أخبار - 2021.01.13

عياض ابن عاشور: الثورة واستحضار الذّاكرة (فيديو)

عياض ابن عاشور: الثورة واستحضار الذّاكرة

بقلم عياض ابن عاشور. أستاذ جامعي، رئيس الهيئة العليا للثورة وعضو لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة – نقله الى العربية فتحي بلحاج يحي - نحتفل اليوم بالذكرى العاشرة للثورة، والسؤال الذي يعود بإلحاح إلى ساحة النقاش العام هو التالي: هل أنّ تونس شهدت، فعلا، ثورة؟
يذهب قسم من الرأي العامّ إلى نفي ذلك اعتمادا على النتائج المخيبة للآمال بالنّظر إلى وعود الكرامة والعدالة التي قطعتها الثورة على نفسها. وفعلا، فإن الوضع الحالي لبلادنا سواء في مستوى المؤسسات السياسية أوالخدمات العامة أوالاقتصاد أوالمالية العامة، أدّى إلى خيبة الأمل والإحباط النفسي. كما أنّ الأوضاع لم تنفكّ تزداد سوءا مع مرور الوقت. فالثورة لم تف، إذن، بأيّ غرض من أغراضها، وانعدمت الثقة بين جميع الأطراف، واستشرى الفساد، وفقد البرلمان مصداقيته. وأصبحت الأحزاب السياسية محلّ إدانة، وانقسمت السّلطة التّنفيذية فيما بينها، وفقدت الدولة جانبا من سلطتها، وهو ما جعل الثورة في حالة احتضار إن لم تكن قد قُبرت بعدُ. على أنّ مثل هذا التحليل يبدو لي سطحيًا وخاطئًا لأسباب ثلاثة رئيسية.

 أركان الثورة الثلاثة

السبب الأوّل هو أننا ننسى أن الثورة رجّة اجتماعية وليست تحقيقًا للفردوس الدّنيوي. فأن ننتظر منها فوائد ملموسة وفورية لفي ذلك إساءةُ فهمٍ لتاريخ الثورات في العالم، وسقوط في فخّ "مفهوم الثورة التي تخلق المعجزات". فمثل هذا المفهوم يفتح الأبواب على مصراعيها أمام خيبة الأمل. وتلك هي الحالة النفسية التي استحوذت على الرأي العام في الذكرى العاشرة للثورة.

السبب الثاني هو أن الثورة التونسية أنجزت بالكامل ما لا يقلّ عن نصف رسالتها المتمثّلة في إرساء نظام ديمقراطي. ويجب، خاصّة، عدم اختزال هذا الإنجاز الديمقراطي في حرية التعبير وحدها كما يحدث في أحيان كثيرة. إنّ حرية التفكير والتعبير هي، بالتأكيد، إحدى ركائز النظام الديمقراطي، لكنها ليست العنصر الوحيد. فرغم ما يتّسم به المشهد السياسي من فوضى، نتيجة الافتقار إلى الخبرة والانضباط لدى الفاعلين، فإن تونس قد نجحت في تجربتها الديمقراطية التي شملت حياة الأفكار والفنون، وتعدّدية الأحزاب السياسية، وممارسة السلطة وبناء مؤسسات السلطة المضادّة، وشفافية الانتخابات ومصداقيتها، وحرية التجمّع والتظاهر، وعلاوة على كلّ ذلك تكوين مجتمع مدنيّ متحرّر وناشط خلافا لما كان عليه سابقا. فمن الخطأ، إذن، الاعتقاد بأن الثورة قد أفضت في النهاية إلى العدم.

