أخبار - 2020.06.04

أضواء على مسيرة وزير الداخلية هشام المشيشي

أضواء على مسيرة وزير الداخلية هشام المشيشي

تعلُّق هشام المشيشي بالدولة لا حَدَّ له. تَرِدُ كلمة دولة في كل ما يكتب ويُدَوِّن – باللغة الفرنسية - بأحرف كبيرة بارزة. لا يجد خبراء الخِطاطة، حين تصفح بعض أوراقه، صعوبة في الكشف عن المعنى الذي يضفيه هشام المشيشي على مفهوم الدولة، يراها من زاوية الفخامة والاستقلالية والسيادة والعدل... كان ذلك ديْدن هذا الرجل الذي تقلَّد قبل ثلاثة أشهر منصب وزير الداخلية. هو ابن لوالدين يشتغلان في شركة السكك الحديدية، يقطنان في حي الشركة الوطنية العقارية بضاحية الزهراء، فشبّ على التعلق بقيم الجمهورية وبالخدمة العامة، وارتقى درجات السُّلَّم الاجتماعي الذي كان لبورقيبة فضل إنشائه في غمرة نشر التعليم وفتح المدارس ووالمعاهد الكليات التي يأتيها شباب تونس إناثا وذكورا من كل صوب وحدب.

لنستمع إلى ما يقوله أحد أصدقاء الطفولة وقد رافقه ولازمه من بداية مرحلة التعليم الأولى، والتحقا سويا بعد التخرج بسلك المراقبة العامة للمصالح العمومية. يقول هذا الرفيق لمجلٰة ليدرز ونعني أنور بنخليفة الذي شغل منصب كاتب دولة مكلف بالحوكمة  والوظيفة العمومية في حكومة المهدي جمعة: "هشام كان لا يجاريه أحد من التلاميذ، ولا يتفوق عليه أحد في مادة الفرنسية مُذْ كان تلميذا بالمدرسة الابتدائية، ثم بعد ذلك بالمعهد الثانوي حيث ظل محافظا على المرتبة الأولى في مادة الإنجليزية." ويعمل هذا الرفيق حاليا موظفا ساميا  صلب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي  ومثّل البرنامج في العديد من الدول العربية في الشرق.

غويا، فالسكيز .. والموسيقى الكلاسيكية

دأب الرفيقان طيلة سنوات الشباب على الانكباب على الدرس بكلّ جدّ، واجتازا مراحل التعليم بنجاح، وكانت لهما ميولٌ واهتماماتٌ فكرية متجانسة يحرصان على تقاسمها . كما كانا مولعيْن بالسفر، فأخذا عصا الترحال في بادئ الأمر إلى إسبانيا، في رحلة نظمتها الجمعية التونسية لسياحة الشباب، ولم يتجاوزا وقتئذ مستوى سنة سادسة ثانوي... أعجبا بمدينة مدريد أيّما إعجاب، واكتشفا متحف البرادو حيث استمعا باهتمام إلى المرشد السياحي وهو يطوف بهما عبر محتويات المتحف... شدت نظرهما رسوم غويا ولوحات فالسكيز، فتوقفا طويلا عندها، ووجدا في تأملها متعة لا توصف. فأنشأ ذلك في نفسيهما حبّا عميقا للفن، وتعلُّقا قويا به... ثم انصرف اهتمامهما إلى الموسيقى الكلاسيكية، وظلا على صلة حميمة بفنّ الرسم وفن الموسيقى لم تنقطع قط.

كان لهذه الرحلة الأولى التي قاما بها خارج حدود البلاد، وكانا  في مقتبل العمر، أعمق الأثر في النفس، دفعت بهما بقوة في لجَّة الحياة.. فجَّرت الكوامن، وفتَّقت المواهب، وفتحت الآفاق.. فأدركا أنّ الاختلاف غير الفرقة والانقسام، بل هو التنوع ،وهو مَعِينُ ثراء ثقافي وفكري.. أدركا أنّ الانفتاح على العالم الخارجي يجعل الآفاق شاسعة رحبة، بلا حدود... فكان كل ذلك لهما ذخرا ومصدر إثراء وإلهام، واتخذاه عُدَّةً لهما في سعيهما لبناء المستقبل، وخوض غمار الحياة العملية بأوفر حظّ من النجاح. ...

