أمير العقربي: مسلسل قلب الذيب ... عندما يُشوّه تاريخنا ورموزنا الوطنية
بعد أن أثار جدلا في الدوائر القضائية قبل عرضه ثمّ من قبل الملاحظين والمحلّلين إثرعرض الحلقة الأولى منه، ها هو مسلسل قلب الذيب يسدل ستاره.
وفي الحقيقة لا يعتبر مسلسل "قلب الذيب" أوّل تجربة في الدراما التي تدور حول فترة هامّة من تاريخ تونس المعاصر. فقد سبقتها تجارب نذكر منها "قمرة سيدي محروس" (سنة 2002) و "وردة وكتاب" (سنة 2016 ) و "تاج الحاضرة" (سنة 2017)...
ولئن تعتبر فكرة المسلسل طيّبة خاصّة ونحن في أمسّ الحاجة لأعمال تحفظ ذاكرتنا الوطنية وتنقلها بأمانة للأجيال الحالية، إلاّ أنّ العمل المذكور كان حافلا بالكثيرمن الهنات.
إطار تاريخي غير واضح وخلط في سرد الوقائع
من المعلوم أنّ كلّ عمل درامي تاريخي يسيروفق سياق كرونولوجي واضح المعالم ويستند إلى حزمة من المصادر والمراجع الدقيقة التي تؤرّخ للفترة محورالتجسيم في التلفزة أو السينما من كتابات ووثائق تاريخية أصلية (صور، صحف ، منشورات رسمية...) وشهادات حيّة لفاعلين في تلك الأحداث أو ممّن عايشوها...الخ، إلاّ أنّنا فوجئنا منذ الحلقة الأولى للمسلسل بارتباك كبير في تحديد الفترة التي يعالجها. فهل نحن في نهاية الأربعينات كما ورد في الصورة الأولى من الحلقة الأولى "الإيّالة التونسية سنة 1948" أم في بداية الخمسينات كما تدلّ عليه المقاومة المسلّحة للاستعمارالفرنسي؟
يقول منتجو العمل في تصريحاتهم في الإذاعات والقنوات التلفزية إنّ العمل يهتمّ بما حصل في تونس على الصعيد السياسي خلال الفترة الممتدّة بين 1948 و 1952. ولو سلّمنا بصحَّة ما قالوا هل يعقل أن نقضي عشر حلقات في فترة زمنية لا تتجاوز الثمانية أشهر (إلى غاية وفاة "باي الشعب، المنصف باي") وكيف سيتمّ معالجة الأمر في الحلقات الخمس المتبقيّة؟
أضف إلى ذلك أنّ المقاومة المسلّحة قد انطلقت في تونس يوم 18 جانفي 1952 إثر تلاوة لائحة المؤتمر السرّي للحزب الدستوري الجديد المنعقد بشعبة ترُنجة بنهج سيدي محرز يوم 18 جانفي 1952 برئاسة الزعيم الهادي شاكر ردّا على رفض فرنسا التفاوض حول مبدإ الاستقلال ومطالبتها بمزيد الإصلاحات التي من بينها القبول بمبدإ السيادة المزدوجة (رسالة 15 ديسمبر 1951)؟ سؤال لم يجبنا عنه العمل الدرامي.
علاوة على ذلك نلاحظ استحضارا لشخصية المنصف باي وللحركة المنصفية التي بدأت قبل 1948 بخمس سنوات، أي إثر عزله من قبل المقيم العام الفرنسي المارشال "إستيفا " في 15 ماي 1943 بتهمة "التعامل مع الألمان"... لقد مثّلت وفاته في 01 سبتمبر 1948 لبّ الحديث عنه في المسلسل وهو استحضار غير مفهوم !
ومن الأخطاء التاريخية الصادمة مسألة تهريب السلاح من القطر الجزائري إلى التراب التونسي سنة 1948 لكنّ العكس هو الذي حصل فالسلاح كان يوجّه من تونس ومن مصر عبر جنوب ليبيا إلى الجزائر لكن بعد إعلان الثورة الجزائرية المسلّحة في 1 نوفمبر 1954، أي في وقت توقّفت فيه المقاومة المسلّحة التونسية تقريبا في 31 ديسمبر 1954 ونزول المقاومين من الجبال والشعاب بعد إعلان رئيس الحكومة الفرنسية "بيار- منداس فرانس" الاستقلال الداخلي لتونس في قصر قرطاج أمام ملك البلاد وخليفة المنصف باي، محمّد الأمين باشا باي يوم 31 جويلية 1954.
ومن الأخطاء الواردة أيضا في المسلسل الحديث عن انتفاضات في الساحل بسبب الانتزاع العقاري من قبل المستعمر الفرنسي الغاصب... و إيحاءات عن "أولاد بلواعر" بجهة النفيضة لكن هذا أمر مُجانب للصواب لأنّ الأمور قد حُسمت قضائيا (عبر المحكمة العقارية المحدثة للغرض سنة 1885) لفائدة العنصر الأوروبي بجهة الساحل وبمدينة النفيضة مركز الشركة الفرنسية الإفريقية تحديدا منذ منتصف العشرينات حيث كانت آخر انتفاضة بها سنة 1926.
