محمد النوري - ما بعد أزمة الكورونا من منظور الاقتصاد الإسلامي: دلالات واستنتاجات*
د. محمد النوري/ أستاذ وباحث في الاقتصاد الإسلامي. ما علاقة الاقتصاد الإسلامي بما يحدث اليوم من جراء أزمة الكورونا وما بعدها؟ ما هي أبرز الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الازمة على النطاقين الدولي والمحلي؟ ماهي الدلالات الأساسية من منظور الاقتصاد الإسلامي التي خلفتها الازمة؟ وأخيرا ماذا يمكن استنتاجه من تلك الدلالات لكي يتم البناء عليه في صياغة نظام اقتصادي انساني عادل بديلا عن النظام النيوو- ليبرالي المتوحش الذي تعاني من ويلاته البشرية جمعاء؟ تلك هي مجموعة التساؤلات موضوع هذه المقالة.
من الكساد الكبير (1929) الى الكساد الأكبر (2020)
اذا كان "الكساد الكبير" الذي شهده العالم عام 1929 واستمر لمدة عشر سنوات كاملة الى حدود عام 1939، يعتبر الحدث الاقتصادي الأكثر "كارثية" في القرن العشرين، فإن التقديرات الراهنة وفق ما تفيد به التقارير الدولية والتحاليل المتابعة عن كثب لتداعيات هذه الازمة ، تشير الى أن ما بعد الكورونا ستكون مرحلة "الكساد الأكبر" والأكثر مأساوية في القرن الواحد والعشرين. حيث من المرجح أن تعيد هذه الازمة النظر في الكثير من المفاهيم الاقتصادية السائدة التي يقوم عليها منوال اقتصاد السوق الليبرالي المتحكم في معظم اقتصاديات العالم، وفي مقدمة هذه المفاهيم، مفهوم العولمة والمنظومة التي انبثقت عنه والذي يحتاج على ما يبدو الى مراجعة جذرية أو إعادة صياغة نموذج جديد لها، وكذلك المفهوم الاقتصادي للدولة ودورها في الاقتصاد، بالإضافة الى إعادة النظر في سلم الإنتاج والاولويات التي يستند اليها وعلاقتها بدالة الإنتاج الرأسمالية وأساليب أداء العمل الجديدة وغيرها. كما تجمع تلك التقارير والتحاليل الى أن هذه الازمة ستكون أخطر من سابقاتها لكونها تشتمل على صدمة مزدوجة في آن واحد على مستويي العرض والطلب ، وسوف تكون مدمرة جدا في صورة إذا ما طال أمدها.
من الانعكاسات المباشرة لهذا الكساد المنتظر اتساع دائرة النمو السلبي في مجمل اقتصاديات العالم، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتقلص الاقتصاد العالمي بنسبة -3% هذا العام، مع انكماش بأسرع وتيرة منذ عقود. ففي أمريكا من المتوقع ان يبلغ الانكماش نسبة -5.9% خلال العام الجاري، وفي ألمانيا -7% وفرنسا -7.2% وإيطاليا -9.1% وإسبانيا -8% والمملكة المتحدة -6.5% . وتشير بيانات وزارة العمل في أمريكا أن نحو 36 مليون شخص سجلوا للحصول على إعانات البطالة خلال الشهرين الأخيرين. كما تتوقع منظمة العمل الدولية أن تؤدي أزمة الكورونا إلى إلغاء 195 مليون وظيفة .
ولمعالجة الانكماش الذي تمتد جذوره الى بداية ازمة 2008 اتجهت العديد من الدول الغربية الى اللجوء الى ما يعرف بسياسة "التيسير الكمي" التي تتطلب تنزيل سعر الفائدة الى الصفر وحتى ما دون الصفر. وقد طبقت هذه السياسة مجموعة هامة من الدول يفوق العشرين بلدا مثل سويسرا والدنمارك والسويد واليابان والعديد من بلدان منطقة اليورو وغيرها. وكان الهدف منها انعاش النمو عبر تيسير الاقتراض ودفع الاستثمار باعتبار ان أسعار الفائدة المرتفعة أدت الى عكس ذلك. لكن النتائج لحد الان كانت دون المأمول ولم تحقق الاهداف المرجوة منها بل كانت في بعض الأحيان مخيبة للآمال.
