منجي الزيدي: الضّـحك الاجتماعـيّ والــسّخـريــة الــشّــعـبـيّـة
بقلم د. منجي الزيدي - لم يحدث منذ أمد بعيد أن أُصيِب النّاس بالرّعب والعجز كما هو حالهم اليوم بسبب جائحة كورونا. لقد توقّفت أغلب مظاهر الحياة الاجتماعيّة، وشُلّت معظم الأنشطة الاقتصاديّة، وصار العالم على شَفَا جُرفٍ هارٍ. ووجد الإنسان نفسه محبوسا في بيته، ومحروما من ممارسة أنشطته العاديّة،ومهدّدا في رزقه، ومُتوجِّسا من محيطه الماديّ والبشريّ، وخائفا من مصيره المجهول.
في خضمّ هذه الأوضاع السّيئة وجد أغلب النّاس في وسائل التّواصل الاجتماعيّ مَلاذًا ووسيلة لقضاء شؤونهم، والمحافظة على روابطهم وعلاقاتهم،والتّعبير عمّا يخالج ذواتهم. ولقد تميّزت تفاعلاتهم ومشاركاتهم بانتشار لافت للمضامين الهزليّة السّاخرة.
يضحك النّاس في هذه الأيّام الصّعبة مــــن الفيـــروس الذي أرعبهم وقلب حياتهم رأسا على عقب، ويسخرون من حبسهم، ويهزؤون من المخاطــــر التي تهدّدهم، ويتخذون من المأزق الذي وقع فيه العالم هُزُؤًا وسُخرِية، ويحولوّن حياتهم الى مـــا يشبه المسرح الشعبيّ السّاخر الكبير أو «الفودفيل»Vaudeville الافتراضيّ. ولقد تفتّق الخيال الجمعيّ عن مواقف ووضعيات هزليّة ومشاهد كوميديّة ساخرة، وتبادل النّاس على حساباتهم وصناديق إرسالياتهم الخاصّة النُكَت والصّور والفيدوهات المُركّبة، وتحوّلوا إلى مؤلّفين ومخرجين وممثّلين وجمهور عريض.
الواقع أنّ الضّحك خاصية الإنسان، كما جاء في القول المنســـوب إلى فرنســـــوا رابليه François Rabelais. وهو من أكثر التعبيرات ارتباطا بالذّكاء البشريّ والتخيُّل الاجتماعيّ كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون Bergson Henri الذي اعتبر أنّ للخيال الهزليّ منطقا يختلف عن المنطق العقليّ وقد يتعارض معه أحيانا. وأنّ «منطق الخيال يشبه منطق الحلم، وهو حلم يحمله المجتمع بأكمله».
من هذه الوجهة الضّحك فعل اجتماعيّ يؤدي جملة من الأدوار على ركح المجتمع. ذلك أنّه يجد مادته في مشهديات الحياة اليوميّة التي هـــــي سلسلة مـــن المشاهد المسرحيّة على النحو الذي شرحه رائد التفاعليّة الرمـــــــزيّة.غوفمان. والضحك ليس بريئا ولا يعتمـــــد مقاييس أخــــــــلاقيّة وهو لا يتعــــــاطف مع من يستهدفهم ومـــــــن شروطه اللاّمبالاة.
إنّه يتّخــــــذ مسافـــة عــــــن الواقع ويستهــــــدفه بالنّقد اللاذع باستخدام تقنيات الذكاء الخالص.
لقد ارتبط الضّحك منذ القدم بمجالات حياة الإنسان كافة. وكان وسيلة التّعبير الأكثر بلاغة عن مشاغل النّاس وهواجسهم وتطلعاتهم. وهو سمة ثقافية لمجتمعات كثيرة عُرِفت بالطّرافة وسرعة البديهة وسعة الخيال السّاخر.ولقد لاذت الثّقافة الشعبيّة بالسّخرية لمقاومة صعوبات العيش ومحاولة التكيُّف مع إكراهاته، فاستنبطت النّكتة والشخصيات الهزليّة، فأضحى لكلّ مجتمـــــــع جُحا وأشعب ودون كيشوت وكاركوز...ومن شابههم من الأبطال الشعبيين السّاخرين، وتَشَكَّل رصيدٌ من البلاغة والتّورية والتّقية وضرب الأمثال...
