أخبار - 2020.07.01

عامر بوعزّة - عشّاق الـدّنـيــا: الكائن الضعيف أمام قدر ظالم

عامر بوعزّة - عشّاق الـدّنـيــا: الكائن الضعيف أمام قدر ظالم

بقلم  عامر بوعزّة - عندما سُئل المخرج الشابّ عبد الحميد بوشناق: »من هو بطل مسلسل عشّاق الدنيا؟ أجاب بكل ثقة في النفس: «إذا حدّدت لي بطلا واحدا من بين الممثّلين الذين ظهروا في المسلسل بجزأيه، سأعتزل الإخراج!» وكان المقصود بالبطل: الممثّل الذي استحوذ على النصيب الأوفر من الأضواء. لكنّ التساؤل عن البطل بالمفهوم الأصلي للمصطلح وبمفاهيم مجازية أخرى يمكن أن يكون مدخلا مناسبا لمقاربة قصّة المسلسل وكيفيّة عرضها على الشاشة، لا سيّما أنّ «نوبة» في الموسم الأوّل لم يكن عملا عاديا بشهادة كثير من النقّاد والمختصّين ويمكن اعتباره علامة مميّزة في سياق تطوّر الدراما التلفزيونية التونسية، وجاء الجزء الثاني بعنوان «عشّاق الدنيا» ليؤسّس على هذا النجاح، ويراكم الأسئلة حول هذه التجربة وما تتضمّنه من خطوات إبداعية في اتّجاه القطع مع الصور النمطية والقوالب التلفزيونية المكرّرة.

في الجزء الأوّل كما في الواقع مثّلت فكرة إقامة عرض «نوبة» على ركح المسرح الأثري بقرطاج العام 1991 مصالحة تاريخية بين الثقافة الرسمية والفنّ المهمّش المقموع تحت أضواء «العهد الجديد». وانبنت أحداث المسلسل على متضادّات مكانية تعبّر عن التضادّ بين المركز والهامش، كأن يكون دخول ماهر بعد خروجه من السجن إلى بيت «بابا الهادي» اختراقا رمزيا لفضاء المدينة المغلق وتقاربا ممكنا بين عالمين مختلفين ومتناقضين:المدينة حيث عالم الفن الشعبي «الموندو» في مقابل المنزه السادس الذي يرمز إلى الطبقة المتوسطة.

من ثمّة يمكن اعتبار «المكان» البطل الأوّل في مسلسل «نوبة»بجزأيه، فالقصّة بنيت على فكرة «المدينة» التي فقدت في خضمّ تطوّرات المجتمع مكانتها المعنوية والروحية من حيث هي موطن «البَلْدية» ومستقرّ الأعيان وعلماء الدين. مدينة التسعينات هذه تمثّل المجتمع الهامشي حيث تتحكَّم  «الفتوّة» في موازين القوى، ويُستخدم العنف في فرض السلطة، وينحسر حضور النظام أمام هيمنة المارقين عنه.

المدينة هي دائما الإطار الرمزي الأوّل لصراع القوة، وعودة ماهر وبرينغا إليها تأتي في سياق الحاجة إلى استرجاع السلطة المفقودة واحتلال موقع الزعيم الشاغر، ولهذا أصرّ برينغا على أن يسكن في بيت غنوش ويجعل من متجر الأعشاب الذي كان مقرّ سلطته المادية والمعنوية محلا لكراء أشرطة الفيديو. فكان هاجس السيطرة على المدينة، المحرّك الأساسي لأحداث المسلسل مع تجريد العنف الموظف لهذه الغاية من معاني الفوضى والبلطجة والظلم، فالفتوّة تقوم على منظومة قيم أيضا! يعبّر عن ذلك مشهد توبيخ النشّال في الحلقة الأولى لأنّ النشل يجلب العار، أو رفض أتباع برينغا الانصياع له حين أمرهم بضرب حبيبة! وهكذا ترتبط الفتوة بالأخلاق والشهامة وتمثّل امتدادا لحرافيش نجيب محفوظ التي تعتبر مرجعا هامّا في دراسة فكرة «الفتوّة» في الرواية والمجتمع، لكنّ المسلسل يتجاوز هذه النظرة المحدودة للفتوّة ليكشف ارتباطاتها المافياوية والمصالح الاقتصادية والسياسية المتشابكة التي تسندها، في تنظيم يخضع لتراتبية هرمية يظهر فيها وراء كل شخص قويّ شخص آخر أقوى منه.