وتعبر هذه السياسة ايما تعبير عن تخبط الاقتصاد الرأسمالي القائم على آلية سعر الفائدة في تخصيص الموارد وإدارة الاقتصاد. وتجدر الملاحظة في هذا الصدد الى أن هذا التخبط ليس جديدا ، فقد أشار الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز في "نظريته العامة" الى هذه المفارقة التي يتخبط فيها النظام الرأسمالي المعتمد على سعر الفائدة عندما اعتبر انه كلما كان سعر الفائدة مرتفعا كلما كانت كلفته باهظة على المستثمرين. وكلما كان سعر الفائدة منخفضا او محدودا كلما أضر بالمودعين. وانتهى بمقولته الشهيرة "لا يمكن ان تنتهي الأزمات الاقتصادية في العالم الا عندما يكون معدل الفائدة صفر” .
هذا التخبط يعيد سؤال التوزيع ومكافأة عناصر الإنتاج وتحديدا رأس المال الى الساحة ، والى التفكير من جديد في مدى كفاءة سعر الفائدة في تخصيص الموارد وتمويل الاقتصاد، وهو ولا شك سؤال جوهري لم يسبق أن أعيد طرحه منذ تأسيس علم الاقتصاد.
لم يعد سعر الفائدة بشهادة الكثيرين أداة كفؤة في تخصيص الموارد وإدارة دفة الاقتصاد، بل اثبتت الدراسات الحديثة انه أضحى أداة سيئة ومضللة للسياسات الاقتصادية والخيارات التنموية، وذلك لأسباب ثلاثة: الاول لكونها تتحيز للمشروعات الكبيرة على حساب المشروعات الصغرى والمتوسطة، والثاني تحيزها أيضا للاستثمارات قصيرة الاجل التي تؤدي الى انتاج السلع الاستهلاكية والكمالية على حساب السلع والمواد الاساسية، والثالث كونها تعزز الاتجاهات الاحتكارية في الاقتصاد.
وفي نفس الاتجاه، لم تعد سياسة التيسير الكمي المرتبطة بسياسة الفائدة السلبية تحظي بقبول كبير حتى في البلدان التي تطبقها حالياً في اليابان ومنطقة اليورو وغيرها، حيث وجهت صوبها الانتقادات والاعتراضات حتى من داخل المؤسسات الدولية الراعية لها. فقد اعتبر أحد مسؤولي صندوق النقد الدولي أن أسعار الفائدة السلبية لها أضرار مستقبلية على المجتمع، خصوصاً إذا كانت طويلة الأمد، حيث أنها تلعب دوراً ذا تأثير سلبي على برامج التأمين على الحياة وصناديق التقاعد والادخار العام وغيرها. وكان من نتائج تطبيق هذه السياسة في اليابان مثلا خسارة المصارف اليابانية نحو 35 في المائة، وخسارة أسهم المصارف الأوروبية نحو 30 في المائة وتراجع أسهم المصارف الأمريكية بما يقارب 20 في المائة.
الى جانب النمو السلبي والفائدة السلبية سجلت مرحلة أزمة الكورونا اضطرابات هامة في الأسواق. فطبقا لتقرير البنك الدولي افريل 2020 تشير التوقعات الى انخفاض أسعار الطاقة بنسبة 40٪ عام 2020.وكذلك أسعار المعادن التي ستنخفض من جراء تراجع طلب السوق الصيني الذي يستحوذ على نصف الطلب العالمي. كما سجلت خسائر تاريخية في أسواق المال التي بلغت ما يفوق 10 تريليون دولار وتراجعت الأسهم العالمية مع انتشار الوباء حيث سجلت كل المؤشرات في البورصات الدولية انخفاضات ما بين 20 و25 في المئة، وهي الأسوأ منذ عام 2008.