والسبب الثالث هو أن هذا التحليل الذي يَنسُب صعوبات الحاضر إلى الثورة، إلى درجة إنكارها تماما، إنّما يقوم على اختزال فكري مذهل إذ الأهم في أيّ ثورة هي رسالتها والموارد الرمزية التي تتركها إرثا للأجيال القادمة. فالثورة تأسيس لفكر جديد، ولآفاق اجتماعية وسياسية جديدة، وحقوق جديدة، وحريات جديدة، ولا يمكن الحكم عليها على أساس الأحداث التاريخية المؤلمة التي عقبتها مباشرة. كما يبدو لي من الخطأ التوقّف عند الوضع الحالي في بلادنا لنستنتج أن الثورة لم تحدث، وأنها لم تغيّر شيئًا أو أنّ النّظام الديكتاتوري كان أفضل. فهذا الادّعاء الأخير ليس أقلّ من كونه فظيعا. ومثل هذه الأحكام لا قيمة لها تذكر إذ لا تتعدّى ردود الفعل الغريزيّة الغامضة. أمّا إذا ما نظرنا إلى المشهد السّياسي لبلادنا بعين مجرّدة من فائض الأخبار اليومية الحارقة، فسنرى أن رسالة الثّورة تظلّ محمّلة بقدرة مذهلة على التّعبئة والحضور سواء في مستوى الفكر أو في مستوى الفعل. ومرّة أخرى، فإنّ الثّورة لا تُعَيَّرُ نسبة إلى تقلّبات سوق الأوراق المالية أو معدّل التّضخّم أو نِسب النموّ، ولا تُقاس على ضوء العمل السياسي المرتبك، للأسف، بل تقاس بشيء آخر أعمق يتجلّى في القوة التي تحوّل رسالة الثورة إلى مرجعية سياسية واجتماعية ثابتة ومصدر تعبئة متواصلة. فاليوم، وبعد عشر سنوات من الحدث الثّوري، تظلّ رسالة الثورة بالغة الحيوية وستبقى راسخة في التمثلات الجماعية للسياسة. لذلك، يجب ألا ينحصر تقييم الثورة في تقلّبات اللحظة الرّاهنة. وليس الكابوس الذي يتحدّث عنه الجميع سوى نقيض الثورة لا أكثر. وقد أذهب إلى أبعد من ذلك بالقول إن الوضع الحالي، بعيدًا عن كونه علامة فشل، فهو على العكس من ذلك علامة نجاح لأنه يحافظ على مطالب الحركات الاجتماعية في أعلى مستوى استنادا إلى الأمل الذي ولّدته الثورة. فالثورة أمل أو لا تكون، وهي حضور دائم التجدّد وعلامة تشير إلى الاتجاه الصحيح. كما أنّها إذكاء للذاكرة واستحضار لها، وليس أدلّ على ذلك من أن جميع القوى قد التقطتها، من بينها الإسلاميون طبعا، ولكن أيضا، ومن باب سخرية التاريخ، حزب الدستور الحر الذي أطلق أخيرا فكرة "ثورة التنوير" لاستصلاح ما أفسده الإخوان. وهو ما يعني أنّ فكرة الثورة فرضت نفسها على الجميع.

لا علاقة مباشِرة للإخفاقات بالثورة

إنني أدرك جيداً النّقائص وأوجه القصور التي طالت حتى المجالات التي تجسّدت فيها الرسالة الثورية. فإذا ما نظرنا، مثلا، إلى قضية آمنة الشرقي وغيرها من المحاكمات التي سبقتها، لا يمكننا سوى الإقرار بأنّها خطوة إلى الوراء ليس فقط بالنسبة إلى رسالة الثورة ذاتها ولكن في علاقة أيضًا بأحكام الدستور في مجال حرية الفكر والضمير والاعتقاد. فجميع هذه القضايا تمثل فضائح قانونية حقيقية من حيث المعايير الديمقراطية والقانون الدولي لحقوق الإنسان. ويمكن أيضا الإشارة إلى استغلال الحريات المحلية الجديدة من قبل أشخاص أو أحزاب نصّبت نفسها الناطق الرسمي باسم الخالق لتبثّ الأفكار الأكثر تخلّفا، أو إلى تسلّل بعض العناصر الإسلامية الأرثدوكسية إلى داخل هيئات التعليم أو حتى داخل الشرطة والقضاء والجيش. ومع ذلك فقد تم، في الآن ذاته، إحراز تقدم في مجالات حساسة في مجال فقه القضاء، مثلا، حيث صدرت أحكام تقضي بالتخلي عن الاستبعاد من الميراث بسبب اختلاف الدين (قضية مادلين روسو، 2016) أو الاعتراف بحق المتحوّلين جنسياً في تغيير جنسهم (قضية لينا-ريان، 2018) أو عدم الحرمان من حرية تكوين الجمعيات بسبب الميولات الجنسية والهوّية الجنادرية (قضية جمعية شمس، 2020).

