أخبار - 2020.05.27

أزمة الكورونا: مأزق النيوليبرالية وحتمية ارساء نظام اقتصادي عالمي جديد

أزمة الكورونا: مأزق النيوليبرالية وحتمية ارساء نظام اقتصادي عالمي جديد

يشهد العالم منذ بداية 2020 زلزالا  قلب كل المفاهيم رأسا على عقب وأدى الى مراجعة جذرية لكل اشكال التفكير والممارسة. ومن المفروض ان لكل أوضاع استثنائية لا بد من مقاربة استثنائية وأجوبة استثنائية وجريئة نظرا لخطورة الازمة الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن وباء الكورونا والتي تتهدد كل بلدان العالم. البداية كانت ازمة صحية سرعان ما تحولت الى ازمة اقتصادية واجتماعية عالمية لتتخذ، فيما بعد، شكل ازمة للنظام الاقتصادي العالمي. وبالفعل، يوجد العالم اليوم امام ازمة عميقة للنظام الرأسمالي العالمي.

لقد حكمت ازمة الكورونا على الاقتصاد العالمي بالدخول في مأزق عميق معلنة بذلك عن بداية انهيار النيوليبرالية وتقهقر اقتصاد السوق. ان التداعيات الخطيرة التي افرزتها هذه الازمة لم يسبق ان شهدها العالم من قبل ومن المؤكد انها فاقت من حيث تداعياتها الازمة المالية العالمية التي اندلعت في 2008 والأزمات التي سبقتها منذ 1929، بحيث أصبح تقسيم التاريخ الاقتصادي العالمي الى جزءين : ما قبل  الكورونا وما بعدها.

ان العالم يتجه اليوم نحو مستقبل مظلم لان ما هو متوفر من رؤى وسياسات ليبرالية لا يسمح بتجاوز تأثيرات الوباء الاقتصادية والاجتماعية. وليست هذه الرؤى والسياسات الا مجموعة الإصلاحات الهيكلية وبرامج الانعاش الاقتصادي التي ما انفك يعمل صندوق النقد الدولي على فرضها والتي لا يمكن ان تؤدي، في نهاية المطاف، الا الى مزيد من البطالة والفقر والتهميش للدول والشعوب.

ان ما يجب التأكيد عليه هو ان الكورونا لم تكن السبب المباشر في ازمة العولمة النيوليبرالية بل لعبت دور المفجر والمؤجج لهذه الازمة. فالعولمة النيوليبرالية بسطت هيمنتها منذ ثمانينات القرن الماضي بالاعتماد على الدور المهيمن للشركات المتعددة الجنسيات وعلى مجموعة الاغراقات البيئية (عدم الالتزام بحماية البيئة) والاجتماعية (عدم احترام مجلة الشغل) والجبائية (التهرب من دفع الضرائب) والديمقراطية (إمكانية القيام بتتبعات ضد الدولة التي تتخذ إجراءات تحد من نشاط الشركات المتعددة الجنسيات). وبالرغم من هذه الهيمنة المطلقة، فان العولمة النيوليبرالية ما انفكت تنخرها العديد من التناقضات الداخلية والتي زادت ازمة الكورونا في تعميقها وتفاقمها. ان التحولات التي يعيشها العالم اليوم تمثل أفولا واضحا للعولمة النيوليبرالية وكشفا مفضوحا لبشاعتها. وأهم هذه التحولات هي:

