تونس والتعاون الدولي اللامركزي: آفاق وانتظارات

تونس والتعاون الدولي اللامركزي: آفاق وانتظارات

بقلم محمد المأمون حمدي -  يعتبر التعاون اللامركزي أحد أهم ملامح اللامركزية وآليات تحقيق التنمية المحلية خصوصا بعد تعاظم دور الجماعات المحلية محليا ودوليا، خاصة إذا اخذنا بعين الاعتبار ان من مقاييس القوة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، القدرة التنافسية لجماعاتها الترابية ،فضلا عن انها تعكس رغبة الدولة في توسيع ممارستها الديمقراطية.

إنّ التعاون اللامركزي كمفهوم ارتبط بالعلاقات فوق وطنية Relations spranationales للجماعات المحلية من خلال التعامل بين وحدات محلية تنتمي لأنظمة إدارية وقانونية مختلفة وبشكل عام تنتمي الى دولتين مختلفتين. ويقصد بالتعاون اللامركزي جميع أنواع التعاون والشراكة التي تقوم بها الجماعات الترابية فيما بينها او مع الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين او مع الجماعات الترابية الأجنبية او مكونات المجتمع المدني من منظمات غير حكومية ذات الاهتمام بالشؤون المحلية، لان الهدف الأسمى من التعاون اللامركزي النهوض بالإنسان عبر النهوض بمواطنته والذي لا يمكن تحقيقه إلّا بتحقيق التنمية الشاملة له.

هذا، وتجدر الإشارة أيضا الى ظهور  فاعلين جدد في مجال التعاون اللامركزي ، فاذا كان  الشكل الكلاسيكي القديم للتعاون اللامركزي يقتصر على التعاون بين الدولة ممثلة في سلطاتها المركزية والجماعات المحلية  في مجال التعاون اللامركزي، فان الواقع اليوم فرض شركاء وفاعلين جدد على رأسهم القطاع الخاص ومكونات المجتمع المدني ، إلاّ أن هذه الصلاحيات الممنوحة للجماعات المحلية في مجال التعاون اللامركزي تبقى خاضعة للسلطة المركزية وهو ما من شانه أن يخلق علاقات تصادمية بين القانوني و التنموي والاقتصادي في عمل المجالس المنتخبة.

يظل دعم التعاون اللامركزي في تونس أحد أهم البدائل والخيارات لتحقيق التنمية ومقاومة الفقر وتعزيز الاستثمار اذ يمكن للجماعات المحلية التونسية من خلال تكوينها لعلاقات خارجية مع أخرى اجنبية ان تلعب  دورا طلائعيا في التنمية الاقتصادية وفي تدبير الشأن العام المحلي خاصة بعد تراجع دور الدولة في تدبير مختلف المرافق لوحدها ، كما أنّ اهتمام المشرع التونسي بالتعاون اللامركزي والتنصيص عليه في الدستور وإفراده بباب كامل خاص بالجماعات المحلية  يعكس إقرار المشرع التأسيسي بقيمته والحاجة المؤكدة الى ارسائه وتفعيله.

التعاون اللامركزي أحد اليات تحقيق التنمية المستدامة

أصبح التّعاون اللامركزي أحد المحاور التي بات تداولها ومعالجتها أكثر تواترا في المؤتمرات الدولية والإقليمية الكبرى ومحل اهتمام أعتى القوى الاقتصادية في العالم لأنها تمكنها من موطأ قدم في أسواق جديدة وكسب شراكات جديدة مثمرة.

وفي هذا السياق، وأخذا بعين الاعتبار مخرجات مؤتمرات التنمية المستدامة بريو دي جانيرو او ما اصطلح عليه "ريو + 20" المنعقد من 12 الى 22 جوان 2012، وقبله  قمة الأرض في 2002 أو ما اصطلح على تسميتها ب ريو +10 في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا ، فإنه لم يعد مسموحا اليوم انتفاع عشرين بالمائة فقط من سكان العالم بثمانين بالمائة من خيرات الارض، ومن الظلم والحيف مواصلة العمل بهذا المنوال التنموي، وحتى يتسنى للجماعات المحلية وضع وتنفيذ سياسات ومقاربات ترمي الى تحقيق أهداف التنمية المستدامة ، فإنّ التعاون اللامركزي يبقى أحد أهم الاليات المساعدة على تحقيقها عبر اتفاقيات توأمة بين المدن و تأسيس شراكات بين الجماعات المحلية بمختلف انتماءاتها.

