورها كمؤجر في آخر المطاف، ومدى توسيع مجالها ومحددات مدخلاتها وثقل وزن الوظيفة العمومية،
د - دور القطاع الخاص ومسؤوليته، واقتصاد السوق والمنافسة، والقدرة على التحكم في القطاع غير المهيكل والاقتصاد الموازي،
هـ - التصدّي لمقاومة الرشوة والريع والامتيازات.
فإذا ما تمّ هذه المحددات، يمكن للمنافسة السياسية أن تنطلق لإعداد البرامج واختيار السياسات والإجراءات الملائمة الكفيلة بتحقيق الأهداف المرسومة لخلق الثروة وإعادة توزيعها وضمان العيش الكريم للمواطنين.
وإنه لمن الخطأ أن نحدد لهذا المؤتمر هدف الاتفاق على برنامج حكم، وإنما إذا ما توفق المشاركون فيه إلى اعتماد، مثلا، خيارا مثل إقرار حكومة انتقالية، فإن صياغة برنامج لهذه الحكومة لابد أن يتم فيما بعد ذلك، على ضوء الاختيارات والتوجيهات العامة التي تم تحديدها ولابد من أن تكون الحكومة الجديدة هي المصمّم الرئيسي لهذا البرنامج وليست مجرد منفّذ لما تمّ اقراره دون مشاركتها.
2- اعتماد مقاييس اختيار المشاركين في المؤتمر: لابد أن ينبني اختيار المشاركين على أساس تمثيليتهم وقدرتهم على المساهمة في صنع التوافق المنشود، وتفادي أن تكون المشاركة وسيلة لنسف المسار ويتعين لهذا الغرض أن:
أ - يكون عدد المشاركين وصفتهم كفيلة بضمان تمثيلية واسعة للمواطنين المنخرطين في شتى الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية والهيئات المهنية والمجتمع المدني،
ب - يتقاسم المشاركون حدا أدنى من قيم التعايش المشترك ويلتزمون باحترام هذه القيم والعمل على إنجاح الحوار الوطني وإنقاذ البلاد، وكل من يرفض الانضمام فعليّا لهذه القيم الجامعة، وهذه المقاييس، ومنهجية العمل، يقصى نفسه بنفسه من هذا المسار.
ج - تحديد منهجية عمل المؤتمر: هذه القواعد لابدّ من المصادقة عليها مسبّقا، لتلافي أي منزلقات وحتى تفضي للنجاح. وهي تهمّ نظام سير الجلسات العامّة وأعمال للجان ومساهمة الخبراء وغيرها،
د - ومن بين هذه القواعد الواجب تحديدها، تلك المتعلقة بالوقت المخصص للقاءات والمنهجية المعتمدة للوصول إلى قرارات توافقية.
المرحلة الثانية: المؤتمر
ينعقد المؤتمر وفق المحددات التي تم الاتفاق عليها في المرحلة التحضيرية، ويكون عدد المشاركين فيه بشكل أضيق، لا يمكن أن يتجاوز مائة مشارك، ولا يمكن أن يساهم في الاشغال إلا الذين قبلوا بالشروط والقواعد المتفق عليها في المرحلة الأولى، وتكون المدة الزمنية للمؤتمر محددة مسبّقا ولا يمكن أن تتجاوز أسبوعاواحدا.
وباعتبار أنه قد تم الاتفاق فيما قبل على القضايا المطروحة، والاختيارات الممكنة وطرق الوصول إلى أخذ القرار، فإن المؤتمر يمكنه اختصار الآجال وبلوغ التوافق المنشود بإقرار خطة طريق واضحة المعالم وعملية للخروج من الأزمة.
وعلى غرار المرحلة الإعدادية للمؤتمر، فمن المهمّ أن يتم ضمان إعداد فني جيّد ودقيق لهذه الأشغال وهم ما يمكن أن يعهد به إلى فريق فني من الخبراء في مختلف القضايا المدرجة بجدول الأعمال، وصياغة ورقات عمل، وأدوات تحاليل، تساعد على أخذ القرار.
إن هذا التمشي المقترح هو متشعّب، وطويل، ومضنِ، والشروط المستوجبة صعبة التحقيق، كما أن ضمان توفرها قد يتطلب وقتا طويلا، ومن شأنه تـأخير انعقاد المؤتمر. ولكنه من المهم تجاوز النرجسية والأنانية والقطع مع عقلية الاستحواذ على السلطة، والتمسك بها، مهما كان الثمن، ولابد للجميع أن يتبين بان خلاص البلاد لن يتأتّى إلاّ من تنازلات مؤلمة، من قبل الجميع.
إن تجاوز المصالح الضيقّة والآنية يجب أن يكون الواعز الأساسي، وتقاسم التضحيات قاعدة يقبل بها الجميع.
إن عدم توفر هذه الشروط وتحقيقها من شأنه أن ينسف جهود تنظيم هذا المؤتمر ويقضي على مقومات نجاحه حتى في صورة انعقاده. كما أن سوء الاعداد والتنظيم المتسرع كفيل بتقويض آخر فرصة للخروج من الأزمة التي تكبّل البلاد، وذلك في إطار هادئ ورصين، يحترم النواميس والقوانين ويحدّ من المخاطر. وليس لنا من خيار سوى النجاح.
سيكون ذلك بمزيج من الأوجاع والآلام، ولكننا نضع صوب أعيننا استقرار البلاد وانقاذها.
مصطفى كمال النابلي
- اكتب تعليق
- تعليق