لكن الأخطر من كل ذلك ولأول مرة في تاريخ الأسواق المالية توجه العقود الآجلة في بعض المؤشرات والسلع الى مستوى سالب أيضا. فقد تابع العالم بذهول الهبوط المفاجئ لأسعار العقود الآجلة للنفط الخام الأمريكي الى ما دون الصفر، وهوما أثار جدلا واسعا في الاوساط الاقتصادية والمالية وطرح العديد من التساؤلات الجوهرية حول الدور السلبي والخطير للعقود الآجلة والمشتقات عموما في تفجير الأوضاع في هذه الأسواق وخصوصا أسواق السلع الرئيسية وفي مقدمتها النفط. لكن اتضح للجميع ان جوهر الازمة ليس في سوق النفط بل هي في سوق المال وهو ما صرح به صراحة الرئيس الأمريكي من جراء المضاربات الوهمية والمعاملات الصورية التي لا تقوم على التبادل الحقيقي وانما على تسوية الفروقات في الاسعار مما يرتب خسائر للشركات والدول المستوردة للنفط مثلا.
لذلك ومن أجل تفادي مثل هذه المجازفات والمضاربات على العقود الآجلة دعا الاقتصادي الفرنسي الشهير "موريس آلي" منذ عقود الى ضرورة رفع الهامش المطلوب في تلك العقود بدرجة كبيرة لمنع كل السلوكيات الضارة بالاقتصاد. وهو ما يتطابق مع موقف الاقتصاد الإسلامي الذي يمنع التعامل بالعقود الآجلة وكل المشتقات المالية من خيارات ومستقبليات ومقايضات حيث اشترطت الشريعة الإسلامية في هذا الباب المناجزة أي اكثر من مجرد رفع الهامش، وهو تسليم الثمن كاملا لتقليص المجازفات وتوجيه المبادلة الى النتيجة الإيجابية من خلال إتمام التبادل الحقيقي للسلع، ووضعت ضوابط للعلاقة بين النقود والسلع وشروط للمبادلة الاقتصادية العادلة كما نص عليها حديث الأصناف الربوية الستة.
وامام هذه التداعيات الهامة على صعيد الاقتصاد العالمي، ترتسم ثلاث سيناريوهات محتملة للمستقبل الاقتصادي العالمي: الاول عنوانه الاستمرارية أي بقاء النموذج الليبرالي القائم واستمراره في المناورة دون القبول بإصلاحات جذرية وهو احتمال يستبعده العديد من الخبراء والمتابعين لتطورات الاوضاع بعد هذه الازمة المستجدة، والثاني عنوانه التجدد و التكيف مع المستجدات استنادا الى التجربة التاريخية للرأسمالية وقدرتها على التطور ومواكبة المتغيرات وهو ما يعني تطوير الرأسمالية نفسها بنفسها وانتقالها نحو مرحلة أكثر تقدما تجاه ما يمكن تسميته بالرأسمالية "الرحيمة" او "رأسمالية الناس، بينما يدشن العالم وفق السيناريو الثالث بدايات التغيير عبر تفكك تدريجي لمنظومة العولمة وبروز أنظمة متعددة غير ليبرالية تقوم على أساس الدولة القومية السيادية القوية والمنفصلة التي لكل واحدة منها هوية مميزة في انتظار بلورة بديل اقتصادي انساني عالمي.