وكلّ مشاهد العنف التي تدور في حواري المدينة مجالُها استرداد السلطة بأشكالها المختلفة. يدخل في هذا السياق صراع برينغا مع ماهر وحبيبة، ومواجهة وسيلة لصاحب البيت الذي يريد إخراجها منه، أو مشهد تعنيف كريّم لوسيلة في محلّه وهو يحاول استرجاع السلطة المعنوية للرجل أمام امرأة يحبّها لكنّها تبدو مستقلة بذاتها. وارتباط المدينة بصراع القوى والبحث عن السلطة تيمة أساسية في السينما التونسية، صوّر ذلك النوري بوزيد في «ريح السد» حيث الصراع بين جيلين من أجل الحرية والانعتاق، وكانت خرائب المدينة وأطلالها مسرحا لصراع المثقف اليساري والسجين السياسي في «صفايح من ذهب» مع شقيقه المتديّن عبد الله، فلم تنعتق الكاميرا من ضيق الأزقة وقتامة الأطلال الا في المشهد الأخير مع الحصان الذي أطلقه النوري بوزيد على شاطئ البحر يركض في اتجاه أفق مشرق، أمّا المنصف ذويب في «سلطان المدينة» فقد استخدم مفهوم الفتوّة بمعنى السلطة داخل فضاء الوكالة الذي تجمّعت فيه كل تناقضات المجتمع وعاهاته. لكن المدينة في التلفزيون ظلّت دائما داخل الإطار الذي رسمه علي اللواتي في «الخطّاب على الباب» والذي لا يبتعد كثيرا عما يتوفر في رسوم زبير التركي من عناصر فولكلورية ترتبط بالذاكرة الجماعية أكثر مما تتقيد بالراهن، وتعبّر عن الحنين إلى الزمن المفقود حيث السلطة المطلقة للشاذلي التمّار الرجل البلدي الحكيم ولا ينازعه فيها أحد في البيت أو خارجه. وقد قوّض عبد الحميد بوشناق هذه الصورة المثالية الرومنسية عندما قدّم المدينة على الشاشة بخلفيتها السينمائية.

الإفراج عن الذاكرة والحنين إلى الزمن المفقود

جعل عبد الحميد بوشناق في الجزء الأوّل من المسلسل حفل نوبة التاريخي على ركح المسرح الأثري بقرطاج 1991 نقطة تقاطع شيّقة بين الدراما بما هي فعل روائي متخيّل والواقع التاريخي في بعده التسجيلي. وقد مثّل الكازينو في «عشّاق الدنيا» الذي تقع أحداثه العام 1992 إطارا لمخاطبة ذاكرة المتفرّج وتحريك وجدانه عبر استحضار الحركة الفنية والموسيقية للتسعينات. وهذه واحدة من نقاط القوة في تجربة «نوبة» بجزأيها: أن تكون ذاكرة المتفرّج ركنا من أركان في اللعبة السردية !فالمسلسل لم يكتف بإعادة بناء ديكورات المرحلة بل جعلها مرجعية المسلسل البصرية والصوتية، تجلّى ذلك خصوصا في استخدام الخلفيات الموسيقية وحضور بعض نجوم الغناء، وفضلا عن ذلك تعدّدت الإشارات الهامشية إلى المرحلة، كقول الفنانة ليلياء الدهماني وهي تعتذر للرجل النافذ حين دعاها إلى مواصلة السهرة معه بعد نهاية وصْلتها: «غدوة عندي بروفة مع نجيب الخطّاب». والحنين محرّك قويّ للعملية التواصلية فالفترة المذكورة مسكوت عنها حاليا، ولا توجد أيّ أعمال وثائقية أو تسجيلية تتناولها، ويجري التعتيم عليها بشكل ممنهج، ما يجعل المتفرج يقبل بشغف على مشاهدة كل ما يمتّإليها بصلة، وقد فسّر أحد النقّاد إقبال الجمهور بكثافة على مشاهدة الأعمال القديمة بأنّ «النوستالجيا رفض للواقع، وربما هي طريق للهروب من شقاء الحاضر».

