أدب الشاهد في كتاب "إعلاميّون في زمن الاستبداد".. نصّ هادئ حول زمن عاصف
بقلم مصطفى القلعي - السياسة أدبًا.. الإعلام سياسةً.. السياسة إعلامًا.. الإعلام أدبًا.. الأدب إعلامًا.. السياسة إعلامًا وأدبًا.. الإعلام سياسة وأدبًا.. الأدب سياسةً وإعلامًا.. كلّ هذه مداخل مناسبة جدّا لتناول هذا الكتاب(1) بالقراءة والنقد. وهي ملائمة لتكون عنوانا لمقال حوله. وقد اخترت "أدب الشاهد" عنوانا جامعا له، وسيظهر سبب هذا الاختيار أثناء المقال.
"الشهادة" (Témoignage) مصطلح راج في الإعلام العربي ومعناه أن تدعى شخصيّة مّا،سياسيّة في الغالب، لتقديم شهادتها حول ما عاصرته ورأته ونفّذته أو ساهمت فيه وكانت شاهدة عليه وعلى عصرها بشكل من الأشكال. وكلّنا يعرف البرنامج التوثيقي الشهير الذي يعرض منذ سنوات على قناة الجزيرة القطريّة تحت عنوان "شاهد على العصر" والذي استضاف عشرات الشخصيّات السياسيّة والإعلاميّة المؤثّرة في عصرها، العربيّة منها مغربا ومشرقا وغير العربيّة، لتوثيق شهاداتها حول ما عاشته وشاهدته ولكشف الحقائق الخفيّة أو تصحيح المعطيات المغلوطة وإنصاف من ظلمهم التاريخ. والغاية هي كشف الحقيقة وتوثيق التاريخ القريب وحفظ الذاكرة من التلف وتوفير رصيد للباحثين والمؤرّخين صالح لكتابة التاريخ أو إعادة كتابته.
كما أنّ الشهادات على التاريخ ضُمّنت أيضا في كتب منشورة كتبها أصحاب التجارب أو من عاصرهم وعاش معهم أو من كلّفوا بذلك. كذا فعل الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي (1926- 2019) والوزير الأوّل التونسي الراحل محمد مزالي (1925- 2010) ووزير الداخليّة التونسي الأسبق الطاهر بلخوجة (1931- ...). وقد صارت الشهادة آليّة من آليّات العدالة الانتقاليّة والمصالحة اعتمدتها هيئة الحقيقة والكرامة في تونس بعد الثورة من خلال تنظيم جلسات استماع لضحايا الاستبداد، أو لأفراد مِن عائلات مَن توفّوا منهم، ممّن تعرّضوا لانتهاكات أضرّت بأجسادهم أو بحقوقهم المواطنيّةبسبب مواقفهم وآرائهم ومبادئهم المعارضة لنظام بن علي (1936- 2019) الذي كان قائما في تونس.
كتب المذكّرات الشاهدة على العصر فيها معطيات ومعلومات ووثائق وأخبار والقليل من الأدب. طبعا هي صادرة عن رؤية صاحبها تعبّر عن وجهة نظره يعني أنّها لا تخلو من الذاتيّة وربّما من التوجيه وصادرة عن رغبة واعية أو لاواعية في تلميع الذات وتبرئتها بالنسبة لمن كانوا في ركاب النظام. والقليل منها يحمل اعترافات بأخطاء أو بسوء تصرّف أو حتى سوء تقدير. بينما شهادات المعارضين للنظام من سياسيّين وإعلاميّين وحقوقيّين ومثقّفين وفنّانين ونقابيّين وطلاّب جامعات، سواء أكانت كتبا أم شهادات مصوّرة للتلفزيون، فكانت الغاية منها كشف حقيقة الاستبداد وترسيخ النضالات من أجل الحريّة والديمقراطيّة في الذاكرة. أمّا الشهادات المقدّمة بغاية المصالحة وكشف الحقيقة فهي صادرة عن ضحايا لا عن مسؤولين وشخصيّات وازنة قديمة. وبعضها صدر عن حقيقيّين أو إعلاميّين عاينوا الانتهاكات وقدّموا شهاداتهم حولها. ويغلب على شهادات الضحايا أو عائلات من رحل منهم الطابع التراجيدي المأسوي نظرا إلى طبيعة ما تعرّضوا له فهم ضحايا تسلّطت عليهم آلة الاستبداد واعتدت على حرماتهم الجسديّة وصادرت حقوقهم المدنيّة.
