حكم الإعدام: بين مفهوم كونية حقوق الإنسان وآلام أهالي الضحية
بقلم الدكتور سيّد الميلادي - أُثير في الأيام الأخيرة جدل كبير، في الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي، حول تطبيق حكم الإعدام في تونس بسبب حادثتي القتل الشنيع اللتان ذهب ضحيتها فتاتان في مقتبل العمر.
إنقسم التونسيون إلى شقين متضادين: شق ينادي بالتطبيق الفوري لحكم الإعدام إنتقاما من الجناة وشق آخر ينادي بإلغاء هذه العقوبة لإنتفائها مع منظومة حقوق الإنسان.
سكيزوفرينيا التعامل مع عقوبة الإعدام في تونس
حكم الإعدام موجود في القانون التونسي منذ سنوات لكنّه لا يطبق منذ إعدام سفاح نابل الناصر الدامرجي سنة 1994.
تطبيق حكم الإعدام يتطلب موافقة رئيس الجمهورية، لكن في تونس، يتم إيقاف تنفيذه وتعويضه بحكم السجن مع الأشغال الشاقة. وهنا، يرى الكثيرون أنّ عدم تطبيق هذا الحكم له مخاطر كثيرة تصل حتى إلى إطلاق سراح المجرم وهذا ليس خيالا علميا بل حقيقة مؤسفة: حكم السجن مع الأشغال الشاقة يمكن إلغاؤه في القانون بعفو رئاسي في أحد الأعياد الرسمية أو بعفو تشريعي عام كما حدث مع إرهابيي عملية سليمان بعد الثورة.
إطلاق سراح الجناة في هذه الحالة هو ببساطة عملية قتل ثانية للضحية وعملية إغتيال رمزية ومعنوية لذويها. فضلاعلى أن قتلة الأرواح يعاودون الكرة من جديد حال خروجهم من السجن.
وبعيدا عن التعامل الغرائزي إزاء حكم الإعدام وبعيدا عن التأويل الديني لهذا الحكم، لاتوجد إلى حدّ الآن أي دراسات جدية تثبت أنّ تطبيقه يحدّ من جرائم القتل بلّ إنّ الإرهابيين يبحثون عنه ويعتبرونه للأسف شهادة في سبيل لله.
حكم الإعدام لا يُرجع روح الضحية، لكن يرى البعض أنّ تنفيذه هو ردّ إعتبارلآهاليها، يطفئ البعض من لوعتهم ويكمدّ البعض من جراحهم الأبدية التي لا تندمل مع مرور الزمن.
نظريا، ألغت الكثير من الدول وخاصة الأوروبية منها حكم الإعدام إنسجاما مع منظومة حقوق الإنسان، لكن عمليا، تقوم بعض هذه الدول بتنفيذ عمليات إعدام مقنعة بلا محاكمات عبر بيع أسلحة تغدي النزاعات الأهلية في دول العالم الثالث وتحصد سنويا آلاف الأرواح وعبر حروب وحشية بإسم نشر الديمقراطية.
وهنا، يطرح سؤال حارق حول مدى قدسية الحياة البشرية في هذه الدول بين التنظير الجميل والواقع الدموي ويطرح أيضا موضوعا فلسفيا معقدّا وعميق حول الفرق بين مفهوم الإنسانية كقيم ومبادئ ومفهوم الإنسان كذات فيزيولوجية وخاصة كأفعال، الكثير يعتقد أنّ الكائن، الذي إغتصب طفلا بريئا وقتله، خرج فعلا من مفهوم الإنسانية وحتى الحيوانية ولا يجب تطبيق حقوق الإنسان عليه.
حقوق الإنسان: بين مطرقة القيم وسندان الرغبة في الإنتقام
النضال من أجل إلغاء عقوبة الإعدام كان محورا هاما و أساسيا لكل الحقوقيين على مدى عشرات السنين، فقد تمّ إستعمال هذه العقوبة من قبل الطغاة والدكتاتوريين من أجل التنكيل بمعارضيهم وقمع كلّ صوتحرّ يغرد خارج سرب النظام، فالإعدام لم يكن أداة لإنفاذ العدالة وقد ذهب ضحيته العديد من الأبرياء على مرّ التاريخ، هناك أشخاص أعدموا في قضايا حقّ عامّ تمّ إثبات برائتهم بعد تنفيذ الحكم، فهامش الخطأ ولو كان ضئيلا موجود حتّى في أعتى الأنظمة العادلة والقتل هو مفهوم نهائي لا رجعة فيه فلا نستطيع إرجاع روح بشرية لمتهم لم يرتكب الجريمة وهذا يطرح إشكال تحمّل الدولة، كذات قيمية، لفعل يضع إنسانيتنا على محكّ الظلم والقهر.
إلغاء عقوبة الإعدام هو أيضا تكريس للتمايز الإنساني عن وحشية القاتل ويرى أغلب الحقوقيين أنّ الإعدام هو إنتقام غرائزي لا يجعلنا نختلف كثيرا عن المجرم وقد نصبح في الأخير مثله لكن في ثوب "العدالة". وللأسف، أصبح الحقوقيون هذه الأيام في مرمى نيران الشعبويين ولم يسلم أحد منهم من السبّ والشتم وهتك الأعراض، بل إنّ بعض من يطالب بإعدام الجناة (لا أعمم، هناك الكثير من الصادقين ممن آلامتهم فظاعة الجرائم ورأيهم وجيه ومحترم) هم ممن يبيضون الإرهاب ويدعمونه إعلاميا أو ممن يقومون بجريمة الإغتصاب الرقمي حيث "يترحمون" على الضحية ومن ثم يبررون إغتصابها بدعوى أنّ ملابسها مثيرة.
بين هذا الموقف وذاك، أجد نفسي حائرا وتائها بين دموع أهالي الضحايا بالرغم من معارضتي المبدئية لحكم الإعدام ووجدت نفسي في حالة اللاموقف وهو شيء أكرهه كره الملائكة للشرّ. وسئلت نفسي سؤالا وجوديا: هل كنت لأرفض حكم الإعدام لو كنت لا قدر الله من بين أهالي الضحية؟
في الحقيقة، لا أملك الإجابة ولن أدّعي بطولة البعض في صرامة مواقفهم المناهضة لحكم الإعدام، فهذا ترف فكري ثمنه النفسي باهض وسط صرخات أهالي الضحايا. لكن في الأثناء، سأفكر مليّا وبصمت إحتراماوإنحناء لآلامهم وبعيدا عن الغوغاء والشعبوية والإثارة الإعلامية والسياسوية.
الدكتور سيّد الميلادي
صيدلي بيولوجي، ناشط في المجتمع المدني وطالب في علم النفس.
- اكتب تعليق
- تعليق