أخبار - 2020.06.03

الحبيب الدريدي: الأميرة نازلي فاضل ومجالسها الأدبيّة رَوْضٌ تفتّحت فيه براعم التّحديث

الحبيب الدريدي: الأميرة نازلي فاضل ومجالسها الأدبيّة رَوْضٌ تفتّحت فيه براعم التّحديث

بقلم د. الحبيب الدريدي - من التّقاليد التّي رافقت حركات التّحديث والتّنوير في أوروبا وفي البلاد العربيّة على حدّ السّواء وكان لها أثر بعيد في حياة النّهضة في الغرب والشّرق الصّالونات أو المجلس الأدبيّة والفكريّة. ولعلّ أقدمها صالون السّيّدة كاترين دي فيفون Catherine de Vivonne (1655 - 1588) الذّي كان يلتئم بقصر «رامبويياي» وقد شيّدته بنهج «سانت توماس دي لوفر» بباريس واستقبلت فيه أعلام الفكر والأدب بفرنسا في القرن 17 من أمثال «شابلان» و«كوتان» و«سانت أمون» و«سارازان» و«دي سابلاي» وغيرهم. ثمّ ظهر صالون لا يقلّ شهرة وإشعاعا هو صالون »مدام دي ستال« Mme de Staël (1766-1817) في قصر »كوباي« Coppet على ضفاف بحيرة جينيف، وهي المرأة التّي ستكون أفكارها ومؤلّفاتها منطلق انتشار المذهب الرّومنطيقي في الآداب الأوروبيّة. ثمّ كان للسيّدة »جان فرنسواز ريكامياي« J.F. RÉCAMIER  (1777-1849) مجلس أدبيّ في قصر «لاباي أو بوا» كان من روّاده «شاتوبريان» و«بنجامان كونستان»  و«أمبار» وغيرهم من ألمع أدباء فرنسا في القرن 19.

أمّا في البلاد العربيّة فقد نال صالون الأديبة اللّبنانيّة المصريّة مَيْ زيادة (1886 - 1941) شهرة واسعة، إذ كانت تستقبل فيه المفكّرين وأعلام الثّقافة من كلّ أرجاء الوطن العربيّ مثل طه حسين وإسماعيل صبري ومصطفى عبد الرّازق ومصطفى الرّافعي وعبّاس العقّاد وخليل مطران ويعقوب صروف وشبلي شُميل...

ولكنّ المرأة التّي سبقت إلى إنشاء الصّالونات الأدبيّة في البلاد العربيّة فهي دون شكّ الأميرة نازلي فاضل (1853 - 1914)، بل لعلّها تمتاز عن كلّ مثيلاتها بأنّها أنشأت صالونين اثنين في بلدين مختلفين، فقد كان لها صالون أوّل بالقاهرة نشط في ثمانينات القرن التّاسع عشر وصالون ثان بتونس نشط في تسعينات القرن 19 وبداية القرن 20.

وحريّ بنا قبل الخوض في ذكر هذين المجلسين الأدبيّين وما كان لهما من بالغ الأثر في ترقية الحياة الفكريّة والأدبيّة بمصر وتونس أن نبادر إلى التّعريف بالأميرة نازلي فاضل صاحبة المجلسين.

الأميرة المثقّفة والمتحرّرة

تنحدر هذه الأميرة من أسرة محمّد علي باشا (1769 - 1849) مؤسّس السّلالة الخديويّة والملوكيّة في مصر ورائد التّمدّن العصريّ في بلاد المشرق كلّها. ذلك أنّ والدها الصّدر الأعظم مصطفى فاضل باشا هو حفيد محمّد عليّ وابن والي مصر الشّهير إبراهيم باشا (1789 - 1848) وأخو الخديوي إسماعيل (1830-1895) الذّي حكم مصر بين 1863 و1879. وقد كان والدها وليّا للعهد في المملكة المصريّة لكنّ نظام الوراثة المستحدث في عهد إسماعيل بمقتضى فَرَمَان عثمانيّ أبعده عن ولاية العهد، فغادر مصر غاضبا واستقرّ بإسطمبول فسمّاه السّلطان العثمانيّ عبد العزيز (1830 - 1876) صدرا أعظم ترضية له.