أكدت الازمة الصحية عجز المنوال النيوليبرالي على استشراف الازمة ومقاومتها، ويجد هذا العجز جذوره في هذا المنوال الذي لا هم له الا تحقيق الربح على المدى القصير. ان النيوليبرالية ترتكز على الاستثمار في القطاعات الأكثر ربحا مثل صناعات الأسلحة وقطاع العقارات والقطاع المالي وليس في الخدمات الاجتماعية والقطاعات الأكثر ضرورة مثل الصحة والتعليم. لقد أولت كل الاهتمام بالنمو الاقتصادي وبتحقيق الأرباح المادية وهو ما أدى الى تدمير ممنهج للبيئة والى التغير المناخي الذي يمكن اعتباره احدى أسباب انتشار الأوبئة في العالم.  وهذا ما يفسر عدم إعطاء الأهمية اللازمة لخطورة الوباء، والذي أدى الى التباطئ والتردد في التعامل مع الكورونا نتيجة لحسابات الربح والخسارة التي تتحكم في العالم والتي تخشى من ورائها المصالح الليبرالية التعرض للخسائر الناجمة عن الحجر الصحي واغلاق المؤسسات وتعطيل الحياة العامة. وليس من باب الصدفة أن تكون البلدان الأقل نيوليبرالية هي التي تجاوزت مخلفات الوباء بأقل التكاليف مقارنة ببلدان أخرى مثل الولايات المتحدة وإيطاليا واسبانيا وفرنسا وبريطانيا. كما يجب الإشارة الى استفحال الازمة الاقتصادية وتزايد الفقر والتهميش والبطالة في المدن والارياف بسبب فرض الحجر الصحي وتوقف أجزاء هامة من النسيج الاقتصادي عن العمل.

لقد بات واضحا بان المنهج الليبرالي ليس قادرا على معالجة الانعكاسات الكارثية لوباء الكورونا وبان كل محاولات أخلقة الرأسمالية تعتبر عبثية ولا طائل من ورائها لان الرأسمالية بطبيعتها ليست لها أخلاق ولا تهمها القيم الإنسانية مثل التضامن والتعاون والتآزر، وبذلك تجسد في آدائها مبدا "الأرباح قبل الأرواح" لأنها تتحرك حسب منطق اقتصاد السوق الذي تهيمن عليه قوانين المنافسة والربح والذي بموجبه تفضل شركات الادوية تصنيع مواد التجميل على إيجاد لقاح او علاج للوباء. ألم يؤدي عدم جاهزية الأنظمة الصحية وقلة التجهيزات الصحية ورداءة الخدمات في المستشفيات الى اجبار الأطباء في إيطاليا على الاختيار المؤلم بين من سيستفيد من آلات التنفس الاصطناعي وبالتالي سيبقى حيا ومن سيموت لأن هذه الآلات غير متوفرة بالعدد الكافي. زيادة على ذلك، فان كبرى مؤسسات صنع الادوية في العالم لا تستثمر الا النزر القليل في الوقاية وتولي كل الاهتمام للعلاج أي لاكتشاف وصنع الادوية لأن مردودية العلاج تفوق بكثير مردودية الوقاية. فكل ما تكاثرت الامراض واتسعت رقعة انتشارها الا وازدادت أرباح هذه المؤسسات. 

لقد استعادت الدولة دورها كدولة اجتماعية وكحامية للمواطن وكراعية للاقتصاد الوطني في أوقات الازمات. وبذلك، عادت الدولة بقوة كفاعلة رئيسية على جميع الأصعدة وخاصة منها الاقتصادية والاجتماعية، ولم تعد تكتفي بدور تعديلي أو بمهام رجل الاطفاء. ان الزيادة في النفقات العمومية وتقديم المساعدات للفقراء والمعوزين ومنح التعويضات عن البطالة ودعم المؤسسات الاقتصادية يمثل تكريسا لهذا التحول الذي طرأ على مفهوم الدولة ووضع حدا لسياسات التقشف التي كانت تمارس من قبل والتي أضرت كثيرا بالاقتصاد وبالمجتمع.

وبالتوازي مع استرجاعها لدورها، ترسخ لدى الدول أهمية محافظتها على سيادتها السياسية والاقتصادية والتي وقع التفريط فيها لفائدة المصالح المالية العالمية والشركات المتعددة الجنسيات. لقد أدت الازمة الصحية الى وقوف البلدان على المخاطر التي تترصدها نتيجة فقدانها لهذه السيادة وتبعيتها لبلدان أخرى فيما يتعلق خاصة باحتياجاتها الاستراتيجية مثل الدواء والتجهيزات الطبية (80 بالمائة من الادوية مصنعة في الصين والهند)، الشيء الذي جعلها تدرك أهمية الذود عن سيادتها واستقلالها الوطنيين. هناك، اذن، بداية وعي لدى الدول بأهمية بلورة سياسة اقتصادية مستقلة من اجل تأمين كل ما تحتاجه من المنتوجات الاستراتيجية في ميادين الغذاء والصحة والوقاية.

