أخبار - 2020.08.06

منوال التنمية في تونس: التساؤلات الأولية المطروحة والمقوّمات

منوال التنمية في تونس: التساؤلات الأولية المطروحة والمقوّمات

بقلم منجي المقدم - كثر الحديث حول مسألة منوال التنمية لأن كل مشاكل الاقتصاد التونسي لا يمكن حلحلتها الا في إطار خيارات استراتيجية يقع تحديدها والاتفاق عليها مسبقا. وهذه الاختيارات تشكل منوال التنمية.

منوال التنمية ليس برنامجا اقتصاديا وليس مجموعة من الإصلاحات بل هو مجموعة من المحاور الاستراتيجية التي يجب اتباعها من اجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلاد ولشعب. وهو الإطار المرجعي الذي يلجأ اليه المسؤولون لتحديد الاتجاهات الاستراتيجية الكبرى التي يتم ضمنها بلورة الإصلاحات الجوهرية والسياسات العمومية.

يمثل بناء منوال تنمية قطيعة كلية مع الماضي. وكثيرا ما يطرح العديد من التساؤلات الأولية التي يجب الإجابة عنها بكل وضوح.

1 ـ لمن تعود مهمة بناء منوال التنمية؟

يكتسي هذا التساؤل أهمية كبيرة لان تونس، مثل العديد من البلدان، تشهد صراع مشروعي مجتمع متناقضين من حيث الاختيارات الأساسية. فهل من الممكن اليوم التفكير في منوال تنمية يقع بناؤه من طرف كل مكونات المجتمع بقطع النظر عن الخلافات الأيديولوجية التي تشق هذه المكونات والتي تكتسي في بعض الأحيان طابعا عدائيا ؟ هل من الممكن الوصول الى توافق كل هذه المكونات حول الخيارات الجوهرية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ستكون أسس منوال التنمية الذي سيتم تحديده ؟

ان اي منوال تنمية هو بمثابة تجسيم لرؤى وبرامج مجموعات سياسية واجتماعية متجانسة وبالتالي ليس هناك أي امكانية لبلورة منوال تنمية يحظى بموافقة كل الأطراف سواء كانت تقدمية او رجعية، حداثية او متخلفة، اشتراكية او ليبرالية، مدنية او دينية، ديمقراطية او ظلامية؟ ان التوافق الذي يشترط ايجاده حول التوجهات الأساسية لمنوال التنمية لا يمكن ان يحصل لان قاعدة التوافق تفرض ان لا تنفذ الا الإجراءات التي حظيت بموافقة الجميع وهذا الاجماع لا يمكن تحقيقه الا داخل الأطراف التي تتقاسم نفس القيم والاهداف. ولنا في التجربة التونسية منذ الثورة أحسن مثال على ذلك، حيث ظلت كل القرارات الهامة معطلة نظرا لغياب التوافق بين المكونات السياسية والاجتماعية الفاعلة وكذلك بسبب هيمنة التجاذبات والصراعات والمحاصصة فيما بينها.

ان منوال التنمية المنشود هو المنوال القادر على تلبية طموحات الشعب التونسي وتحقيق أهداف الثورة في التنمية في كل المجلات وخاصة منها الاقتصادية والاجتماعية. وبما ان الثورة التونسية في جوهرها ثورة اجتماعية، فان تحديد مكونات هذا المنوال هي مهمة كل الأطراف الوطنية والتقدمية من أطراف سياسية ونقابية ومجتمع مدني.

2 ـ حسب اية مقاربة تقع بلورة منوال التنمية؟

قد اثبتت التجربة ان النيوليبرالية لا يمكن أن تمثل مرجعا لمنوال تنمية يستجيب لانتظارات السواد الأعظم من الشعب التونسي من حيث "الشغل والحرية والكرامة الوطنية". فحسب المقاربة النيوليبرالية، تلعب آليات السوق الدور الأساسي في النشاط الاقتصادي مع تغييب متعمد لتدخل الدولة. وهنا لا بد من طرح السؤال التالي: هل يمكن ربط مصير البلاد بقوانين السوق التي اثبتت، عبر مختلف التجارب التاريخية، ضعف جدواها وخاصة مسؤوليتها في انتشار الفساد والتهريب والسوق الموازية والتفاوت الاجتماعي والجهوي. ولذلك فان تونس في حاجة الى مقاربة اجتماعية تتطلب وجود قطاع عمومي قوي يتولى توفير الخدمات العمومية الاستراتيجية ويمكن الدولة من وضع حد لكل التجاوزات والانزلاقات والتشوهات التي كثيرا ما تتسبب فيها السوق، مع التأكيد على ضرورة تدعيم بعض الآليات التعديلية للسوق من أجل تحفيز النشاط الاقتصادي وتشجيع المبادرة الفردية.

3 ـ أي دور للدولة؟

خلافا لما تروج له الدعاية النيوليبرالية، فان البلدان الصاعدة لم تتمكن من تحقيق تنميتها الا بفضل الدور النشيط للدولة وتدخلاتها في مختلف المجالات. لذلك، أصبح من الضروري إعادة تعريف دور الدولة في إطار منوال التنمية المنشود.

• الدور الاستراتيجي : يتضمن تحديد الاتجاهات الكبرى للسياسات العمومية من حيث الاهداف المنشودة والوسائل التي سيقع استعمالها لبلوغ هذه الأهداف.

• دور الدولة كحكم : تقوم الدولة بالتحكيم بين مختلف الاختيارات من حيث الأهمية والاولوية على غرار الاستثمارات في المشاريع الكبرى والتنمية الجهوية.
• دور الدولة التوزيعي : يتمثل هذا الدور في تحديد وإنجاز السياسات اللازمة من أجل توزيع عادل للثروة خاصة من خلال تطبيق سياسة جبائية جادة.

• دور الدولة الاجتماعي : في هذا المجال، تتولى الدولة مهمة حماية الفقراء وأصحاب المداخيل الضعيفة والمهمشين من خلال وضع  برامج اجتماعية لفائدتهم. كما تقوم بتطوير الخدمات الاجتماعية على غرار التربية والصحة والنقل والضمان الاجتماعي.

• دور الدولة كمنتج للسلع والخدمات : بالرغم من كل ما يقال حول ضرورة انسحاب الدولة من القطاعات الإنتاجية بحجة عجزها عن تطبيق الحوكمة الرشيدة، فان تدخل الدولة في الإنتاج، بفضل مؤسساتها العمومية، لا يزال يفرض نفسه بكل قوة خاصة في بعض القطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة والنقل والماء والدواء وذلك لان جسامة التحديات التي تفرضها مختلف الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية التي تواجهها بلادنا من جهة وضعف القطاع الخاص وعدم قدرته على مجابهة تداعيات هذه الازمات من جهة أخرى. ومع ذلك فان الدولة مطالبة بالتحلي بالجرأة والشجاعة لوضع حد لسوء التصرف وانتشار الفساد الذي ما انفك ينخر المؤسسات العمومية. وبذلك تكون قد توصلت الى تحقيق المصالحة بين المردودية الاقتصادية والالتزامات الاجتماعية.

إنّ مجرد استعراض مختلف هذه الأدوار التي يجب على الدولة أن تلعبها ضمن منوال التنمية الجديد لدليل قاطع على الحاجة الحيوية لدولة قوية تحظى بمصداقية وشرعية كافيتين لأداء مهامها. وبذلك، لن تكون الدولة أصل المشكلة بل تصبح الحل المنشود.

لكن ذلك لا يعني تجاهل القطاع الخاص أو اهماله. فالدولة مطالبة باتخاذ الإجراءات التحفيزية الكافية لتمكينه من المساهمة في تنمية القطاعات الإنتاجية والجهات، مع التأكيد على الدور الاجتماعي والمواطني الذي يجب أن يلعبه هذا القطاع خاصة في ميادين التشغيل والتكوين والأجور والخدمات الاجتماعية.

4 ـ ما هي اتجاهات المنوال التنموي؟

بعد الإجابة عن التساؤلات الأولية، تطرح بصفة مباشرة مسالة مكونات منوال التنمية أي الاتجاهات التي سيتخذها هذا المنوال ليكون فعلا الضامن لتنمية شاملة في خدمة السواد الأعظم من الشعب التونسي. ويمكن تعريف هذه الاتجاهات كما يلي :

بناء منوال تنمية جاد وفاعل هو مهمة القوى الوطنية والتقدمية والديمقراطية.
منوال التنمية يجب أن يندرج في إطار اقتصاد اجتماعي بعيدا عن المنهج الليبرالي الذي لا يمكن ان يحقق الا نموا لفائدة الأقلية
وعلى حساب الأغلبية.
النمو يتحقق بدفع من القطاعات ذات القيمة المضافة العالية ويكون هدفه الأول والأخير تحسين ظروف عيش المواطنين.
التنمية الجهوية يجب ان تكون من أهم مكونات منوال التنمية.
دور الدولة يجب ان يكون نشيطا ومؤثرا في كل المجالات.
القطاع الخاص يجب أن يحظى بكل التحفيزات ويتمتع بكل الامتيازات ليقوم بدوره الاقتصادي والاجتماعي الى جانب القطاع العام.
التداين الخارجي لا يمكن اللجوء اليه الا بصفة استثنائية ولغاية تمويل الاستثمارات دون سواها.
الإصلاحات التي من المفروض القيام بها يجب ان تكون متطابقة مع منوال التنمية وليست وليدة املاءات المؤسسات المالية العالمية.
لا بد، في الختام، من الإقرار بوجود بدائل فعلية للعولمة النيوليبرالية من شأنها أن تمكن شعوب العالم من مقاومة الفقر والبطالة والحيف الاجتماعي وتوفر لها التنمية العادلة والعيش الكريم.

منجي المقدم
أستاذ العلوم الاقتصادية
جامعة تونس المنار


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.