اعرف بلادك
لسنا في حاجة لانتظار حلقة أو حلقتين لمشاهدة أخطاء تخصّ الموروث الاجتماعي والثقافي التونسي فالمشهد الأوّل (مشهد جني الزيتون) كان حافلا بالأخطاء. فعلى حدّ علمنا تمّ تصوير المسلسل بإحدى القرى الجبلية بجهة القصرين لكنّنا اكتشفنا أنّنا في جهة الساحل من خلال اللهجة واللباس (الكدرون الساحلي المدوّر والملية ذات اللون– الأزرق والأحمر الداكن للمرأة السعيدية... مكان القشّابية والملية الوردية والحمراء والزرقاء الفاتحة واللحاف القصريني...). أمّا الخطأ الثاني فيتعلّق بلقاء البطل مع خطيبته في الهواء الطلق وهو أمر لم يكن متاحا بالمرّة فالزوج لا يعرف زوجته إلاّ ليلة الزفاف لأنّ مسألة اختيارالزوجة مسألة عائلية عادة ما تقرّرها النساء تحديدا وغالبا الأمّ والأخت والخالة والعمّة ولا يلتقي الشابّ بخطيبته إلاّ بحضور أحد أفراد عائلتها وببيت والديها وليس خارجه... كما أنّ حفلات الزواج كانت تقام في الربيع أي بعد جني الصابة (صابة الزيتون) وليس في الصيف كما ورد في المسلسل. كما اعتمد المسلسل عبارات غير دارجة البتّة في خطاب الناس آنذاك فلا وجود لكلمات من قبيل "اصنع روحك" و"مريقل"...
أخطاء على مستوى الاكسسوارات
نبدأ بالأسلحة حيث لاحظنا وجود أسلحة سوفياتية الصنع في المسلسل في حين أنّ السلاح الذي كان يستعمله المقاومون هو من صنع ألماني من مخلفات الحرب العالمية الثانية. كما لاحظنا وجود ملابس دخيلة على الفترة التي عالجها المسلسل مثل "البنوار"وحتّى "الملية" فلم يكن حضورها مطابقا لواقع الحال في الجهات آنذاك. كما رأينا طاولات أسرّة "أينوكس" عوضا عن الطاولات الخشبيّة والحديديّة وستارعصري "Store" بالأليمنيوم بمبنى بالمدينة الأوروبية بتونس العاصمة لم يظهر على الساحة إلاّ منذ تسعينات القرن الماضي ومقاوم يعتمد على "أيفون 4" للإضاءة عوضا عن قنديل زيتي أو قازة وسيارة جندرمة فرنسية بترقيم تونسي...،وغيره من الأخطاء الكثيرة الأخرى التي يضيق المجال باستعراضها.
تغييب العمل النقابي
لاحظنا في المسلسل تغييبا واضحا للعمل النقابي حيث لم يتمّ تجسيمه أو حتّى الإشارة إليه رغم وجود أحداث دامية هزّت البلاد وساهم من خلالها الاتحاد العام التونسي للشغل بقوّة رغم حداثة تكوينه (في 20 جانفي 1946) على غرار أحداث النفيضة يوم 21 نوفمبر 1950 التي راح ضحيّتها 05 من عمّال هنشير النفيضة من بينهم امرأة حبلى بتوأمين وجرح 12 مواطنا أصيبوا بجروح بليغة وانتهت المجزرة باعتقال 161 شخصا من بينهم 50 امرأة رغم دور الزعيم فرحات حشاد في المفاوضات بين عمّال الهنشير المضربين والشركة الفرنسية الإفريقية المالكة له ومقاله المرجع الصادر بجريدة "الحرية" يوم 26 نوفمبر 1950 بعنوان "أٌحبّك يا شعب"وكذلك دوره في الكفاح الوطني، خاصّة إثر التضييقات التي طالت قادة الحزب الحر الدستوري الجديد. فهل أنّ في الأمر سهوا أم أنّ السياسة كامنة في التفاصيل؟
ضرورة تشريك أهل الاختصاص
ختاما يبقى مسلسل "قلب الذيب" محاولة لسبر أغوار تاريخ تونس المعاصر لكنّها كانت محاولة فاشلة أساءت لتاريخ الحركة الوطنية وأظهرت المقاومين في صورغير لائقة كإظهارهم في صورة آكلي الزواحف ولا شيء يشغلهم سوى "النفّة". ويعود هذا الفشل إلى تغييب أهل الاختصاص عن إنجاز هذا العمل ولابدّ أن يعلم من أنجزوا المسلسل أنّ التاريخ ليس مجرّد حكايات تروى في المسامرات بل هو علم قائم الذات له آليات وضوابط لابدّ من احترامها إذا ما فكّروا في إنجاز جزء ثان لهذا العمل الدرامي التاريخي يمسح الفترة الممتدّة إلى غاية استقلال تونس سنة 1956.
أمير العقربي
باحث في التاريخ السياسي المعاصر
- اكتب تعليق
- تعليق