نشأت نازلي فاضل في إسطمبول وسارت سيرة السيّدات التّركيّات في التّعلّق بمظاهر التّمدّن من علم وحريّة وتهذيب ذوق، فقد تلقّت تعليما حديثا على النّمط الأوروبيّ وارتادت معاهد التّعليـــم الأجنبيّــــة في إسطمبول وأتقنت مع العربيّة والتّركيّة والإيطاليّة اللّغة الفرنسيّة واللّغة الانقليزيّة. وحرصت على تمتين ثقافتها بالتّردّد على أوروبا ولقاء أعلام الفكر والأدب هناك والاختلاط بالأوساط الثّقافيّة والسّياسيّة ولا سيّما في فرنسا وإيطاليا.

وأتاح لها هذا التّكوين المتنوّع والمتين أن تضطلع ، على حداثة سنّها، بأدوار هامّة في الحياة السّياسيّة العثمانيّة زمن حكم السّلطان عبد الحميد الذّي امتدّ من 1876 إلى 1908، فقد سعت إلى الوساطة بينه وبين حركة الوطنيّين الأحرار. ولمّا توفيّ والدها عادت لتستقرّ بمصر دون أن تنقطع عن زيارة تركيا والبلاد الأوروبيّة إذ كانت قد تزوّجت سفير تركيا بإيطاليا، وكان أخوها الأمير حيدر مقيما في باريس ومعدودا من كبار أدباء اللّغة الفرنسيّة.

صالون القاهرة: نفحة من روح النّهضة الأوروبيّة

التأم مجلسها الأدبيّ بالقاهرة في قصر والدها، وكان يؤمّ هذا المجلسَ كبارُ أعلام الفكر والأدب والثّقافة في مصر والشّام عصرئذ من أمثال الشّيخ محمّد عبده والصّحفي إبراهيم المويلحي والأديب محمّد المويلحي وسعد زغلول وقاسم أمين ورائدة الحركة النّسويّة في مصر هدى شعراوي والأديب السّوري عبد الرّحمان الكواكبي وغيرهم كثير. وكان هذا الصّالون عاملا من عوامل نشر فكر الحداثة والتّنوير وإشاعة روح عصر النّهضة الأوروبيّة في المشرق العربيّ، فبتأثير منه أُنشئت جمعيّات ومطابع ونُشرت مقالات وفصول وأُصدرت كتب ومؤلّفات. بل إنّ هذا الصّالون أثّر تأثيرا بالغا في التّطوّر الفكريّ لروّاده، فقاسم أمين الذّي كان قد أصدر كتابا بعنوان «المصريّون» يدافع فيه عن ضرورة ارتداء الحجاب وعدم خروج المرأة للعمل ومنع الاختلاط يتبدّل تبدّلا جذريّا فيُصدر كتابه « تحرير المرأة» الذّي طُبع على نفقة الأميرة نازلي فاضل وتميّز بدعوة صاحبه إلى فكّ قيود المرأة وتعليمها وتمكينها من حقوقها، ثمّ أردفه بكتابه الثّاني «المرأة الجديدة» الذّي عُدّ أبرز معالم الإصلاح الاجتماعيّ في مصر. أمّا الشّيخ محمّد عبده فكان الصّالون سبيلا إلى اهتمامه بدراسة اللّغة الفرنسيّة وآدابها دراسة معمّقة بتشجيع ورعاية من الأميرة نازلي فاضل. وبتأثير من هذا الصّالون كذلك تخلّى سعد زغلول – وهو تلميذ الشّيخ محمّد عبده- عن لباسه الأزهريّ وارتدى الزّيّ العصريّ، وتوثّقت صلته بنازلي فاضل فعيّنته محاميا لها ودفعته إلى دراسة اللّغة الفرنسيّة ورشّحته للزّواج من «صفيّة هانم» ابنة مصطفى باشا فهمي رئيس الوزراء آنذاك.

الصّالون التّونسيّ: بذرة الحركة الإصلاحيّة الجديدة

أتيحت للأميرة نازلي فاضل فرص التّعرّف إلى النّخب التّونسيّة من سُبل عديدة، أوّلها عائليّ فقد كانت شقيقتها الأميرة رُقيّة قد تزوّجت أحد الأثرياء التّونسيّين وهو الطّاهر بن عيّاد، وثانيها ثقافيّ إذ التقت بباريس في مقرّ مجلّة «العروة الوثقى» التّي كان يديرها جمال الدّين الأفغاني مجموعة من الشّبّان التّونسيّين ولاحظت ما يمتازون به من رجاحة التّفكير واستقامة السّلوك والميل إلى الجدّ والزّهد في مغريات الحياة الغربيّة فكان ذلك ممّا عزّز الرّوابط بينها وبين الحياة التّونسيّة ورغّبها في زيارة تونس. وثالثها سياسيّ إصلاحيّ، فقد تعرّفت في مصر إلى الشّيخ محمّد بيرم وأبنائه بعد استقرارهم بالقاهرة واجتمعت في باريس بعدد من أعلام الحركة الإصلاحيّة بتونس مثل الجنرال حسين.