كتاب عامر بوعزّةهذا الذي بين أيدينا "إعلاميّون في زمن الاستبداد" ينتمي إلى ما يعرفبأدب الشاهد، فهو شهادة (un témoignage)على نفس المرحلة التي انتمت إليها أنواع الشهادات التي ذكرتها سابقا أي مرحلة حكم بن علي (7 نوفمبر 1987- 14 جانفي 2011). وهو ليس أدب السيرة الذاتيّة كما استقرّ عند الأدباء على غرار طه حسين (1889- 1973) في "الأيّام" أو عند السياسيّين مثل شارل ديغول (1890- 1970) في "مذكّرات الحرب" الشهيرة (Mémoires de guerre).
هذا الكتاب شهادة من إعلاميّ على التعاطي مع الإعلام من قبل منظومة الحكم التي ثار عليها الشعب التونسي في 17 ديسمبر 2010 وأسقطها يوم 14 جانفي 2011 وحتى من قبل نظام بورقيبة.(2) الطريف في هذا الكتاب أنّ هذا الإعلاميّ لم يكن صحفيّا معارضا ولم تكن انتماءات إيديولوجيّة ولا سياسيّة معلنة. كان فقط إعلاميّا اختار مهنة الصحافة على مهنته الأصليّة التي درسها في الجامعة ونال تحصيلا أكاديميّا فيها وهيتدريساللغةالعربيّة في التعليم الثانوي. طبعا هذا التحصيل الأكاديمي المتخصّص في اللغة العربيّة ميّز هذه الشهادة بلغة رقراقة صافية آسرة فصيحة متينة سابحة في كلّ أضرب المجاز والجمال تأخذ من الشعر تخييلاته ومن السرد بناء شخوصه وأحداثه وتشويقه مع الوعي كلّه بمتطلّبات الشهادة من توثيق وتدقيق وتأريخ يخضع للاختبار التاريخي بما يحمّل صاحبه مسؤوليّة كاملة على ما يقول.
الكتاب شهادة شفّافة طبيعيّة خالية من الحقد والتزيّد ومن تضخيم الذات ومن التراجيديا، شهادة توثّق لأحداث عاشها الراوي ولشخصيّات مؤثّرة ونافذة في منظومة حكم بن علي مثل عبد الوهاب عبد الله (1940- ...) وعبد الرؤوف الباسطي (1947- ...) وعبد الباقي الهرماسي (1937- ...) وفي المعارضة مثل محمد مواعدة (1938- ...).
ولكنّها في الوقت نفسه توثّق لحكايات شخصيّة صغيرة بمقياس الشأن العام إلاّ أنّها كبيرة جدّا بمقياس الشأن الخاص كالإعداد لبرنامج إذاعي أو تلفزيوني أو لدورة من دورات "ملتقى أدب التسعينات" أو الانتقال للعمل من إذاعة المنستير إلى التلفزة الوطنيّة أو اجتماع الأصدقاء على فنجان قهوة في ركن مقهى الموناراس.
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ الجمع بين العام والخاص في الكتاب أضفى عليه مصداقيّة كبرى لأنّ الخاص هو منطلق العام ولاشكّ. والخاص أي الجانب الذاتي والاحتفال بالأشياء العابرة مكّن هذه الشهادة من أن تحظى بكثير من المقوّمات الأدبيّة. إنّها تشبه "أدب أيّام العرب" في احتفاله بالعام والخاص أي بأخبار القادة العسكريّين وزعماء القبائل وحكمائها، من جهة، وبحيثيّات الغزوات والحروب والأشعار التي تقال قبلها وبعدها وحكايات أسرى الحروب وبالعواطف والانفعالات والأشياء البسيطة العابرة.
الكتاب شهادة إعلاميّة أو بالأحرى شهادة من إعلاميّ على منظومة الحكم من داخلها، فعامر بوعزّة كان موظّفا في مؤسّسة إعلاميّة عموميّة تونسيّة استولت عليها يد الاستبداد كما سيطرت على كلّ شيء في تونس. إنّ القبضة الإعلاميّة إضافة إلى القبضة الأمنيّة كانت سلاحيْ الاستبداد اللذين بهما قبض بن علي،وحتى بورقيبة قبله، على تونس. فالإعلام يؤدّي دور الدعاية لتلميع صورة الرئيس وتثبيتها في وجدان الناس وجعله الخيار الأوّل والأخير والأوحد بدونه تنتهي تونس ويتوه التونسيّون في البراري. والأمن يؤدّي الدور القمعي لمن لم تتمكّن الدعاية الإعلاميّة من احتوائه وإقناعه بالحاكم الأوحد الخالد يد الله المبسوطة المقدّر لها أن تحكم إلى أن يشاء الله.
