فوزية بلحاج المزّي: نزول لرغبة الجمهور أم نزول بالفنّ؟
بقلم فوزية بلحاج المزّي - "هل يجب على الفنّ أن يتنازل ويتأقلم مع الجمهور أم أنّ على الجمهور أن يرقى إلى مستوى الفنّ؟" ظنّنا إلى زمن غير بعيد أنّ هذه المقولة، وهي تشارف القرن على طرحها في صلب الجدل حول المسرح الذّهني لتوفيق الحكيم، بأنّها طويت وعفا عنها الزّمن بحكم التّقادم.
إلاّ أنّ طرحها يعود هذه الأيّام بأكثر حدّة بل ومتلبّسا بالشّأن السّياسي وفي سلّة من المصطلحات هي خليط من التّعدّي على الحياة الخاصّة للأشخاص وحرّيّة التّعبير والمسّ بالمقدّسات والعنف الرّمزي ضدّ النّوع الاجتماعي ومراودة الجمهور عبر ابتزاز الطّبقة السّياسيّة... فنحن اليوم إزاء سوق من الطّروحات كلّ يغنّي فيها على ليلاه.
القول إنّ العقائر أطلقت منذ مدّة، إبّان 14 جانفي بدءا بحادثة "برسيبوليس" ومرورا بحادثة العبدلّيّة ثمّ حادثة "التّشبّه" بالنّصّ القرآني (ألهاكم التّكاثر) الذي اتّخذ عنوانا لعرض فرجويّ.
مرجعيّتان يتحدّد بهما هذا الطّرح: العمل الفرجوي وصنّاعه ممّن أقدموا على خياراته الجماليّة والفكريّة وحدّدوا لها مسلكها الإبداعي ووجهة تقبّلها من ناحية ومرجعيّة الجمهور المتقبّل للعرض والشّاهد على رسائله في معاينة حيّة للعرض، من ناحية أخرى.
فيما يتعلّق بالمرجعيّة الأولى، يبدو الأمر معقّدا بسبب اختلاف الأصناف الإبداعيّة وتنوّع اهتماماتها ومشغلها الجمالي ومتوناتها. فالمعلوم أنّ عروض الفرجة تراوح بين العمل المسرحي الذي يفترض تخطيطا وإعدادا فكريّا يسبق العرض ويقتضي أيضا هندسة تأخذ في الاعتبار تشكيل العلاقة بين الفكر المسرحي الذي سيجسّده العرض الرّكحي من جهة ومن جهة أخرى، الجمهور الذي سيشاهد العرض وهو عمل تحدّده عناصر مختلفة: الكتابة الدّراميّة والدّراماتورجيا والسّينوغرافيا والموسيقى الرّكحيّة والتّمثيل وإدارة الممثّلين والإخراج. في حين تتّصف بعض الأعمال الفرجويّة الأخرى ببساطة طرحها وسهولة إعدادها نظرا إلى كونها لا تحمل بالضّرورة فكرا يستوجب الإعداد الدّقيق، كما أنّ الفريق العامل فيها لا يتعدى الأربعة أشخاص. ونعني بذلك عروض الممثّل الواحد أو ما عرف بالـ one-man-show التي مرّت في تونس بثلاث مراحل كبرى. أوّلها مرحلة التّجريب وهي مرحلة السّبعينات والثّمانينات وفيها طرق بعض الممثّلين مسلك الخوض في آثار عالميّة على مستوى المضمون الفكري كما هو الشّأن مثلا بالنّسبة إلى "المعطف" لغوغول وعلى مستوى الكتابة الرّكحيّة، رشحت منها رواسب الحكواتي أو الفداوي محمّلة بأسئلة وجوديّة.
وسرعان ما تلت هذه المرحلة تجارب في مسرح الممثّل الواحد، اهتمّت بالشّخصيّة التّونسيّة في تناقضاتها وعلاقاتها البينيّة وتعاملها مع السّياسي والاجتماعي في كتابة تتّسم بالتّورية، (استعارة من المصطلح البلاغي)، ونذكر منها تجربة كمال التّواتي ولمين النّهدي ورياض النّهدي وهي تجارب نتجت عن الصّعوبات المادّيّة التي أصبحت تعيق الإنتاج المسرحي في مرحلة الثمانينيّات والتّسعينيّات التي شهدت أفول الفرق المسرحيّة الجهويّة القارّة وبروز الهياكل المسرحيّة الخاصّة التي أعقبت ميلاد فرقة المسرح الجديد في 1975.