الدلالات الأساسية لهذه الأزمة
استنادا لتلك التداعيات يمكن استنباط جملة من الدلالات الأساسية ذات التأثير المباشر على مستقبل النظام الاقتصادي العالمي، وتتمثل في احتمالات متعددة منها: تصدع منظومة العولمة أو إعادة صياغة نموذج جديد لها يأخذ بعين الاعتبار العودة للانكفاء والحمائية وتنازع حول المركزية القطبية بين الصين وامريكا، نهاية تهميش الدولة والعودة الى مرحلة الدولة الفاعلة والمتدخلة بدلا من الدولة الحارسة، فشل سياسة الفائدة الصفرية والسلبية وضرورة البحث عن بديل مرجعي للأسواق، ضرورة تصحيح الخلل الحاصل في سلم أولويات الإنتاج وهو ما يشبه الهرم المقلوب بالإضافة الى حدوث تغيرات جذرية في نمط الاستهلاك باعتبار أن الازمة فرضت نوعا من الترشيد القسري.
لقد سمحت الأزمة القائمة بتسليط الضوء على ارتدادات العولمة وانعكاساتها السلبية المرتبطة بتنامي المهددات غير التقليدية مثل: تفشى الأوبئة العابرة للقوميات على غرار فيروس الكورونا، والتلـوث البيئي، والاحتبـاس الحـرارى، والجريمة المنظمة، والإرهاب المُعولم، والتهديـدات التي تستهدف أمن تدفق المعلومـات.
كما سمحت أيضا بإعادة النظر في المقولات الخاصة بالحمائية والانكفاء مقابل الغرق في الانفتاح، والعودة الى مقولة الدولة القومية المتدخلة في الاقتصاد والراعية للأمن الإنساني بشقيه الصحي والغذائي. لكن السؤال الذي ينتظر مزيدا من الوضوح والتفكيك هو: هل أن العالم يتجه اليوم نحو فك الارتباط مع العولمة وإعادة هندسة النظام الدولي على أسس جديدة ، أم نحو إعادة إنتاج العولمة ببلورة نموذج جديد قائم على أطر التعاون في المجالات ذات الصبغة الإنسانية كالوقاية الصحية ومكافحة الأوبئة؟
مما لا شك فيه ايضا أن التكتلات الإقليمية فشلت في إدارة هذه الأزمة ومواجهة تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، ولا أدل عن ذلك ما حدث في صلب الاتحاد الأوروبي عبر عنه احسن تعبير بيان الرئيس الصربي الذي تم تداوله على نطاق واسع والذي انتقد فيه دول الاتحاد الأوروبي عن امتناعها لتقديم الدعم والمساندة لحكومته لمواجهة وباء «كورونا»، معتبراً أن المبادئ التي يتغنى بها الغرب عن التضامن الإنساني هي كلام فارغ لا يوجد إلا على الورق ولا أثر له في الواقع، وأن المساعدة الوحيدة التي تلقتها بلاده أتت من الصين، فهي الصديق وليست دول أوروبا التي هو معها في منظومة إقليمية واحدة . كذلك ما توقعه عالم التاريخ يوفال هراري في كتابه الاخير- الانسان الاله Homo deus – موجز في تاريخ الغد” من أن المستقبل سيشهد أفول الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة لصالح شيء جديد ستحدد ملامحه الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي وهندسة الجينات.
لكن ابرز الدلالات لهذه الازمة التي سيكون لها تأثير هام في المرحلة المقبلة هو نهاية مرحلة تهميش الدولة والقطع مع النظرية السائدة التي تدعو الى إلغاء أي دور اقتصادي واجتماعي للدولة والقطاع العام وتحولت هذه النظرية الى مبدأ رئيسي من مبادئ الليبرالية الجديدة يقوم على استعاضة الدولة بآليات السوق والقطاع الخاص في إدارة الاقتصاد. لقد أعلنت ازمة الكورونا الراهنة فشل سياسة “صفر دولة” في الاقتصاد ودعت الى احياء فكرة الدولة الفاعلة والمتدخلة بدل الدولة الحارسة وتفعيل هذا الدور خصوصا في إدارة القطاعات الاستراتيجية كالصحة والغذاء، وبينت بكل وضوح أن الرعاية الصحية والاجتماعية ينبغي ألا تترك للقطاع الخاص وأدوات الرأسمالية التي انكشفت هشاشتها بمفعول الكورونا، ووضعت حياة الإنسان أمام مخاطر حقيقية محدقة. ومن هنا لا يستبعد ان تتخلى كثير من البلدان عن الاستمرار في فكرة الخوصصة وربما تعود لشكل من اشكال التأميم او الشراكة بين القطاعين العام والخاص وخصوصا في قطاعات مثل التعليم والصحة.