كما أدرك تماما أن المجتمع التونسي لا يزال مجتمعا مركبا تشقّه خلافات لا فقط حول المسائل الإيديولوجية الصغيرة أو مشاكل إدارة الشأن السياسي، بل حول مسائل أساسية تمس القيم العميقة المتعلقة بالنظام الجمهوري والديمقراطي والعلاقة بين الدولة والدين. ولسوء الحظ، فإنّ التعبير الأقوى عن هذه التناقضات يوجد في الدستور ذاته ولا سيما في الفصل 6 الشهير الذي ينص على المبدأ ونقيضه.

وأخيرًا، أدرك أن مكاسب الثورة مهددة أيضا من قبل أولئك الذين يتحدثون باسمها والمنتمين إلى دوائر سلطات الدولة. فالرئيس الحالي يمثّل، رغم انتخابه بنسبة 73٪ من الأصوات، أحد العوامل الرئيسية للأزمة السياسية والمؤسسية التي تمر بها البلاد، ويعتبر عقبة رئيسية أمام حركة الإصلاح التونسي. فانتخابه يشكل، في نظري، شذوذا ديمقراطيا ويدعونا إلى التفكير في الانتخابات عندما تنقلب على النظام الديمقراطي بإفراغه من جوهره القائم على الحرية والمساواة والحقّ. كان العالم قد مرّ بتجربة مريرة مع الفاشية الأوروبية في إيطاليا وألمانيا، واليوم يختبر،بطريقة أخرى، مع ما يعرف بالشعبوية الصاعدة سواء في عديد البلدان الأوروبية، أوفي أمريكا اللاتينية أو في الولايات المتحدة.

بعد عام من توليه المنصب، يبدو أن الرئيس الحالي يحاول تعويض جموده بفيض من الخطابات الغامضة، والمهددة بدعوى وجود مؤامرات تحاك في الظّلام دون تقديم أيّ أدلّة أو مضمون سياسي حقيقي. وهو يعلن دفاعه عن الثورة لكن بأفكار معادية للثورة تؤدي في النّهاية إلى أسلمة القيم. ولنذكّر أنه نأى بنفسه، طوال مرحلة الديكتاتورية عن كلّ ظهور، وابتعد بحذر عن أي احتجاج. واليوم نراه يتّخذ من الله والتاريخ والشعب شهودًا بكثير من التظاهر المفخّم، ويعلن أفكارًا مبتذلة عن الدين، وعن عقوبة الإعدام، والهوية الجنسية، والمرأة، والثقافة، ويعلنها بكلّ تفاخر في خطابات مجترّة يلقيها بأسلوب لا بلاغة فيه ولا تبليغ، ولغة فصحى ركيكة، ونبرة ميكانيكية تكاد تخلو من المشاعر. وقد ذهب في مسألة الميراث إلى تبنّي المواقف الأكثر تقليدية التي يدافع عنها أصحاب القراءة الحرفية للقرآن، دون أن يأخذ في الاعتبار تطور العقليات، أو التركيبة الجديدة للأسرة، أوالحركات الاجتماعية من أجل الحقوق أو طروحات لاهوت التحرير الإسلامي (علي شريعتي، على سبيل المثال)، أو فلسفة المقاصد التي تفسّر النص المقدس وفقًا لأهداف العدل والتوازن بين المنافع و الحقوق. إنّه يتحدث في تونس القرن الحادي والعشرين، كما لو أن شخصيات علمية لم توجد من أمثال الشيخ سالم بوحاجب، والطاهر الحدّاد، ومحمد الصالح بن مراد (الذي اتهم بالرجعية ظلماً، بسبب كتابه ضد الحدّاد)، والطاهر والفاضل ابن عاشور. وفي ذلك إنكار لجزء من تونسيّتنا. والحال أنّه كان بإمكانه الاستلهام من الفكر الإسلامي المجدّد في أعقاب نجم الدين الطوفي أو ابن رشد. وعودة إلى مسألة الميراث، فهو يتحدث عن نص واضح وقطعي دون أن يدرك أنها مسألة تأويل، ومتجاهلا حقيقة أن النصوص المتعلقة بالرّقّ، وملك اليمين، والرّجم، والجلد، والصلب، وقطع الأيدي والأرجل واضحة أيضًا وضوح "مثل حظّ الأنثيين"، لكن عفا عليها الدّهر ولم تعد مطبّقة في بلادنا. فلماذا التعامل، إذن، مع قضية عدم المساواة في الميراث على نحو مختلف؟ ذلك هو المقصود من قولنا بأنّ مواقف رئيس الدّولة تتعارض مع المبادئ التحررية للثورة.