لكن في تجربة بوشناق يختلف الأمر بين «نوبة» و«عشَّاق الدنيا» كثيرا، فالعمل الأوّل كان أقرب إلى سينما المؤلف، إذ تحدث المخرج عن فكرة المسلسل وكيف كانت الصور التي احتفظ بها في ذاكرته من عرض نوبة الأصلي في قرطاج نواة للعمل تأسّست عليها القصة المتخيلة. أما في «عشاق الدنيا» فلم تكن للمرجعية الواقعية وظيفة أساسية، فبدت القرائن السياقية باهتة ومسقطة وبلا مبرر ولا يغير انتزاعها من الأحداث شيئا، نذكر في هذا المجال الإشارة العرضية إلى الاعتداءات بماء النار على الفتيات، أو أحداث باب سويقة وحجز «كريّم» للتحقيق معه حول استخدام مخزنه. ولا شك أنّ الأمر يبدو أيضا مسقطا في الشخصية التي أداها صلاح مصدق ببراعة شديدة، والإحالة على قضية مشهورة تتعلّق بشبكة دولية للاتجار بالمخدّرات اتهم بالضلوع فيها شقيق الرئيس بن علي. والعقدة الوحيدة التي لعب فيها السياق التاريخي دورا فاعلا ووظيفيا تقع في مركز الأمن حيث تمّت التغطية على الاعتداء الذي فقد فيه ضابط الأمن فتحي عائلته، ونفت السلطات الأعلى الطابع الانتقامي عن الحادث عمدا، في إشارة إلى إعلاء الدواعي السياسية على الحقّ الشخصي وغياب العدالة، ما يبرّر استخدام العنف في كل معادلات السلطة داخل فضاء المدينة الذي هو صورة من المجتمع. كما تضمّن الحوار الذي دار بين «داندي» ونجوى حول الكبت السياسي في المجتمع على أهميته إسقاطا زمنيا لا ينسجم وطبيعة المرحلة، ففي الواقع لم تكن الأمور آنذاك على تلك الدرجة من القتامة، ومحتوى الحوار ينطبق تماما على مرحلة متأخرة من «العهد الجديد».

لم تضف الإشارات التاريخية شيئا يذكر للمسلسل، وخلافا للجزء الأول الذي كان فيه حفل قرطاج 1991 حجر الأساس، لن يتغير شيء لو انتفت هذه الإشارات، فالعمل من ناحية التيمة الأساسية لا يبتعد كثيرا عن الأعمال الدرامية الكلاسيكية التي تتعلق بشبكات المافيا الدولية والاتجار بالممنوعات ومراكز القوى، دون أن تكون لهذه التيمة بالضرورة صلة مباشرة بالواقع التاريخي أو بحيّز زمني محدّد. وقد وقع في هذا الخطأ نفسه أحد أهم الأعمال الدرامية التي عرضت هذا الموسم في عدة شاشات عربية وهو مسلسل مصري بعنوان «ليالينا 80»، فقد لفت الانتباه بقوّة منذ عرض شارته الترويجية بمقدمة تستدعي فترة الثمانينات وتحرّك زوبعة من الحنين في نفوس المتفرجين، لكن توظيف الإطار الزمني في الأحداث الدرامية ظلّ سطحيا وباهتا إلى  الحدّ الذي يجعل أحد أبطال المسلسل وهو جالس في الكافيتيريا لا يهتم بمشهد جنازة الرئيس أنور السادات يعرض على شاشة التلفزيون!، بما يخالف منطق الأشياء والحقيقة الموضوعية، وهو ما ينطبق في نموذج  الحال على البرود والسطحية في تعامل بوشناق مع قضية ماء الفرق أو أحداث باب سويقة!

عشّاق الدنيا: تراجيديا معاصرة

هناك فارق كبير بين كاتب التراجيديا والمؤرّخ، فالأوّل يكتب عمّا يمكن أن يحدث بينما الثاني يتحدث عما وقع ‏بالفعل. وعندما نصفُ العمل بالتراجيديا فإنّنا نقف على واحدة من أهم النقاط المميزة في تجربة «نوبة» بجزأيها، فالمأساة تقوم على صراع تراجيدي للبطل مع القدر، والمتفرج يتطهّر أمام هذه المأساة حسب أرسطو من انفعالات الشفقة والخوف. وبهذا المعنى يتعدّد أبطال «عشّاق الدنيا» الذين تتوفر فيهم مواصفات البطل التراجيدي الكلاسيكية، ذلك الذي يصارع قدره ولا ينتصر عليه.