خيار الخدمة العامة والمراقبة المالية والإدارية

درسا الحقوق معًا، وتحصلا معًا على الماجستير (1989)، ثم قررا أن ينتهي بهما المطاف إلى الإدارة والخدمة العامة، فالتحقا بالمدرسة الوطنية للإدارة - مرحلة عليا (2002).. في السنة الثالثة وقع اختيارهما على سلك المراقبة الذي أتاح لهما فرصة التعرف عن كثب وبعين محايدة وبصيرة علي سير المصالح العامة، وبادرا إلى اقتراح بعض التعديلات والمراجعات. وتَوَّج هشام المشيشي هذا المسار بالدخول إلى المدرسة الوطنية للإدارة بفرنسا . تحصل على شهادة الماجستير في الحقوق بكلية الحقوق والعلوم الانسانية بتونس ، وعلى شهادة التخرّج من المدرسة الوطنية للإدارة بتونس، وعلى شهادة الماجستير، إدارة عامة ، بالمدرسة الوطنية للإدارة بسترازبورغ.

قطبان يلتقيان

سافر أنور بن خليفة بعد ذلك إلى الولايات المتحدة حيث تحصّل على شهادة في ختم برنامج " ه . هوبار هامفري " بجامعة مينوسوتاووذهب المشيشي من جهته إلى سترازبورغ حيث التحق بالمقر الجديد للمدرسة الوطنية للإدارة، وبقي هناك مدة عامين (2005-2007) ، وكان لمقامه طيلة هذه المدة أعمق الأثر في نفسه.

وقد تخرّج معه عدد من الأصدقاء تولَّوا فيما بعد مناصب ذات بال صلب الإدارة الفرنسية، فمنهم من اشتغل واليا في جهة " لا لوار اطلانتيك " - غربي فرنسا –وفي جهة " لواز " – شمال فرنسا – في وجهات أخرى، كما تخرّج معه آخرون التحقوا ببعض الدواوين الوزارية بصفة مستشارين . وتخرج قبله بسنة من نفس المدرسة وزير الداخلية الفرنسي الحالي كريستوف كاستانير . وقال هشام المشيشي في حديثه لليدرز معقبا: " ما يمكن تعلّمه بالأساس بالمدرسة الوطنية للإدارة هو التفكير، وخاصة البحث عن الحلول ". وقد ظل متشبثا بهذا التوجه واتخذه دليلا ونبراسا في حياته، حريصا على مجاراة الإدارة في صرامتها وتقيّدها بقواعد معلومة لا تحيد عنها ، دون أن يمنعه ذلك من انفتاح الذهن، وعدم التقيّد بفكر واحد وبرأي واحد.

الإقامة في مقاطعة الكوريز (جنوب غربي فرنسا) في عهد شيراك ... ولقاء هولاند

قضَّى هشام المشيشي فترات تربّص في عدد من مراكز المقاطعات ( الولايات ) الفرنسية .. وشاء حسن حظه أن يلتحق بمقاطعة الكوريز موطن الشيراكية ... وشاءت الصدفة أن كان فرانسوا هولاند رئيس فرنسا السابق يشغل في ذلك الوقت منصب رئيس للمجلس الجهوي لإقليم الكوريز (2008 –2012 ) وهو أيضا من خريجي المدرسة الوطنية للإدارة ، وكان يتولى منصب رئيس لبلدية " تول "عاصمة المقاطعة (2001– 2008) . ومن هذا المرصد المتميز، أتيح لهشام المشيشي أن يكتشف من قريب حقيقة استقلالية سلك رؤساء المقاطعات واستقلالية الإدارة الفرنسية تجاه التنظيمات السياسية الموالية لكل من شيراك وهولاند على رأس الدولة. وتعلّم الدرس منذ ذلك الوقت..

إلى جانب عبد الفتاح عمر داعمًا ومُعينا

التقى رفيقا الصبا هشام وأنور بالقصبة بمصالح المراقبة العامة للمصالح العمومية.  وفي 14 جانفي 2011 حصل منعرج حاسم في مسارهما المهني ، فقد تم تعيينهما منذ شهر فيفري 2011 صلب اللجنة  الوطنية للتقصي عن الفساد والرشوة برئاسة عبد الفتاح عمر. لقد وقع الاختيار عليهما لتعيينهما في هذا المنصب الدقيق من قبل رضا عبد اللطيف، المدير العام للمراقبة العامة للمصالح العمومية (الذي عين في نفس السنة كاتبا عاما للحكومة) وبموافقة رئيس اللجنة . وكان رضا عبد اللطيف يريد من وراء هذا التعيين دعم اللجنة بانضمام شخصيتين من ذوي الكفاءة العالية والتجربة المتميزة التي يُعْتَدُّ بها والقدرة المشهود بها على قطع دابر الفساد حيثما وُجِد.