من أجل خطة للخروج من الأزمة

لقد أصبح المجتمع التونسي بعد الثورة في وضع يستدعي إجراءات تصحيحية عاجلة على أن تكون مستلهمة من المبادئ التي وضعتها الثورة نفسها. فعلى المستوى الإيديولوجي، يتعيّن الدّفاع عن المجتمع التونسي ضد هيمنة الفكر الإسلاموي على المجتمع والدولة. وهو ما يتطلّب حركة علمانية واسعة النطاق تستند إلى مبادئ ثورة الاستقلال الوطنية والمكتسبات البورقيبية وليس حزبًا سياسيًا تقليديا. ونحن نعتقد أنّ القوى الحاملة لهذا المنظور كبيرة العدد ونشيطة لكنها مشتتة، للأسف، بحكم النظام السياسي والانتخابي. والأكيد أنّ تونس ستستفيد كثيرا باجتماعهم على مبادئ ديمقراطية مشتركة. كما يجب، في مرحلة ثانية، أن "نبتكر" نموذجاً اقتصادياً يقوم على العدالة الاجتماعية، بمختلف جوانبها الاقتصادية والمالية والجبائية. ولعلّها المسألة الأكثر تعقيدا لذا أكتفي بهذا الحدّ نظرا لعدم اختصاصي في الموضوع وقناعتي بأنّ هناك من الأخصّائيين التّونسيين المتميّزين الذين يمكنهم تقديم الحلول الملائمة لواقع البلاد. ومن ناحية أخرى، فإنّ تطهير الدولة واستعادتها لسلطتها يشترط إيلاء أهمية خاصة لاستقرار المؤسسات الدستورية من خلال إصلاح حكيم ومتأنّ للقانون الانتخابي، والقانون الدّاخلي لمجلس نوّاب الشّعب، وتنصيب المحكمة الدستورية التي يبدو أن القادة الحاليين ليسوا في عجلة من أمرهم لإنشائها. وفي نفس سياق استعادة سلطة الدولة، يتعيّن مكافحة الفساد الذي استشرى في وضح النهار في نهاية هذا العام مع قضية"سوريبلاست"والنّفايات القادمة من إيطاليا.