كما تعتبر الإدارة المحلية الحلقة الوسيطة الرابطة بين الحكومة المركزية والمواطن، لذلك فهي من خلال ما تؤديه من مهام وفي إطار صلاحياتها، تضطلع بدور هام في تحقيق التنمية المستدامة على المستوى المحلي بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

هذا، وتكمن أهمية دور الإدارة المحلية في تحقيق التنمية المستدامة في توسيع فرص المشاركة من أجل وضع الخطط الكفيلة بتحقيق طلبات المجتمع المحلي من جهة وممارسة الحكم من جهة أخرى، علاوة على حسن إدارة الموارد المحلية وترشيدها في ظل ممارسة نشاط اقتصادي محلي يحترم البيئة ويضمن توفير ضروريات الافراد في حدود الصلاحيات التشريعية الوطنية الممنوحة لها.

التعاون اللامركزي إحدى أوجه الديبلوماسية الموازية وأحد روافد التعاون الدولي:

إنّ التعاون بين المدن والاقاليم ممارسة قديمة، وإن كان التمثيل الدبلوماسي مظهرا من مظاهر السيادة واحتكاره من طرف الدولة المركزية، فإن ذلك لا ينفي إمكانية استعانة الدولة بالجماعات المحلية للدفاع عن القضايا الوطنية أمام المجتمع الدولي.

ومن عوامل بروز هذا النوع من التعاون، التشارك في الحدود للتعاون بين جماعتين محليتين لدولتين متجاورتين، وهي كما رأينا ممارسة برزت بأوروبا في إطار دور الجماعات المحلية في تحقيق الوحدة الأوروبية وفق ما يعرف بالتعاون الحدودي coopération transfrontalière  الذي تم تنظيمه من قبل اتفاقية مدريد في 21 ماي 1980.

وكان الفضاء الأوروبي مجالا لتطور العلاقات الخارجية للجماعات المحلية، بحيث اقتضت الوحدة الأوروبية رأب الصدع بين شعوب القارة عبر تكثيف العلاقات القاعدية بين الجماعات المحلية، بداية بأعمال التوأمة، ثم ارساء تعاون فعلي بين الجهات المتجاورة حدوديا لتدبير بعض الشؤون المشتركة بينها.

وبمرور الوقت، اصبح التعاون اللامركزي يغطي مجالا جديدا للعلاقات الدولية تلعب فيه الجماعات المحلية دورا رئيسيا في مجال كان مخصصا فقط للحكومات المركزية، واصبحت عديد الجماعات المحلية تشارك بانتظام في التظاهرات والمؤتمرات الدولية مثل قمم ريو (1992) وجوهانسبرغ (2002) - منتدى المياه العالمي - قمة كوبنهاغن - ريو +،كما اصبحت تتشكل في شبكات اقليمية ودولية من أجل بعث ديناميكة جديدة في العلاقات الدولية ذلك أنّ شبكات المدن والجهات التي تم إحداثها أسّست لمجموعة من المبادئ في مجال التعاون اللامركزي قوامها المساواة واحترام الهويات والجنس والديانة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للجماعات وللبلدان التي تنتمي إليها والتضامن من أجل غد أحسن.

ومن أوجه التعاون اللامركزي، التوأمة بين المدن والتي تطورت على أساس اتفاقات مشتركة، لم يكن محتواها ملموسا بما يكفي، ولكنها مكنت – مع ذلك – من تعميق التعارف وتعزيز التبادلات بين المدن التي انخرطت في هذه العملية. ومع مرور الزمن، تطورت هذه التوأمات لتصبح أدوات حقيقية للتعاون اللامركزي الذي اتجه تدريجيا نحو مبادرات للتنمية الاقتصادية وتبادل المعرفة التقنية والخبرة الإدارية.

أخيراً نستطيع القول أنّ ديبلوماسية التعاون اللامركزي يجب ان تكون مكملا لدور السلطة المركزية الديبلوماسي او الديبلوماسية الرسمية بتوفيرها للدولة المركزية فرص الاستفادة من العلاقات الخارجية مع نظيراتها بالدول الغربية المتقدمة في مختلف مجالات التنمية، ويحتاج تطوير ديبلوماسية التعاون اللامركزي الى إجراء بعض التعديلات في المؤسسات القانونية والادارية في الدولة لتقنين الممارسة و لخلق قنوات تنسيقة بين الحكومة المركزية و الحكومات المحلية بصورة تؤدي إلى الاستفادة القصوى من هذا النشاط الخارجي الجديد.