لقد حرص بوشناق على إضفاء طابع إنساني على كلّ الشخصيات بما يجعلها لا تظهر بشكل نمطي ثابت بل تراوح بين أقصى القوّة ومنتهى الضعف، وهو ما يعزّز قدرتها على التأثير في المتفرّج وتحريك انفعالاته، وهي واحدة من أهمّ سمات البطولة المأساوية. فكلّ شخصية تراوح بين القوة والضعف، وتتعدّد في هذا السياق المشاهد المتضادّة التي ينتقل فيها الأبطال من النقيض إلى النقيض، كما وقع بين منية وزوجها السابق داندي عند اكتشـــاف مــــرضه، أو صــــورة حبيبة وهي تتضرّع أمام ضريح سيـــدي محرز التي تناقض صورتها وهي تتصدّى لبرينغا أو تقود عملا عدوانيا في الكازينو... الخ

وترتبط متلازمة القوة والضعف بالتغير الذي يطرأ على الشخصيات وهو ما يسميّه أرسطو «الهارماتيا»: لحظة التحوّل في مسيرة البطل المأساوي، وأبرز مثال على ذلك «داندي» الذي ينتقل بمجرّد اكتشافه إصابته بمرض السيدا من حال إلى آخر، وتتغيّر المشاعر التي يمكن أن يثيرها في نفس المتفرج، إذ يتعاطف معه ويشفق عليه بعد أن كان يخاف أن يفسد بحضوره العلاقة الجميلة التي أنشأتها منية مع توفيق! أو مفتش الشرطة فتحي الذي كان مصدرا رئيسا للخوف من السلطة ثمّ أصبح بعد الحادث الانتقامي الذي فقد فيه أسرته موضوعا للشفقة. أو برينغا الذي نراه في نهاية المسلسل في وضع مناقض تماما للصورة التي كان عليها.

أمّا العنصر التراجيدي الأبرز في المسلسل فهو مواجهة الكائن الضعيف لقدر ظالم، تجلّى ذلك في شخصية فرح وكريم ووجدي، وبدرجة أكبر في مستوى ماهر ووسيلة، وتمثّل النهاية المأساوية التي يتزامن فيها قتل إبراهيم لماهر مع اكتشاف وسيلة أنّ ماهر هو ابنها ذروة التراجيديا في بعدها الإغريقي الأصلي حيث يتحكّم سوء التفاهم وانعدام المعرفة في مصائر الشخصيات ويجعلها ضعيفة ومنقادة إلى قدر لا تتحكّم في توجيهه.

ويمكن على سبيل الخاتمة التنويه إلى أنّ اعتماد الصدفة في تشكيل الأحداث وربط العلاقات بين الشخصيات يمثّل نقطة ضعف، حيث تفتقر بعض الأحداث إلى قوّة إقناع داخلية، كظهور داندي ونجوى بشكل متزامن وعودتهما معا في نفس الوقت أو اكتشاف كريم القاتل المأجور أن فرح هي نفس الطفلة التي عرفها في الملجأ ما دفعه إلى ارتكاب جريمة قتل دوافعها سيكولوجية، كما إنّ شخصية غنوش فقدت في سياق تسلسل الأحداث مبرر وجودها وفاعليتها وبدت باهتة وغير ضرورية بتاتا. أما أبرز نقاط القوة في المسلسل فهي المشاهد ذات الطابع المسرحي التي ترك فيها المخرج للممثلين مساحات شاسعة للتعبير الفردي والثنائي على غرار مشهد التصالح بين وجدي وفرح أو المشاهد التي يكون فتحي الهداوي طرفا فيها، كما إنّ الحوار صيغ بإتقان شديد، ولم تفسده إلا عملية التقاط الصوت التي تجعل الإنصات إلى ما يقوله الممثلون صعبا للغاية.

تبدو تجربة نوبة في ضوء هذه القراءة مغامرة تلفزيونية تقوم على التجديد والتجريب، يتجلّى فيها بوضوح القطع مع الصورة النمطية للمسلسل التلفزيوني التقليدية، لا سيّما في مستوى التسلسل الخطي والحبكة الدرامية. حيث مزج عبد الحميد بوشناق بين تقنيات عدة من قصص العصابات والقصص الرومنسية والتنويعات الاستعراضية، ومزج بين الرواية النفسية والسياسية. كل هذا أثقل كاهل العمل وجعله وعاء لكل الأنماط ما يستدعي أسلوبا جديدا في المشاهدة قصد الانتباه إلى التفاصيل الغزيرة والتقاط خيوط الحبكة المرمية في كلّ اتجاه.

عامر بوعزّة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.