الكتاب يجيب عن أسئلة محيّرة للرأي العام في تونس هي؛ كيف كان يشتغل الإعلام في تونس؟ كيف كانت السلطة تضع يدها بالكامل عليه؟ كيف كانت توجّهه وتتدخّل فيه بشكل سافر؟ كيف كانت المنظومة الإعلاميّة تتعامل مع الأحداث الكبرى (الانتخابات/ جنازة الزعيم بورقيبة ... إلخ) ومع المعارضة واضطهاد المعارضين وسجنهم وتعذيبهم ونفيهم وحرمانهم من حقوقهم؟ والتحدّي المطروح على الكاتب هو كيف يمكن للمرء أن يكون موضوعيّا مع هذه الأسئلة؟
أطياف من أخبار المعارضة حضرت في الشهادة، وهي أطياف فعلا نقلها الشاهد كما بلغته لأنّ السياسة والاقتراب من المعارضة كان من الممنوعات والمحظورات. أغلب هذه الأطياف تتعلّق بالمعارضة النقابيّة (عبيد البريكي، مثلا) أو بالمعارضة الإسلاميّة (لاسيما بعد توقيع الميثاق الوطني سنة 1988وانتخابات 1989) أو بمعارضة الداخل (محمد مواعدة، مثلا) أو المعارضة الحقوقيّة (منصف المرزوقي وسهام بن سدرين، مثلا) أو بالكتّاب (توفيق بن بريك) والصحفيّين (رياض بن فضل).ههنا نقل الراوي الأحداث من زاوية جديدة من داخل المنظومة ولكن برؤية مستقلّة غير منحازة للنظام ولا للمعارضة وإنّما رؤية إعلامي محايد مستقلّ. وهي رؤية مطلوب رأسها وعسيرة القبول حتى اليوم بعد 10 سنوات على الثورة حيث يشتدّ الاستقطاب وطأة وحدّة. بينما أصداء المعارضة اليساريّة الراديكاليّة شبه غائبة، وهذا طبيعي ومفهوم باعتبار أنّها كانت معارضة سريّة لا تصل أصداؤها لأحد.
الفاتن في هذا الكتاب هو كيفيّة تحويل الأشخاص التاريخيّين المائتين(personnes) إلى شخصيّات أدبيّة لا تموت (personnages) والوقائع(les faits) الحقيقيّة التي وقعت في التاريخ إلى أحداث قصصيّة (des évènements narratives) متخيّلة مبنيّة على التشويق والإثارة. ههنا يطلع تكوين المؤلّف وثقافته العربيّة من خلال ما اختزنته مداركه من بُنى أدبيّة لاسيمابنية "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" القائمة على الحكاية الأمّ الرئيسيّة والحكايات الفرعيّة المتوالدة صلبها المنسلّة عنها. فإلى جانب الحكاية الرئيسيّة التي يوحي بها العنوان ألا وهي حكاية السلطة والإعلام أو الإعلام والسلطة إذا احترام الترتيب الذي وضعه المؤلّف عنوانا لكتابه.
ومن الحكايات الفرعيّة الجميلة التي تشدّك حكاية نموّ إذاعة المنستير التي بدأ فيها عامر بوعزّة مسيرته الإعلاميّة برفقة الصادق بوعبان وعواطف حميدة وبرعاية صالح شبيل، وحكاية شارع الحريّة حيث تقع مؤسّسة الإذاعة والتلفزة التونسيّة،وحكاية عواطف حميدة، وحكاية الصادق بوعبان، وحكاية عامر بوعزّة،والحكاية القصيرة المؤثّرة جدّا لعبد الباقي الغضباني(3)، وحكاية عبد الرؤوف الباسطي،وحكاية الرقيب الأشهر في نظام بن علي وعينه التي تنام مفتوحة عبد الوهاب عبد اللهوحكاية "الديمقراطيّين في مكينة النظام" مثل الدالي الجازي (1942- 2007) ومحمد الشرفي (1936- 2008) ومنصر الرويسي (1940- ...)