تونس والتعاون اللامركزي

أصبح للجماعات الترابية دور رئيسي في المجالات المرتبطة بالتضامن والتعاون الدولي وان الانخراط التدريجي لهذه الوحدات في المشهد الدولي ساهم في صعود ديبلوماسية موازية باتت تحتل فيها الجماعات الترابية مكانة بارزة.وانخرطت تونس في مسار التعاون اللاّمركزي على الصعيدين الثنائي ومتعدد الاطراف منذ  ستينات وسبعينات القرن الماضي حيث تضطلع عديد الجماعات المحلية التونسية بالعضوية في عدد من الشبكات والمنظمات الدولية والاقليمية للتعاون اللامركزي مثل منظمة المدن والسلطات المحلية المتحدة الإفريقية ومنظمة المدن العربية ومنظمة العواصم والمدن الإسلامية و الجمعية الدولية لمسؤولي العواصم والمدن الناطقة كليا أو جزئيا بالفرنسية ومنظمة المدن والسلطات المحلية المتحدة واللجنة القارة للشراكة الأورو متوسطية للسلط المحلية والجهوية و الشبكة الأور متوسطية للمدن الأورو متوسطية.

أما على المستوى الثنائي فقد وقعت عديد المدن التونسية عشرات اتفاقيات التوأمة مع مدن من جميع قارات العالم.

إنّ تونس اليوم في حاجة الى تعزيز  "التعاون اللامركزي الدولي" من خلال إبرام اتفاقيات تعاون ثنائي والحضور المكثف في المنظمات الدولية والجهوية، وترجمة هذا الحضور و هذه الاتفاقيات إلى تعاون حقيقي في مختلف المجالات  الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية  ممّا يمكّن الجماعات المحلية التونسية من الاستفادة إداريا وخاصة في ما يتعلق بطرق التسيير الإداري العصري و الحوكمة ويتيح  تبادل الخبرات والتجارب مع نظيراتها بالبلدان الاخــرى ، ولهذا التعاون مع هذه المنظمات أهمية بالغة باعتباره احد الجسور لجلب الاستثمارات والنهوض بالتنمية ، فالانخراط في المنظمات والجمعيات التي تهتم بالشأن المحلي يعتبر محطة مهمة في طريق تحقيق التقدم على مستوى المجالس المحلية، باعتبار ذلك يساعد على تحسين الظروف المعيشية والرفع من مستوى نوعية الحياة في إطار تنمية حضرية مستدامة، نظرا لكون هذه المنظمات تساعد على التعاون في سبيل مواجهة مختلف التحديات التي يفرضها الواقع.

وفي سياق الاهتمام والوعي المتزايد بأهمية التعاون اللامركزي، عمل المشرع التونسي على دسترة وتقنين القواعد المنظمة للامركزية اذ بادر منذ الاستقلال الى تنظيم التعاون اللامركزي من خلال عديد النصوص  ذات الصلة باللامركزية وتنظيمه في الباب التاسع لدستور الجمهورية الثانية – السلطة المحلية-وتحديدا في الفصل  140 منه و القانون الأساسي عدد 33 لسنة 1975 المؤرّخ في 24 جويلية 1975 المتعلق باصدار القانون الاساسي للبلديات  والذي تم تنقيحه بمقتضى القانون الاساسي عدد 68 لسنة 1995 المؤرّخ في 24 جويلية 1995 والذي تم تعويضه  بعد الثورة بالقانون الأساسي عدد 29 لسنة 2018 مؤرخ في 9 ماي 2018 يتعلّق بمجلة الجماعات المحلية سعيا من المشرّع إلى  تنظيم العلاقات فوق وطنية والدولية التي تشهد تطورا كبيرا ومحل اهتمام المنظمات الدولية والدول ولا سيما الكبرى منها، وعلى سبيل الذكر دأبت الصين التي تولي أهمية قصوى لإفريقيا وأهمية الشراكة معها، على تنظيم المنتدى الصيني – الافريقي للتعاون على مستوى السلطات المحلية تتم فيه معالجة قضايا مكافحة الفقر وتحقيق التنمية المستدامة والاستثمار وغيرها من القضايا ، وتشرف على تنظيمه جمعية صداقة الشعب الصيني مع الأجانب وينتظم بالتزامن مع انعقاد قمة منتدى التعاون الصيني – الافريقي.