ومن ابرز الدلالات أيضا فشل سعر الفائدة في إدارة الاقتصاد وتخصيص الموارد بكفاءة وفعالية، حيث لم يجدي الاعتماد في السياسة المالية على هذه الآلية نفعا في توجيه الاستثمار او مقاومة التضخم، بخياريه المرتفع والسلبي. فسعر الفائدة المرتفع يعاقب الاستثمار ويرفع من كلفة الإنتاج وبالتالي يسهم في تغذية التضخم وارتفاع الأسعار، وسعر الفائدة الصفري او السلبي يعاقب المدخر ويدفع نحو اللجوء الى هروب الاموال الى مناخات اكفأ وانفع.
وامام الفشل الذريع لآلية سعر الفائدة (معدل الربا) والتخبط الذي يعاني منه الاقتصاد الربوي يظل المخرج الوحيد هو ما أضحى يعرف في الادبيات الحديثة ب "اقتصاد المشاركة" الذي يقتضي إجبار رأس المال على الولوج الى دائرة المخاطرة وتحمل نتيجة ذلك عبر تقاسم المخاطر مع العناصر الشريكة في العملية الانتاجية والكف عن تحويل المخاطر الى كاهل المقترضين. وهذا هو لب الطرح الإسلامي الذي يقوم على إبطال سعر الفائدة واستبداله بمعدل العائد الذي يفرزه النشاط او المشروع. إن الموقف الإسلامي من مكافأة رأس المال موقف قائم على تصور عادل ومتوازن وغير متحيز لأي عنصر من عناصر الإنتاج. انه موقف يستند الى فقه الميزان الذي يراعي التوازن في التوزيع عبر تحريم الربا وكل عقود الظلم والغرر والجهالة.
ومن الدلالات كذلك انخرام الأولويات في سلم الإنتاج حيث حلت السلع الاستهلاكية غير الضرورية محل السلع الضرورية لحفظ حياة الانسان وتامين مستلزمات عيشه وكرامته. فقد أبانت الازمة عن هرم مقلوب في أولويات دالة الإنتاج الرأسمالية في علاقة بسياسات الاستثمار وأسلوب توفير الحاجيات الأساسية للأفراد مما يستدعي إعادة ترتيب لتلك الحاجيات لتتقدم اولويات الصحة والغذاء والتعليم والتقنية على غيرها من الأولويات القديمة كالإفراط في انتاج السلاح والمواد الكمالية غير الضرورية الأخرى، وأصبحت مجالات الصحة والبحوث العلمية المرتبطة بها، هي رأس المال الأول للدول، ومصدر أمنها واستقرارها، ومؤشر قوتها، الى جانب تحول الاعتماد على الذات في توفير تلك الضروريات الى مطلب اجتماعي في جميع البلدان.
ومن الدلالات أخيرا ظهور بداية تغيرات جذرية في نمط الاستهلاك الخاص والعام حيث فرضت الازمة ترشيدا قسريا للاستهلاك وتغيرا واضحا في السلوك الاستهلاكي، وتوجها عاما نحو شيوع ثقافة استهلاكية جديدة ونمط استهلاك جديد يركز على الأساسيات بدل الكماليات وعلى النافع قبل الضار مما أثر على كيفية إنفاق الدخل بشكل يؤدي الى فائدة أكبر، وهو ما سيجعل الناس أكثر قدرة على الادخار والتوفير فيما بعد.