لأول مرة في قصر قرطاج

كان على عبد الفتّاح عمر أن يلتقي رئيس الجمهورية بالنيابة، فؤاد المبزع، يوم 10!نوفمبر 2011 ليقدم له تقرير اللجنة التي يترأسها . ولم يلتحق بالقصر الرئاسي بمفرده، بل طلب أن يرافقه في هذه المقابلة كلّ أعضاء فريقه. فكانت تلك هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدما هشام المشيشي قصر قرطاج، وقد انبهر حين حلوله بهذا المعلم الجمهوري المهيب الذي شيده بورقيبة وحيث تدار أمور الدولة ويلتقي أهل الحلّ والعقد. وفي الصورة التي التقطت للمجموعة،ويتوسطها الرئيس فؤاد المبزع، يشاهد هذا الذي سيصبح فيما بعد وزيرا للداخلية، وقد أخذ مكانه في احتشام وحرج في الصف الثاني، حتى أنّه بالكاد يمكن التعرف عليه... وشاءت الأقدار بعد ذلك أن يدخل قصر قرطاج ثانية في بداية سنة 2020 إثر تعيينه من طرف الرئيس قيس سعيد كمستشار أول مكلّف بالشؤون القانونية..

مسار طويل على رأس بعض الدواوين الوزارية

تعرّف هشام المشيشي لمَّا كان عضوا في لجنة فتّاح عمر على نائلة بن شعبان وكانت الوجه البارز صلب الفريق. نائلة شعبان شخصية جامعية ، تعمل اليوم كعميدة لكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس. ترك لها هشام المشيشي لمَّا كان في عضوية الهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب انطباعا حسنا، وترى فيه شخصية مرموقة جديرة بالتقدير والاحترام، وذات كفاءة عالية. ولما تم تعيينها في منصب كاتبة دولة للمرأة والأسرة والطفولة في حكومة المهدي جمعة في فيفري 2014 ، وقع اختيارها على هشام المشيشي ليرأس ديوانها.

وفي نهاية سنة 2014 انتقل هشام المشيشي بمثل خطته إلى وزارة النقل في حكومة الحبيب الصيد، وكان محمود بن رمضان قد عُيّن على رأسها. وسرعان ما لمع نجمه  في ذلك الوقت بعد أن أبدى قدرة فائقة على التصدي لبعض الأزمات وتسويتها، وعُرِف في كل المحافل الوزارية على كونه مخاطَيا كفئا يحذق التفاوض مع النقابات بفضل ما جُبِل عليه من قدرة على الصبر والتحمل،وحرص على البتّ في الأمور بأيسر السبل، وما عُرف عنه من حنكة في إزالة التوترات والإفراج عن الملفات العالقة... وقد تعلّم الكثير وترك بصمات صلب كل الوزارات التي عمل بها. ولما عُيِّن محمود بن رمضان على رأس وزارة الشؤون الاجتماعية، ألح على رئيس ديوانه حتى يلتحق به، وهو ما حصل بالفعل. وهنا، تبدل المشهد، وتغيرت الملفات، وكان لا بد من الدخول في غمرة العلاقات المهنية والمفاوضات مع النقابات العمالية ونقابات الأعراف، ومعالجة ملفّ الفقر، والخوض في قضية المعوقين وفي مسألة اختلال توازنات الصناديق الاجتماعية والصندوق الوطني للتامين على المرض، وواصل عمله إلى حد انتهاء مهام الوزير في أوت 2016 بعد تشكيل حكومة يوسف الشاهد.