مسرح الممثّل الواحد أو مسلك الإغراءات
لقد أصبح مسرح الممثّل الواحد مسلكا مغريا من حيث أنّه لا يتطلّب كلفة مادّيّة باهظة، من جهة ومن جهة أخرى باعتباره لا يقتضي إعدادا مسبقا للعمل ولا خلفيّة فكريّة. فهو يعتمد على التّرفيه من خلال المواقف السّاخرة والهزليّة ويتوسّل بتعبيرة هي أقرب إلى لغة الشّارع بتمثّلاتها الواقعيّة وبساطتها دون أن تستوجب اعتماد معالجة دراماتورجيّة، والحاضر فيها الواقع واليومي والمستهلك.
وقد أينعت تعبيرة الممثّل الواحد وفقا لهذه الخيارات الاستهلاكيّة التي أصبحت بمثابة البديل للمسرح الذي يعتمد أكثر من ممثّل واحد والذي لم يشتغل على الجمهور العريض بشكل جدّي ويطالب بانتقائيّة أعماله، بأنّ المسرح، خلافا للسّينما، نخبويّ أو لا يكون. حتّى أنّ ما يسمّى بالجمهور العريض أصبح يصف هذا المسرح بمسرح "الكبّي" أو المملّ والباعث على القرف.
إنّ الإطار الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسّياسي أيضا الذي نشأ فيه مسرح الممثّل الواحد مثقل بإشكاليّات ظرفيّة كانت وليدة عقدي الثّمانينيّات والتّسعينيّات وهي إشكاليّات أفرزتها بالأساس خيارات الدّولة المتمثّلة في إدماج الثّقافة بشكل عامّ في اقتصاد السّوق وركّبت عليها مصطلحات اقتصاديّة كمصطلح الجودة والحرفيّة والتّأهيل وحلقات التّفكير والتّنافسيّة والتّسويق، إلى غير ذلك من المصطلحات الخصوصيّة ممّا أدّى إلى إعادة النّظر في وسائل الإنتاج وأنماطه بالنّسبة إلى المسرح الذي أصبح يقرأ حسابا لمردوديّة إنتاجه وبالتّالي، لرغبات الجمهور وانتظاراته. ولعلّ مسرح الممثّل الواحد بدا كأنسب صيغة تفي بهذه الشّروط.
وما يرجّح ذلك أنّ العروض من هذا الصّنف شهدت مدّا هائلا منذ بداية التّسعينات وصنعت نجوما "تخرّج" أغلبهم من المسلسلات التّلفزيونيّة. فأصبح مسرح الممثّل الواحد بمثابة الحدث الرّياضي يعرض في قاعات الرّياضة وفي مسارح الهواء الطّلق وفي قاعات لا تتوفّر فيها بالضّرورة المقاييس التّقنيّة المناسبة للعرض المسرحي ولا يرتادها بالضّرورة جمهور المسرح الذي اعتاد ارتياد المسارح.
هو جمهور عرضيّ، مناسباتيّ، لا يطلب مقابل تذكرة فرجته (وهي عادة ما تكون مرتفعة)، سوى التّرفيه عن طريق النّكتة والضّحك بما لا يتجاوز غرائزه الاستهلاكيّة البدائيّة.
ولعلّ ما حدث في الأسابيع القليلة الماضية يؤكّد ذلك، من حيث أنّه يبرز أنّ ظاهرة مسرح الممثّل الواحد، وهو يركض وراء إرضاء جمهوره والاستزادة من الجموع الغفيرة التي تنشد فرجته، لا يستثني أيّ قيمة من القيم في طروحاته ولا يقيم وزنا لأيّ علاقة عضويّة مع الأعراف المتعارف عليها كما أنّه يخترق كلّ الحدود المحدّدة لحرّيّة التّعبير وللحرّيّات بشكل أوسع. وهو في ذلك يعوّل على انعدام الوعي لدى "الجمهور العريض" وعلى ذهنه المطمئنّ إلى الضّحكة والنّكتة والسّخرية بوصفها مجموعة أحاسيس عفويّة وبريئة جبلّيّة في الإنسان حتى انّه لا يلام عليها.