لقد كان واضحاً قبل "أزمة كورونا" أن العالم بأمس الحاجة إلى إصلاحات نوعية في السلوك الإنتاجي والثقافة الاستهلاكية. فجاءت الازمة لتفرض على البشرية الإقلاع الإجباري عن نمط حياة أفرط في الاستهلاك الذي كان بعضه ضارّاً وضارّاً جداً. لكن التحدي المطروح هو هل ستدوم عادات الاستهلاك الجديدة بعد الوباء؟ والى أي مدى ستغير الأزمة سلوك المستهلك مستقبلاً؟
أبرز الاستنتاجات من منظور الاقتصاد الإسلامي
يشهد واقع الاقتصاد الإسلامي العالمي نموا ملحوظا طيلة السنوات الأخيرة الماضية على الصعيدين النظري التأصيلي والعملي التطبيقي لكن دائما في ظل غياب نظام شامل ومتكامل يتبنى نموذج عام لهذا الاقتصاد. فعلى الصعيد النظري تحتل مبادئ الاقتصاد الإسلامي حيزا مهما من الاهتمام من قبل الباحثين وعلماء الاقتصاد في الشرق والغرب على حد سواء وخصوصا منذ الازمة المالية التي بدأت عام 2008، والاخلال الجوهرية التي كشفت عنها في المنظومة الرأسمالية السائدة في مختلف اقطار العالم، من غياب تام للبعد الأخلاقي والإنساني الى طغيان الديون على هرم بناء الثروة في الاقتصاد الى تعاظم الفوارق الاجتماعية واتساع الهوة في تبادل الثروة بين فئة ال 1٪ التي تملك ما يربو عن 90٪ من الثروة وفئة ال 99٪ التي لا تملك سوى 10٪ من الثروة، وهو عكس المقصد القرآني من التداول " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم".
اما على الصعيد التطبيقي، فقد أشار التقرير السنوي عن واقع الاقتصاد الإسلامي العالمي لعام 2019/2020 الى معدل نمو لقطاعات الاقتصاد الإسلامي المنتشرة في أكثر من 73 دولة، بلغ 5،2٪ سنويا بحجم انفاق اجمالي قدره 2،2 تريليون دولار ومن المتوقع أن يصل الى 3،2 تريليون دولار عام 2024 دون احتساب اجمالي أصول المالية الإسلامية الذي يفوق 2،5 تريليون دولار، وهي تشمل مختلف القطاعات والنشاطات التي تندرج ضمن معايير الاقتصاد الإسلامي ومن أهمها قطاع صناعة المنتجات الحلال من أغذية وادوية وملابس ومواد تجميل وغيرها، وكذلك قطاع الصيرفة الإسلامية والتامين التكافلي وصناديق الاستثمار الإسلامية ومؤسسات التمويل الأصغر الإسلامي والصكوك الإسلامية وصناديق الزكاة والوقف ومنظومة القرض الحسن ومنصات التمويل الجماعي الإسلامي وغيرها.
وتتأكد أهمية الالتفات الى هذا النموذج الجديد من نماذج الاقتصاد البديل، بعدما ظهر للعيان من خلال ازمة جائحة الكورونا الراهنة من فشل النموذج الليبرالي التقليدي في تامين الحاجات الأساسية للإنسان من أمن غذائي وأمن صحي بالأساس نتيجة غياب البعد الإنساني والأخلاقي في الاقتصاد. وهو البعد الذي يتميز به الاقتصاد الإسلامي وجعلته يحظى بالمزيد من وخصوصا في جانبه التمويلي الذي يعتمد في منهج بناء الثروة على الاقتصاد الحقيقي ويعتبر ان التمويل يجب ان يظل في خدمة الاقتصاد وليس العكس أي ان يكون الاقتصاد في خدمة التمويل وهو ما يطغى بشكل واسع على الاقتصاد الدولي اليوم. وجاءت الازمة الراهنة لجائحة الكورونا لتعزز هذا البعد الواقعي بالإضافة الى ضرورة تدعيم الابعاد الأخرى الأخلاقية والإنسانية لكي تجعل المقصد الاول والاساس من النشاط الاقتصادي خدمة الانسان كل الانسان في الأرض كل الأرض ضمن اطار أخلاقي يعزز القيم الرفيعة وينمي الفضائل ويحارب القيم الهابطة ويجنب الرذائل.