الحضور المتزايد لسياسة اجتماعية مستقلة بذاتها. فالنيوليبرالية، التي يحكمها الجشع والبحث عن الربح المادي، هي مصدر تهميش لكل ما هو اجتماعي في السياسات العمومية والاختيارات الاقتصادية وهي لا تعير أي اهتمام لقضايا مثل الصحة والتعليم والثقافة والبطالة والفقر والتهميش وليس من طبيعتها تدعيم قيم التعاون والتضامن والتآزر. وكان من نتائج الكورونا ان فرضت المعادلة الاجتماعية نفسها على الساحة وأصبحت تحظى بالأهمية التي تستحقها. فالاقتصادي والاجتماعي لا يمكن أن يتصادما بل يجب أن يتكاملا، اذ لا يمكن أن تكون هناك تنمية اقتصادية بدون تنمية اجتماعية والعكس بالعكس.

لقد أدت ازمة الكورونا الى حدوث تحولات في منظومة الإنتاج على الصعيد العالمي. ويتمثل ذلك في التفكيك الذي طرأ على سلسلات القيم الشاملة وأدى الى هشاشتها، بحيث يكفي أن يتوقف الإنتاج في بلد ما لتتوقف كل السلسلة. كما يشهد العالم اليوم مأزق التقسيم الدولي للعمل المبني على مبدا المزايا التفاضلية وهو ما يتجلى في تطورات جديدة تتمثل في تقلص نقل عمليات الإنتاج الى الخارج وبداية إعادة توطين الاستثمارات. وهذه مؤشرات يمكن ان تؤدي الى إعادة النظر في التقسيم الدولي للعمل والذي فرضته وتقف وراءه الشركات المتعددة الجنسيات.

لقد أصبح من الواضح ان أزمة الكورونا سوف تساهم في تراجع العولمة النبوليبرالية وفي تقهقر النظام الاقتصادي المهيمن. غير ان ما يجب التركيز عليه هو ان البدائل المقترحة يمكن تحديدها في اتجاهين اثنين:

الاتجاه الأول يتمثل في "اترك العاصفة تمر" وهو يتضمن مواصلة اللجوء الى السياسات والاختيارات الترقيعية السابقة المتعلقة بالنفقات العمومية والميزانية والنقود والتجارة والصرف وذلك على أمل معالجة انعكاسات الازمة وترميم ما يمكن ترميمه والعودة الى العمل بآليات اقتصاد السوق. ان ضعف هذا الاتجاه يكمن أساسا في منهجيته المتمثلة في مواجهة أزمة استثنائية بسياسات نيوليبرالية تقليدية اثبتت فشلها طوال العشريات الأربع الماضية، زيادة على الكلفة المرتفعة لمثل هذه السياسات والتي ستكون ضحاياها بالأساس الاقتصاديات الضعيفة والفئات الاجتماعية الهشة.

الاتجاه الثاني هو اعتبار الازمة الصحية نقطة انطلاق للعمل من أجل بلورة منوال اقتصادي ومالي واجتماعي عالمي جديد يعتمد لا على الهيمنة والمنافسة والتغول والجشع والانانية بل على التعاون والتضامن والحماية الاجتماعية والمحافظة على البيئة. ولا بد، في هذا المجال، من الإشارة الى الحركية التي ادخلتها الازمة الصحية في أوساط المجتمعات المدنية والى حملات التضامن والتعاون التي هي بصدد الإنجاز داخل العديد من المناطق في العالم والى نماذج مصغرة بدأت تتبلور وتخص مختلف الأنشطة على غرار الإنتاج والاستهلاك والتمويل والشراكة والتعاون والحوكمة وهي نماذج يمكن ان تكون اللبنات الأولى لبناء نظام اقتصادي عالمي جديد أكثر انسانية وأكثر تضامن وأكثر عدالة.

الأستاذ منجي المقدم
جامعة تونس المنار

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.