واخترقت القصص السّاخرة التّراث الشّفويّ عبر الأزمان، واجتازت النّكت الحدود والثّقافات لتُشكّل أدبا شعبيًّا عالميًّا.
كما تسلّح الأدباء والفنّانون والصّحافيون بالسّخرية في مواجهة سلطة المجتمع ومؤسّساته. وأدّوا من خلاله وظائف التّوعية والنّقد والنّضال مثلما كان شأن الصّحافة التّونسية السّاخرة أيام الكفاح الوطنيّ، وكما هو شأن صحف ومجّلات ذات صيت دوليّ بنت خطّها التحريريّ على النّقد السّاخر.
ومازال التصويـــر الكاريكاتوري سلاح مقاومة شعبية من أبرز شهدائه الرسام الفلسطينيّ ناجي العلي وشخصية حنظلة الشّهيرة.
وللسخرية أنماط وفنون، منها الشّفوي والتّشكيليّ والسّمعيّ البصريّ، ولقد اتاحت الانفوغرافيا الرقميّة المتطورة إمكانات كبيرة للتّعبير من خلال التّصرف في الصّورة تركيبا وتعديلا. ذلك أنّ الهزل هو إعادة تشكيل للواقع والأشياء بشكل يجعلها تفقد طابعها الرسميّ والقهريّ لتصبح في متناول الانسان العاديّ.
والضّحك فعل جماعيّ، إذ أنّه يحتاج إلى صدى كما يقول برغسون. فضحكة المتفرج تكون أعرض كلما كانت قاعة العرض ممتلئة. والضّحك الاجتماعيّ هو شكل من أشكال التّفاعل الجماعيّ مع الأحداث والوضعيات المشتركة. إنّه رد فعل متضامن أمام تهديد يحدق بالجميع. وفي حال الجّائحة الرّاهن هو سعيٌ لاكتساب مناعة اجتماعيّة تُحصِّن المناعة الجسديّة المُهدَدة.
لماذا يضحك النّاس ممّا يخيفهم ويرهبهم؟ مَثَّلَ هذا السّؤال محور التّفكير الاجتماعيّ وبخاصّة التّحليل النّفسيّ الذي رأى أنّ الهزل يساعد الفرد على تجنّب تأثيرات القلق والخجل والشّعور بالذنب، لذلك فنحن نسخر من المآسي لأنّنا نحتاج إلى «شيء مثل التخدير المؤقّت للقلب» كما قال برغسون. ذلك هو شأن الكوميديا السّوداء التي تقوم على الضّحك الممزوج بمرارة البكاء.
ولقد ذهب فرويد إلى أنّ الهزل يساعد على ما سمّاه «ادّخار الجهد»، فعندما يدرك الفرد أنّ ما سيبذله من جهد لمواجهة الخطر غير ذي جدوى، وعندما يعجز المجهود العقلاني عن فهم واستيعاب التّناقضات، فإنّ الفرد يجنح إلى ادّخار جهده بتحويل الواقع إلى مجرّد مزحة ثقيلة الظّل آملا ألّا تكون عواقبها وخيمة عليه. الضّحك من هــــــذا المنظـــــور إذاً، رفض للواقع ومحاولة لتخفيف الضّغط الذي يمـــارسه الوعـــــــــشي الأعلى من خــــــلال رقابته الصّارمة على مجمــــــل الأفعال والسّلوك.
وجد النــاس في الضحك ملاذا وشكَّلوا، وهم يلبسون الأقنعة الصحّية عرضا يشبه «الكوميديا دال لارتي»
حيث يلبس الممثِّلــــون الســاخرون الأقنعــة المسرحيّة، فكلّهم يدافعون عن الحياة والأمل.
لذلك فالهزل فعل جديٌّ وعقلانيّ يــــرتقي إلى درجة الإبداع الإنسانيّ، وكلما ارتقى المجتمع ارتقت قدرته على الضّحك، وكلما تقهقر المجتمع انتشرت فيه السّخافة وبلادة الذّهن وفساد المزاج كما هو حال الكثيرين من محترفي ا لإضحاك الركيك على الشاشات عندنا.
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق