عامر بوعزة: تونس في عيون الآخرين
بقلم عامر بوعزة - في مقال نشرته صحيفة «العربي الجديد» بعنوان «ماذا يجري في تونس؟» نقف على صورة نموذجية للأزمة السياسية التونسية من منظور خارجي. وكاتب المقال الدكتور محمد صالح المسفر أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر، يُعرّف نفسه بأنه «يحمل على كتفه الأيمن قرابة السبعين خريفا، وعلى الكتف الآخر يحمل همّ أمته العربية منذ نعومة أظفاره، وازدادت همومه بما يجري في تونس، أمّ الربيع العربي»، وقد اختار أن يكتب مقالته هذه في شكل رسالة موجهة إلى الرئيس قيس سعيّد الذي «لا يختلف التونسيون على نزاهته»، لا سيما أنه جاء إلى الرئاسة برغبة جماهيرية واسعة «لم يسبقه إلى مثلها زعيم عربي»، فيضع الكاتب نصه في إطار النصح والمشورة اللذين ينبغي أن يسديهما «معشر القلم الحرّ»، لهذا الرئيس الاستثنائي ولو من خلف حدود الجغرافيا التونسية.
يتألف النص من أربع فقرات يحدّد فيها الكاتب للرئيس عناصر الأزمة السياسية التي جعلت تونس كما يقول في خاتمة مقاله «تسير إلى منزلق خطير» سيؤدي بها ما لم يتّحد حكماؤها ويتضامنوا إلى أن تصير «ساحة تعبث بها أموال بني نفط من أعداء الشعب العربي وتقدمه». أول هذه العناصر دعوة الرئيس إلى تحقيق الديمقراطية الشعبية وسيره بخطوات سريعة إلى إرباك العملية السياسية بتجاوز الأحزاب والبرلمان عند اختيار رئيس الحكومة الجديد! ويتمثل العنصر الثاني في وجود أحزاب يسميها الكاتب «أحزاب الصدفة»، ويرى أنها تعيق السير نحو ديمقراطية حقيقية لأنها لا تمتلك مشروعا وطنيا تونسيا غير العودة بالبلاد إلى الاستبداد والطغيان خدمة لمصالح أطماع أجنبية، أما العنصر الثالث فيتمثل في وجود «حملة ظالمة» تستهدف حركة النهضة التي يقول إنها «ليست وليدة الساعة ولا يشكّك أحد في وطنية زعيمها راشد الغنوشي أو أي من كوادرها». ويلخص الكاتب المنزلق الخطير الذي قد تؤول إليه الأوضاع في تونس بالتعبير عن خشيته من عدم نيل حكومة هِشام المشيشي الثقة في البرلمان والذهاب إلى انتخابات جديدة سينجح فيه «حزب الريال والدرهم والدولار».
يسترعي مقال الأستاذ محمد صالح المسفر الانتباه لأنه يقدم لنا الصورة النموذجية لتونس في عيون الآخرين، وهي صورة تنطلق من تفخيم التجربة التونسية تحت مسمى «ثورة الياسمين» وتبجيلها بوصفها القاطرة التي تقود «الربيع العربي»، ثم لا يُنظر إلى الانتقال الديمقراطي إلا في ضوء الموقع الذي يمثله هذا التيار أو ذاك داخل خارطة المتغيرات السياسية، وعلاقة الحراك الداخلي بالمال السياسي بوصفه من أهم أدوات التأثير والاختراق والعمالة لتوجيه الأحداث في الداخل. ولئن كان هذا المقال منحازا بوضوح لحركة النهضة فلن يتغير شيء في بنيته ومضمونه لو كان صاحبه منحازا إلى أي حزب آخر من العائلة العلمانية الواسعة كما يحدث في مقالات خليجية أخرى، فالعناصر التي يتكون منها هي ذاتها، كالتخويف، والتحذير من الفوضى وتقسيم الساحة الحزبية إلى (مع وضدّ) واستدعاء تيمة الإرهاب أو تيمة الحرب الأهلية، والتذكير بالاستبداد والقمع والطغيان والتنديد بالتأثيرات الخارجية دائما في إطار مقاربة شمولية شعاراتية عامة وجهها الأول: الثورة في مقابل الثورة المضادة، أما وجهها الثاني فهو الإسلام السياسي في مقابل العلمانية.
لكن هذه المقاربات تُغفل عادة نقطتين على غاية من الأهمية: خصوصية التجربة التونسية وأهمية المتغيرات الجيوسياسية، فالمقال الذي اتخذناه نموذجا تفصله عن الواقع التونسي مسافات بعيدة، لا سيما بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسور في السنوات العشر الماضية. ففي مستوى الخصوصية المحلية لا يرى الآخرون في صورة تونس العنصر الأبرز وهو علوية الدستور، فقد هيمنت الثقافة الدستورية المتأصّلة في المجتمع والتي تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر على كل التحولات السياسية المفصلية في التاريخ الحديث، وحتى الثورة التي عصفت بنظام الرئيس زين العابدين بن علي والتي يصفها الكاتب بأنها «شريفة طاهرة» اعتمدت الدستور ولم تشهد سحلا في الشوارع والطرقات ومشانق منصوبة في الميادين والساحات، ووجود أحزاب سياسية يسميها الكاتب خطأ «أحزاب الصدفة» هو خيار ديمقراطي أفضى إليه التصويت ضد فكرة «الاجتثاث» التي جُرّبت في دول عربية أخرى وعادت عليها بالوبال، رغم تغليفها من قبل من دعوا إليها في تونس بعبارة «تحصين الثورة»!
كما إن صورة تونس الحقيقية تمتاز أساسا بنجاح تجربتها الديمقراطية، والتي يبدو الكاتب واعيا بها إذ يعتبر وصول قيس سعيد إلى رئاسة الجمهورية استثناء عربيا، لكنه يتناقض مع هذا الوعي بمناقشة خيارات الرئيس والتشكيك في نزوعه إلى «الديمقراطية الشعبية» أو تكليفه مسؤولا من خارج الأحزاب السياسية برئاسة الحكومة المقبلة. ومردّ هذا التناقض في رأينا المقاربة الشعاراتية للديمقراطية في النظرة الخارجية للتجربة التونسية وهي مقاربة تغفل البعد الديناميكي الذي تمتاز به العملية الديمقراطية في الداخل، والناخب التونسي أضحى يتفاعل مع هذه الصيرورة السياسية التي قد تتعارض بلا شك مع مصالح الأحزاب وتحالفاتها الميكيافيلية، وهكذا تتغير من شهر إلى آخر مواقع السياسيين في استطلاعات الرأي، وأصبحت كل عمليات التصويت حتى تلك التي عرضت فيها رئاسة البرلمان على ثقة النواب تحتفظ بالتشويق والغموض إلى النهاية، وانتهى عهد الانتخابات المعروفة نتائجها سلفا.
ومن أهم خصوصيات التجربة التونسية إذا نظرت إليها من الداخل: الوحدة الوطنية، ومعنى ذلك أن التنوع السياسي هو تنوع إيديولوجي بحت، ولا وجود لتنازع طائفي أو قبلي يشقّ المجتمع ويشرذمه، ما يجعل المقارنات السائدة متهافتة حتى لو كانت الغاية منها إبراز أفضلية تونس على الدول العربية الأخرى أو التحذير من مخاطر الاقتتال الداخلي. كما تفسر هذه الخصوصية الديناميكية السياسية التي يمتاز بها المشهد، فخارطة الأحزاب كالرمال المتحركة ولم يظل ثابتا فيها سوى الاستقطاب الثنائي بين الإسلام السياسي والعلمانية، وهو الخطر الحقيقي المحدق بالتجربة التونسية وبأي تجربة ديمقراطية في العالم الإسلامي، ما لم تحلّ بشكل نهائي معضلة العلاقة بين الدين والدولة. وعندما نتحدث هنا عن الخطر فإننا لا نشير إلى الاقتتال والفوضى كما يفعل أولئك الذين ينظرون إلينا من الخارج، بل نعني الأثر السلبي لصراع الهوية على الحياة السياسية وما يؤدي إليه من تعطيل للتنمية وإضعاف للدولة وإرباك لبرامج النهوض الاقتصادي.
ويبدو حزب النهضة واعيا بهذه المسألة حين أقرّ في مؤتمره العاشر بجملة من التحولات المرجعية تبعده نظريا عن تنظيم «الإخوان المسلمين» وتخرجه من دائرة الأحزاب التيوقراطية. وما يعتبره النص «حملة ظالمة» تستهدفه هو في الواقع حراك سياسي بأدوات دستورية موضوعه مدى احترام هذا الحزب التزاماته التي وضعها هو لنفسه ولم يفرضها عليه أحد. والناظر إلى التجربة التونسية من الداخل سيكتشف بلا شك تأثير الصراعات الحزبية الداخلية على المشهد البرلماني، ويمكنه الربط بسهولة بين استعدادات الحركة لعقد مؤتمرها المقبل وتفكيرها في المستقبل السياسي لزعيمها التاريخي راشد الغنوشي، وما يحدث من تجاذبات مشهدية إنما هو جزء من استراتيجية استحضار «المظلومية» لأنها ورقة مربحة سواء أكانت في سياق التحشيد الداخلي أو في الرسائل التي توجهها الحركة إلى الخارج.
أما المتغيرات الجيوسياسية وهي عامل مؤثر في صياغة النظرة الخارجية للتجربة التونسية، ففي علاقة بالموقف الدولي من الإسلام السياسي وهو موقف متحول بشكل دراماتيكي، لا سيما في مستوى الإدارة الأمريكية ضمن حربها على الإرهاب. لقد أفضت المواجهة الدامية مع الحركات الإسلامية الأصولية في مختلف دول العالم إلى مراجعة فكرة «الإسلام المعتدل» والدفع في اتجاه الربط بين كل الأحزاب الدينية والحركات الإرهابية. وهو الربط الذي اندلعت بسببه الأزمة الخليجية الراهنة، وأدى إلى تفكك المحور السني في العالم الإسلامي إلى محورين كبيرين. وفي ضوء هذا التحول، لم تعد فكرة الربيع العربي مدخلا إلى إرساء الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل أصبح موضوعها الأهم موقع الإسلام السياسي في دول ما بعد الاستبداد. والمال السياسي الذي يسميه الكاتب «أموال بني نفط» ويعتبره خطرا محدقا بتونس متعدّد المصادر، وسواء أكان من هذا المحور أو ذاك فهو جزء من مخطط إقليمي ودولي لا تتحكم فيه الدول التي تنفقه، ولا يمكن مقاومته إلا في إطار دولة ديمقراطية تقوم على الفصل الواضح بين السلطات. وهو ما تتجه إليه تونس بخطى حثيثة في ضوء الانتخابات الرئاسية الأخيرة. لكن في الوقت الذي تضغط فيه المعارضة من أجل تكريس استقلالية القضاء في سياق الكشف عن حقيقة الاغتيالات السياسية التي وقعت خلال فترة حكم حركة النهضة (2011-2013)، أصبح «صراع الملفات» العامل الأكثر أهمية في تحديد التحالفات الحزبية من أجل إبقاء الوضع على ما هو عليه لأطول فترة ممكنة. إن ا
لكتابة عن الشأن التونسي من خارج حدود الجغرافيا التونسية عمل محفوف بالمخاطر والمنزلقات، ذلك أنه يتأثر غالبا بالصور النمطية التي يصدّرها السياسيون التونسيون لغايات شتى في نفوسهم، والمقالات التي تنشر عن تونس في كثير من الصحف العربية إن هي إلا رجع صدى لما تحاول الأحزاب تسويقه عن الحالة الديمقراطية في البلاد. وهو ما يفسّر انحيازها بوضوح لهذا الطرف أو ذاك في سياق صراع المحاور الإقليمي واعتمادها التهويل والمبالغة. أليس غريبا أن يعتبر التقيد بالدستور وإمكان حلّ البرلمان إذا لم تنل حكومة هشام المشيشي الثقة منزلقا خطيرا!! والحال أننا في سياق مقاربة قانونية مدنية سلمية صحيح أنها مكلفة من الناحية الاقتصادية، لكن لا مجال لمقارنتها بما يقع في دول أخرى ثارت ضد الاستبداد ولم تصل إلى ضفّة الحرية.
عامر بوعزة
- اكتب تعليق
- تعليق