مسيرة الإعلام التونسي من التقليديّة نحو العصرانيّة والرقمنة والفضائيّات هي أيضا حكاية مهمّة جدّا صلب هذه الشهادة لاسيما للباحثين في المجال الإعلامي. فصول عديدة في الشهادة انشغلت بهذا الموضوع منها "حرب الفضائيّات" و"على أبواب عصر جديد" و"هل غيّرت الثورة الإعلام؟"
إنّها حكايات متقاطعة تلتقي وتفترق يربط بينها مجال الإعلام، أوّلا، واتصالها بذات الراوي أو اتصال الراوي بها، ثانيا. ولكنّها تضافرت فيما بينها من أجل غاية واحدة ألا وهي بناء أدبيّة متفرّدة لهذه الشهادة. لم تخل الحكايات من بعض المسرّات لاسيما بعد النجاحات التي تحقّقها البرامج الإعلاميّة أو دورات "ملتقى أدب التسعينات". غير أنّها كانت مشحونة بالدراما بل بالتراجيديا إذ يشقّها كثير من الخيبات وكثير من الخوف وكثير من المجاراة والمسايرة لريح عاتية جارفة لا ترحم.
ولكنّ الحكاية الأشدّ مأسويّة وسودويّة في الشهادة هي حكاية الإعلاميّة عواطف حميدة التي شقّت طريقا دامية من التعليم الثانوي إلى إذاعة المنستير إلى إدارة الإذاعة الوطنيّة في تونس دون أن تكون من تُبّع النظام ولا من المقرّبين منه ولا من المتزلّفين له. عواطف حميدة كرّست حياتها لشغفها الإعلامي واكتفت به بديلا عن كلّ شيء. ولتكتمل التراجيديا تُقتل عواطف حميدة في جريمة غامضة في بيتها يوم 2 ديسمبر 2001 وهي في ذروة عطائها. وقد سرد الراوي الحكاية بما فيها من تشكيك في الرواية الرسميّة حول الجريمة التي حصرت الشبهة في السمكري. ولا يمكن لعاقل أن يطمئنّ لأيّ رواية تصدر عن نظام ألِف حبك المؤامرات وتلفيق التهم والقضايا لمعارضيه وحتى لمن لا يكون معه أو لا يطبّق تعليماته وينفّذ ما يطلب منه مهما كان خاطئا أو ممنوعا أو مخالفا للقانون. نجحت الشهادة في تعميق الشكّ في الرواية الرسميّة للجريمة الشنيعة.(4) ولكن ما نجحت فيه شهادة عامر بوعزّة أكثر هو نقل العواطف والانفعالات الحقيقيّة التي مازالت جرحا غائرا في أعماقه تجاه زميلته ورفيقة دربه الإعلامي. وكم كانت هذه العواطف شفّافة حتى أنّها تأتي إلى القارئ من مختلف صفحات الكتاب وفصوله ولا يكلّف نفسه البحث عنها.
عليّ أن أوقف هذا الاحتفال بهذه الشهادة هنا إذ لو تركت العنان لنفسي لكتبت مثل عدد صفحاتها أو أكثر، ذلك أنّك وأنت تقرأ هذا الكتاب لا تستطيع أن تتركه من يدك وتعجز عن أن تقضي شأنا من شؤونك وقد شرعت فيه. إنّه يفتنك، يقبض عليك، ولا فكاك لك منه تماما كما تفعل بك الكتب العظيمة مثل "زوربا" أو "الياطر" أو "أولاد حارتنا"أو "طوارق" أو "فتنة المتخيّل" أو "لماذا تركت الحصان وحيدا؟". التونسيّون متعطّشون للتعرّف على آليّات اشتغال منظومة الاستبداد التي سبقت الثورة. وهذا الكتاب يخفّف من ضمئهم ذاك ويمدّهم بكثير من الرواء حول تلك الحقبة المظلمة من تاريخهم. إنّه نصّ هادئ حول زمن عاصف. والهدوء متأتّ أساسا من أدبيّة الكتاب ولغة الكاتب السيّالة الفائضة.
مصطفى القلعي
1. عامر بوعزّة، إعلاميّون في زمن الاستبداد، منشورات سوتيميديا، ط1، تونس، مارس 2019. يقع الكتاب في 155 صفحة من الحجم المتوسّط موزّعة على 16 فصلا ومقدّمة وخاتمة وفهرس.
2. يقدّم الكاتب معلومات دقيقة عن تحكّم بورقيبة في الإذاعة والتلفزة بشكل مباشر، انظر الفصل الثالث "في ظلال الزعيم" ص ص 29- 36.
3. أستاذ فرنسيّة منحدر من القصرين قدّم حلقة واحدة من برنامج جميل عنوانه "ورقتان على الطاولة"، ثمّ توقّف البرنامج بسبب النظرة الجهويّة المقيتة، انظر "إعلاميّون في زمن الاستبداد"، نفسه، ص 54.
4. انظر خاصّة الفصل الخامس عشر "من قتل عواطف حميدة؟"، نفسه ص ص 133- 140.
- اكتب تعليق
- تعليق