إنّ تفعيل الدبلوماسية الموازية مرتبطا بتوفير عوامل نجاح اخرى منها على وجه الخصوص استكمال تركيز اللامركزية في تونس والتنسيق مع مختلف الفاعلين في السياسة الخارجية التونسية ودراسة كل القنوات التي يتعين استخدامها خدمة للمصالح العليا للوطن.

ولن يتحقق ذلك إلا بتشريك الهيئات السياسية المعنية ومراكز البحث العلمي ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة في مجال الدبلوماسية والعلاقات الدولية من أجل بلورة استراتيجية تعاون تراعي أولا التوجهات والمبادرات ذات الصلة بالسياسة الخارجية للبلاد وسيادتها ووحدتها الترابية.

وتجدر الإشارة إلى أنّ عديد المخاوف المشروعة من تفعيل التعاون اللامركزي وتأثيره على السياسة الخارجية الرّسمية لتونس كما يمكن أن يكون مطيّة لإضعاف السلطة المركزية والتدخل في الشؤون الداخلية لبلادنا ، وفي هذه الحالة  وجب التمييز بين التعاون اللامركزي أو ديبلوماسية المدن والذي من أبرز مظاهره اتفاقيات التوأمات واتفاقيات التعاون اللامركزي بين الجماعات المحلية العمومية ( مجالس بلدية وجهوية الخ...) والأقاليم والمقاطعات وهو ما ينسحب على الدول الفدرالية كالهند والعراق وغيرها من البلدان التي تعرف صراعات داخلية وسعي الى الاستقلال عن الدولة المركزية كما يحدث في كردستان العراق او الباسك في اسبانيا او كشمير الهندية الخ.... والتي تقف وراءها عوامل طائفية ودينية وثقافية وهو غير الواقع التونسي الذي يقوم على قدر كبير من التماسك الاجتماعي الصّلب والراسخ في تاريخ اجتماعي وحضاري ضارب في القدم، بالإضافة إلى أنّ هذه المسألة مؤطّرة قانونيا وتشريعيا من أعلى نص قانوني إذ نظم الفصل 140 من الدستور مجال التعاون اللامركزي "يمكن للجماعات المحلية أن تتعاون وأن تنشئ شراكات فيما بينها لتنفيذ برامج أو إنجاز أعمال ذات مصلحة مشتركة كما يمكن للجماعات المحلية ربط علاقات خارجية للشراكة والتعاون اللامركزي و يضبط القانون قواعد التعاون والشراكة.

وقطع المشرع التونسي الطريق أمام أي سعي أو محاولة ترمي الى إضعاف الدولة التونسية وتهديد وحدتها وتهميش دور السلطة المركزية وكل ما من شانه أن يبيح التدخل في شؤونها تحت مظلة اتفاقيات التعاون اللامركزي من خلال الفصول 40- 41- 42 من مجلة الجماعات المحلية العمومية.

ختاما لا يمكن تحقيق تعاون لا مركزي فعال ومفيد لتونس إلا بتجاوز التحديات وخاصة استكمال البناء المؤسساتي للنظام اللامركزي سواء المجالس الجهوية المنتخبة أو المجلس الأعلى للجماعات المحلية وهي الهياكل اللاّزمة لتحقيق التوازن صلب المنظومة المركزية من جهة وكذلك في علاقة بباقي منظومات السلط مركزيا وعلى المستوى اللاّمحوري وسن القوانين المنظمة لهذا المسار وضبط بعض المفاهيم التي قد تخلق اشكالات في مستوى علاقة السلطة المركزية باللامحورية.

هذا، ويجب تكثيف تنظيم التظاهرات والمؤتمرات وحلقات النقاش وورشات العمل للتحسيس بقيمة وأهمية التعاون اللامركزي بالنسبة لبلادنا في ظل التحديات الخطيرة التي فرضتها العولمة والقصور الذي باتت تعيشه السلطات المركزية لتحقيق مطالب مواطنيها.

محمد المأمون حمدي
مستشار بمجلس نواب الشعب
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.