وبناء على ما تقدم فان من اهم الدروس التي افرزتها هذه الازمة بناء الاقتدار الذاتي عبر الاعتماد على الذات وتعبئة الموارد وتثمين الإمكانات والثروات الداخلية المهدورة بديلا عن المديونية والافراط في الاقتراض والارتهان للخارج ، دعم الاتجاه نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في توفير المواد الأساسية بديلا عن الافراط في الاستيراد، توجيه السلوك الإنتاجي وفق التراتبية المقاصدية: الضروريات، الحاجيات، التحسينيات، وتوجيه السلوك الاستهلاكي نحو المنتوج المحلي وخصوصا في اقتصاد القوت (نأكل مما ننتج واللباس (نلبس مما نصنع) والتداوي (انتاج الدواء وتوفير الخدمات الصحية) مع مزيد من الترشيد وتجنب الاستهلاك الترفي وتبذير الموارد. ويحتاج هذا التوجه نحو بناء الاقتدار الذاتي توجيه التمويل نحو أساليب الاقتصاد التشاركي وأدوات المالية الإسلامية، ودعم القطاع الاجتماعي التضامني باعتباره القطاع الثالث الجديد الذي يجب ان يقوم عليه منوال تنمية جديد وفي اطار ذلك الاستفادة من منظومتي الزكاة والوقف لمجابهة مشكلة الفقر، محاربة الفساد باعتباره أصل المشكلة الاقتصادية ومنع هروب رؤوس الأموال (تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام).
فهل يتحول العالم بعد هذه الازمة نحو اعتماد نظام اقتصادي أخلاقي وانساني يتضمن هذه المبادئ الانسانية وتلك الابعاد الاجتماعية ؟ أجابت عن هذا السؤال مجلة التمويل والتنمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي، في عدد مارس 2019- في مقال تدعو فيه الى "استعادة الجانب الأخلاقي للاقتصاد: ينبغي للاقتصاد أن يعود لجذوره"، خلص فيه كاتبه الخبير الاقتصادي لدى صندوق النقد أنطوني آنيت، إلى التوصية التالية: "علينـا أن نسـتعيد الجانب الأخلاقـي للفكر الاقتصادي، وأن نركز عملية صنع السياسات مجددا علـى مفهـوم المصلحـة العامـة، وأن نعـاود تدريس الأخلاقيات كجزء من برامج الاقتصـاد وإدارة الأعمـال، فقـد نشأ علم الاقتصـاد كفـرع جانبـي للفلسـفة الأخلاقيـة، ويجـب أن يعـود إلى جذوره". وهو نفس التوجه الذي دعا اليه بعض الاقتصاديين الغربيين الذين درسوا بعمق مبادئ الاقتصاد الإسلامي مثل الاقتصادي الألماني فولكر نينهاوس الذي يعتبر أن الاقتصاد الإسلامي قد يُسهم في تنشيط الفرع المعياري لعلم الاقتصاد، ومن ثم في تحقيق المصالحة بين المقاربة الوضعية والمقاربة المعيارية للاقتصاد السياسي.
د. محمد النوري
أستاذ وباحث في الاقتصاد الإسلامي
* مضمون المحاضرة التي شاركت بها في ندوة برشلونة عن بعد، حول "المالية الإسلامية وتداعيات جائحة كورونا: أية آفاق مستقبلية؟" بتاريخ 22 ماي 2020.
- اكتب تعليق
- تعليق