لكن إذا تعلّق الأمر بوجود ضحيّة تتأذّى من النّكتة ويشهّر بها فإنّ المسالة تتّخذ أبعادا أخرى ويحدث أن يتدخّل فيها القضاء وهو ما يوشك أن يحدث فعلا فيما يتعلّق بعرض لطفي العبدلي الذي تعرّض فيه لشخصياّت عموميّة وثلبها وشهّر بخصوصياّتها الحميميّة.
ومن المهمّ الوقوف عند مسالة الجمهور الذي يتهافت على هذا الصنف من العروض "الفضائحية" والمحدثة "للبوز" الإعلامي.
والسّؤال الذي يتبادر الى الذّهن هو الحلقة المفقودة في سياسة الدّولة التي تعرّضنا اليها والمتعلّقة بإدراج الثّقافة ضمن منطق السّوق الاقتصاديّة. لقد كان مفترضا انّ عمليّة التّأهيل تشمل الجمهور وتساهم في تطوير ذائقته وذلك أوّلا انطلاقا من سنّ التّنشئة الاجتماعيّة وصولا إلى التّعليم الجامعي. وقد لعب المسرح المدرسي والجامعي في السّبعينيّات والثّمانينيّات دورا مهمّا حينما كان يدرّس وينتج ويجمع جمهورا غفيرا في مهرجانه السّنوي وهو جمهور يتوفّر على قدر من النّباهة والوعي ، له ذائقة تمكّنه من تقييم العرض المسرحي والتّمييز بين المسرح الجادّ في طرحه ولو كان مسرحا هزليّا والمسرح المراود لرغبات الجمهور الحسّيّة البدائيّة. إلاّ أنّ هذا المسرح أوشك على الاندثار لأسباب كثيرة.
من جهة أخرى، يجدرالوقوف على دور الفضاء الشّغلي وتأطير العمّال والموظّفين بتمكينهم من مشاهدة عروض مسرحيّة ترتقى بذائقتهم وتحصّنهم ضدّ مصيدة العروض الفرجويّة التي تلغي ملكة التّفكير والتّذوّق السّليم للمسرح دون استراق النّظر(voyeurisme) إلى حميميّة الآخر وحياته الخاصّة ودون أن يجد نفسه شاهد زور في قضيّة حرّيّة التّعبير.
إلى جانب هذين الفضائين المدرسي والجامعي من جهة والشّغلي من جهة أخرى، تبقى وسائل الاتّصال السّمعي والبصري معنيّة بصياغة ثقافة مسرحيّة ترتكز على العرض المسرحي المتلفز كما تتيح المجال لصنّاع المسرح ليشركوا الجمهور في أحلامهم التي يذكّونها من أجلهم وفي معاناتهم ومسالك إبداعهم عن طريق المختصّين في النّقد المسرحي وبذلك تتشكّل لدى الجمهور الضّمني مجموعة من المعطيات والأفكار التي تهذّب ذائقتهم وتحميهم من الابتزاز الذي يمارسه المتلبّسون بالفنّ والنّجوميّة، غير أنّ الإعلام الذي من المفترض أن يؤدّي هذه الوظائف أنساق وراء وبرامج تافهة لا تغني ولا تسمن من جوع.
وتبقى معادلة النّزول بالفنّ إلى مستوى الجمهور أو الارتقاء بالجمهور إلى مستوى الفنّ باحثة عن الحلّ، حتّى يستقرّ أمر السّياسي وحتّى تجد الثّقافة مكانا لها في زمن "الفتنة الكبرى" التي ارتبكت فيها العبارة وتصدّعت فيها أسس القيمة فما بالك بالفكر الإبداعي؟
فوزية بلحاج المزّي
- اكتب تعليق
- تعليق