وأعتقد أن المبادرةالتي أطلقها الاتحاد العامّ التّونسي للشّغل، في ديسمبر 2020، للخروج من الأزمة تشكل نقطة انطلاق صلبة، رغم أنّها تستحق بعض التدقيق. فالاتحاد يُحسب له إنجاح الحوار الوطني سنة 2013 وكان لعب فيه دورًا رئيسيًا، ولعلّه الطّرف المؤهّل أكثر من غيره لإخراجنا من الأزمة الخطيرة التي نعيشها اليوم. والفرق بين سنة 2013 والأزمة الحالية هي تداعيات هذه الأخيرة على الفئات الهشّة من السكان على نحو خاصّ، أي أنّ الجانب الاقتصادي والاجتماعي أكثر احتداد هذه المرّة. ولهذا السبب، فإن الاتحاد العام التونسي للشغل أولى أوّليّة مطلقة بالأزمة دون تجاهل الجوانب الأخرى. وقد اقترح في هذا الصّدد إنشاء لجنة حكماء مكوّنة من شخصيات وطنية مستقلّة لإدارة الحوار والإشراف عليه، وتقريب وجهات النّظر بين أطراف الحوار، وإجراء التحكيم اللازم. وتعمل هذه اللّجنة وفق أجندا مطلوب ضبطها وتحديدها. وأعتقد أنّ مبدأ وضع هذه الآلية جدير بكلّ اهتمام. بيد أنّ هذا المقترح تنقصه بعض التفاصيل عن "الأطراف المعنية" بالحوار والشخصيات الوطنية المستقلة. ومن جهة أخرى، فإنّ عمل هذه اللجنة التحضيرية للحكماء يجب أن يُفضي إلى ندوة عامّة تتّخذ قراراتها النهائية لإنهاء الأزمة على أساس توافقي، وتعمل على إعداد ميثاق اجتماعي جديد يضبط حقوق وواجبات جميع الأطراف وكذلك المواطنين. وبصرف النّظر عن وضع هذا الميثاق موضع التّطبيق وقوته الملزمة، يبدو لي أنّ تشكيل هذه الآلية والمراحل التي تتطلبها بداية من لجنة الحكماء ثمّ المؤتمر العام قبل تبنّي الميثاق الاجتماعي، لا يتناسب مع وضع الطوارئ الذي نحن فيه اليوم. لذا فلئن كان لزاما دعم مبدأ حوار وطني جديد، لا فقط لأنه أثبت جدواه في الماضي بل لأن إجراءات التشاور هي، أيضا، أفضل وسيلة لحل الأزمة، فإنّه يجب إعادة النّظر في بلورة المشروع. وأخيرا، يبقى أنّ نقطة الضّعف في هذا المقترح، منذ إطلاقه، هي إسناد الإشراف عليه إلى رئيس الجمهورية الذي هو أبعد من أن يكون موحِّدًا، على عكس الرئيس الباجي قائد السبسي، بل إنّه شخصية مثيرة للانقسام وغير مناسبة للوضع.

مقاطع التاريخ القصير ومسافات التاريخ الطويل

في مجمل هذا النقاش حول الثورة وأبعادها، يجب التمييز بين مقاطع التاريخ القصير ومسافات التاريخ الطويل. فلو وسّعنا أفق النقاش ليشمل العالم العربي بأسره لأمكن الاكتفاء بالقول إن الثورات التي انطلقت من تونس سنة 2011 لم تكن سوى نيران قشّ سرعان ما التهمت نفسها لتنتهي في رماد الحرب الأهلية والصراعات الدولية بين القوى الإقليمية وتدخلات القوى العظمى. فمصر عادت إلى تقاليد الانقلاب العسكري؛ وسوريا حافظت على ديكتاتورها بعد أن طالها الدّمار؛ واليمن تشهد، رغم الاتفاقات المتعددة، أسوأ الأوضاع الإنسانية؛ والجزائر لم تتعافى بعد من عاداتها القديمة في حين خمدت أنفاس الحراك بسبب كوفيد -19. أمّا عن ليبيا، فبعد الأحداث الصادمة للحرب الأهلية، يلوح بعض أمل على إثر اتفاق وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر الفارط وإرساء المنتدى السياسي للحوار كمقدّمة للانتخابات المقرر إجراؤها في ديسمبر 2021. ولكن عموما، فإنّ المشهد أبعد من أن يكون متوهّجا. ومع ذلك فلو توقّفنا عند هذا الحدّ لنكون ارتكبنا خطأ في التقدير التاريخي بتركيزنا على مقاطع من التاريخ الحالي وتناسينا المسافة التي تربط بينها والتي يجب النّظر إليها بدءًا من الثورة الشعبية السودانية الأولى عام   1964 إذ انطلاقا منها يمكننا أن نرى إلى أيّ مدى أصبح المشروع الديمقراطي، في جميع أنحاء العالم العربي، مشروعًا وطنيًا يتجدّد باستمرار.