ولم يمض وقت طويل على تعيينها على رأس وزارة الصحة العمومية في الحكومة الجديدة حتى بادرت السيدة سميرة مرعي إلى جلب هشام المشيشي إليها كرئيس لديوانها. حينذاك، تغيّر المشهد مرة أخرى . ليس من السهل التحكم في هذه " الماكينة " الثقيلة، المعقدة وذات المراس الصعب. ومرة أخرى، يجد هشام المشيشي نفسه ، تماما كما وجد نفسه سابقا في وزارة النقل، وقبل ذلك في وزارة الشؤون الاجتماعية، مضطرا إلى البقاء على اتصال لا ينقطع بقاعة العمليات وتُسمَّى في وزارة الصحة "شوك - روم " أي "غرفة الصدمات " ... وهذا يعني الكثير. كان إذن في الصف الأول من الجبهة حيث الاستعجاليات الصحية والنزاعات الاجتماعية الخ. وما كان بوسع المرحوم سليم شاكر الذي انتصب على رأس الوزارة لمدة قصيرة ( سبتمبر – أكتوبر 2017) أن يستغني عن خدمات المشيشي على رأس ديوانه . وبعد وفاته يوم 8 أكتوبر 2017 لم يجد خلَفُه عماد الحمامي بُدًّأ من الاستنجاد بهشام المشيشي باعتباره الموظف السامي الكفء.

وزراء كُثْر ووزارات كُثْر وأحوال باقية على حالها

اضطلع هشام المشيشي بخطة رئيس ديوان  طيلة خمس سنوات بالتمام والكمال، في كتابة دولة وفي ثلاث وزارات وعمل مع  كاتبة دولة وأربعة وزراء مختلفين، وكل هؤلاء تحت إمرة ثلاثة رؤساء حكومات بالتداول .. ليس من بد إذن أن تنتهي هذه التجربة التي كسب خلالها هشام المشيشي  ثقة كل الوزراء الذين عمل معهم ، وكسب احترام كل الأطراف الفاعلة كالنقابات وغيرها...وظل أسلوب عمله خلال كلّ هذه المراحل التي مرّ بها هو هو لم يتغير قيد أنملة: البقاء في حال من الهدوء وعدم الانزعاج واستيعاب المشاكل التي تطرأ وحصرها واستشارة من يتعيّن استشارتهم والذهاب مباشرة إلى حيث يوجد الحلّ أوالحلّ التوافقي ...
هل سيغير هشام المشيشي من هذا الأسلوب شيئا وقد أصبح وزيرا للداخلية؟ الأمر مستبعد جدّا ... ما من شك في أنّ الذهنية ستبقى على حالها وكذلك أسلوب العمل وطريقة التعاطي مع المشاكل والملفات. سيبقى حريصا كعادته على الإفادة والإتيان بالقيمة المضافة اللازمة... وسيتعلّم الكثيرالكثير : أوجه التشابه والاختلاف بين هذه الوزارة وتلك؛ أسلوب عمل كل وزير ؛ هل لهذا الوزير انتماء حزبي بعينه؟ أم هل هو مستقل على الحياد ؟ فنادية شعبان مستقلة ، ومحمود بن رمضان يتنمي إلى حركة التجديد، وانضم إلى نداء تونس ... وسليم شاكر هو أحد مؤسّسي نداء تونس؛ أما سامية مرعي فقد كانت في السابق نائبة بالمجلس التأسيسي وهي عضو في قيادة حزب آفاق ، بخلاف عماد الحمامي الذي كان انضم الى المجلس التأسيسي وهو أحد قيادي حزب النهضة ... وبما أنّ رئيس الديوان هو العضد الأقرب للوزير فلا بد من السعي إلى كسب ثقته بالإخلاص له وبفضل ما يتحلّى به من كفاءة وتفان في خدمة الدولة وتقديم المصلحة العامة...خلال هذه المسيرة المتميٌّزة حافظ هشام المشيشي على ثوابته وسيبقى دائما هكذا لا يغير من سلوكه ومن أسلوب عمله وسيظلٰ متشبثا بقوة وإصرار كذلك بنفس المبادئ وأنماط التفكير وأن يستعمل نفس الأدوات التي يلجأ إليها في كلّ مرة...

من المراقبة الصحية... إلى الأمن والإدارة الجهوية

خاض هشام المشيشي تجربة جديدة على رأس مؤسسة عمومية هامة .. لم يتأخر عماد الحمامي في تعيينه في فيفري 2018 مديرا عاما للوكالة الوطنية للمراقبة الصحية والبيئية للمنتجات جزاء له على ما قدمه من خدمات وما بذله من جهد . بقي على رأس هذه المؤسسة عامين ثم تطورت الأمور بسرعة في 20 فيفري 2020: شكلت حكومة جديدة وعيّن هشام المشيشي وزيرا للداخلية.

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.