وعلى هذا النّحو حلّت الأميرة نازلي فاضل بتونس سنة 1896 واتّصلت أوّل مقدمها بالشّيخ سالم بوحاجب وابنيه عمر وخليل، واختارت أسرتَه أسرة جديدة لها، فقد تزوّجها خليل بوحاجب سنة 1897. وجدّدت بعد زواجها به عهدها بالصّالونات الأدبيّة، إذ اتّخذت من قصرهما بضاحية المرسى ناديا ثقافيا إصلاحيّا يجتمع في رحابه أعلام الثّقافة والفكر والأدب والصّحافة.

وقام هذا المجلس على ركنين أساسيّين هما الجمعيّة الخلدونيّة وجريدة الحاضرة. فقد اقترن قدوم الأميرة نازلي فاضل إلى تونس بتأسيس الجمعيّة الخلدونيّة فتحمّست لها وتبرّعت لفائدتها من مالها بسخاء، وعُيّنت رئيسة شرفيّة لها، ومن ثَمّ كان رجال الخلدونيّة من أمثال البشير صفر ومحمّد الأصرم ومحمّد بالخوجة ومحمّد القروي من روّاد مجلسها الأدبيّ الذّي عزّز عمل الجمعيّة ونشاطها بما كان ينهض به من تحريك للهمم والقرائح إلى طرائق جديدة في الانتاج الأدبيّ والفكريّ.

كما تحمّست الأميرة نازلي فاضل لصحيفة الحاضرة، وهي أوّل صحيفة عربيّة غير رسميّة بتونس، وسبب هذا الميل هو النّهج الذّي سارت عليه هذه الصّحيفة في الدّعوة إلى الأخذ بوسائل التّمدّن الأوروبّيّ ومناصرة فكر التّحديث والتّنوير فضلا عن مسلكها السّياسيّ المعتدل. وبذلك ضمّ المجلس الأدبيّ لهذه الأميرة أبرز محرّري الحاضرة وفي مقدّمتهم صاحبها علي بوشوشة وصديقه ومساعده عبد الجليل الزّاوش. وكان هذا المجلس يضمّ فضلا عن أشهر ممثّلي النّخبة التّونسيّة المثقّفة أعيان الجالية الأوروبيّة وصفوة الضّيوف المشارقة من أتراك ومصريين أو المغاربة، من ذلك حضور الشّيخ محمّد عبده مفتي الدّيار المصريّة جلسات هذا الصّالون لدى زيارته الثّانية إلى تونس في شهر سبتمبر 1903، وبعض الشّخصيّات المرموقة من حركة تركيا الفتاة الفارّين من عسف السّلطان عبد الحميد. وسيكون للقائهم بعدد من الشّبّان التّونسيّين في هذا المجلس الأثر البعيد في تأسيس حركة الشّباب التّونسيّ وبعث جريدة « التّونسيّ « أوّل صحيفة ناطقة بالفرنسيّة يصدرها الأهالي بتونس.

وممّا تولّد عن هذا الصّالون كذلك نشأة أوّل مدرسة للبنات المسلمات بتونس، فبعد أن اختلفت الآراء صلب النّخب المحليّة بشأن هذه المسألة وطغى الحذر على زعماء النّهضة التّونسيّة اصطحبت الأميرة نازلي فاضل البشير صفر إلى القاهرة لإطلاعه على تجربة التّعليم الخاصّ بالبنات المسلمات فعاد من هناك مقتنعا بوجوب الأخذ بهذه التّجربة، فتأسّست بالفعل المدرسة الأولى للبنات المسلمات.

ولعلّه قد تبيّن أنّ السّنوات التّي أمضتها الأميرة نازلي فاضل بتونس ولا سيّما نشاطها صلب مجلسها الأدبيّ قد كان لهما الوقع الكبير في تنشيط الحركة الثّقافيّة والأدبيّة والفكريّة وفي دفع النّفس الإصلاحيّ، فكأنّ حضورها بتونس ومجلسها كانا بمثابة حلقة الوصل بين بواكير حركة الإصلاح التّي قادها خير الدّين وبيرم الخامس وابن أبي الضّياف وامتدادات هذه الحركة التّي سيواصلها علي باش حامبة وزعماء «الشّباب التّونسيّ» في مفتتح القرن العشرين.

الحبيب الدريدي
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.