ففي كلّ مرّة تُستحضر الذّاكرة ليتواصل الطريق بداية من الثورة السودانية 1964، والثورة الجزائرية عام 1988، وحركة كفاية 2005 في مصر، وإضراب الجوع في تونس في 18 أكتوبر من نفس السنة، وانتفاضة الحوض المنجمي عام 2008، والانتفاضة السلمية في السودان بداية من 19 ديسمبر. 2018، والانتفاضة الجزائرية السلمية لعام 2019، والمناداة بالإنهاء مع الطائفية في السياسة في لبنان والعراق من قبل الشباب المتمرّد. وما جميع هذه التحرّكات والأحداث سوى مطلب ديمقراطي متكرّر باستمرار.

ولا ننسى أنّ ما أوردناه آنفا ينطبق أيضا على كلّ من سوريا والمغرب واليمن وليبيا. فاليمن الذي نراه اليوم في حالة تمزّق، كان بصدد استكمال إنجاز ثوري حقيقي في سبتمبر 2013 من خلال مؤتمر الحوار الوطني الشامل حيث مثّل الميثاق الذي اعتمده المؤتمر، كتمهيد لدستور مستقبلي لليمن، خطوة إلى الأمام وقع الترحيب بها، آنذاك، باعتبارها نجاحًا للثورة اليمنية ونموذجًا يحتذى. وقد وردت فيه مواقف بشأن الدين، والدّولة المدنية الديمقراطية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهود الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، تعتبر تقدمًا على طريق الديمقراطية. وليس اليمن حالة منفردة بل إنّ تجربة المؤتمر الوطني العام الليبي، المنتخب في 7 جويلية 2012، مهمة أيضًا، كتحقيق لمطلب الديمقراطية.

إن فشل التجارب السورية والليبية واليمنية لا يُفسَّر حصريًا بتصدّي الدكتاتوريين وأنصارهم لها، بل يفسّر أيضًا بالطائفية المفروضة قسرا على الصراعات الداخلية، وعنف الميليشيات، وصراعات السيادة، والأخطر من ذلك التدخلات الخارجية ولعبة المصالح بين القوى الكبرى. لذا كان شعار "سِلْميّة، سلميّة" الذي رفعه الجزائريون بمثابة الاستراتيجية الحكيمة. مع ملاحظة أن اللاعنف في الثورات هو أيضًا فكرة جديدة رغم أن ابتكارها لا يعود إلى العالم العربي. وهنا ينبغي عدم الخلط بين اللاعنف في الثورات وفكرة الثورة السلمية لسبب بسيط وهو أنّ هذه الأخيرة لا وجود لها. بالمقابل، يمكن أن يشكل اللاعنف استراتيجية ثورية طالما لم يعد العنف معيارًا ضروريًا للثورات. صحيح أن استراتيجية اللاعنف هذه لا تضمن، بالضرورة السلم الأهلية بدليل ما شهده العراق من قمع عنيف في نوفمبر -ديسمبر 2019، حيث عُدّ القتلى بالمئات والجرحى بالآلاف. ومن ناحية أخرى، نعلم جميعًا كم هو سهل على معارضي الثورة إثارة العنف المدني والمخاطرة بالحرب لمجرّد البقاء في السلطة.

لذا ينبغي عدم التّسرع في الحكم على الثورات العربية بأنّها فشلت نهائيا. فبذرة الثورة الديمقراطية قد زُرعت ولا أحد بإمكانه استئصالها. وعودة الذّاكرة سوف يتواصل. وعلى التونسيين ألاّ ينسوا في هذه الذكرى العاشرة لثورتهم، أنّها ثورة بكلّ المعاني.

تونس، العشر سنوات المنقضية، والعشر القادمة
مولّف جماعي تحت إشراف توفيق حبيب
منشورات ليدرز ،جانفي 2021 ، 240 صفحة ، 25 د.ت

www.leadersbooks.com.tn

عياض ابن عاشور
أستاذ جامعي، رئيس الهيئة العليا للثورة
وعضو لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة

قراءة المقال بالفرنسية


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.