أخبار - 2020.05.27

رضا الشكندالي: ما الذي سيتغيّر بعد الكورونا فـي العالم وفـي تونس؟

رضا الشكندالي: ما الذي سيتغيّر بعد الكورونا فـي العالم  وفـي تونس؟

بقلم رضا الشكندالي تشير كلّ الدراسات الطبيّة أنّ القضاء على فيروس الكورونا ليس إلّا مسألة وقت، ولا يمكن لأيّ طرف أن يحدّد الفترة التي سيتطلّبها القضاء على الفيروس ولا عدد ضحاياه، لكنّ المؤكّد أنّ هذا الوباء سوف يزول مع الزمن، وستتجاوز البشرية خطره كما تجاوزت أوبئة وطواعين سابقة. لكنّ الأثر الذي سيتركه هذا الوباء على البشرية لن يزول بنفس السرعة، بل سيستمرّ تأثيره على حياة البشرية لفترات طويلة. هذا يعني بالضرورة أنّ العالم الذي عرفناه قد انتهى، وأنّ عالما جديدا سوف يولد. وقد فرضت جائحة كورونا على العالم مفاهيم جديدة أصبحت متداولة حتّى لدى أبسط الناس، كالحجر الصحّي والعزل العام واقتصاد الكورونا وغيرها من المفاهيم الجديدة. كما وضعت هذه الجائحة البشرية أمام  خيارين فإمّا الاقتصاد وإمّا الإنسان، فخيار الحجر الصحّي سيحدّ من انتشار الفيروس لكنّه سيؤدّي الى الركود الاقتصادي. لكنّ كسر الحجر سيعرّض الإنسان للفيروس حتّى اكتساب المناعة المجتمعية وهذا يتطلّب القبول بالتضحية بعدد من الناس مقابل استمرار الاقتصاد. وقد دفعت هذه المعادلة الصعبة بين الاقتصاد والإنسان عديد الاقتصاديين المهمّين في العالم الى مراجعة رؤاهم وتصوّراتهم للاقتصاد ما بعد الكورونا.

وقد أطلق الاقتصادي الفرنسي،جاك آتالي، صيحة فزع ضدّ المبالغ الخيالية التي تضخّها الحكومات من أجل إنقاذ الاقتصاد من تداعيات أزمة الكوفيد-19، مبيّنا أنّ التدخّل بمثل هذه المبالغ على حساب الأجيال القادمة لن يكون مقبولا إلاّ إذا كانت نتائجه مؤكّدة، وهو غير ممكن إلاّ إذا حدّدنا أولويتين. الأولوية الأولى، على المدى القصير، للقاح أو للدواء، إذ لا بدّ أن تتوجّه هذه المبالغ الى إنتاج اللقاح الذي سيوقف هذا الوباء، وبغير اللقاح أو الدواء لا يمكن إيقاف تفشّي هذا الفيروس وكلّ كسر للحجر الصحّي قبله سيكون وبالا على صحّة الإنسان إذ سيستمرّ هذا العزل لسنوات أخرى وفي أجزاء كبيرة من العالم. أمّا على المدى الطويل، فلا بدّ أن تكون الأولوية لما يمكن أن نسمّيه بـ»اقتصاد الحياة» والذي يعتمد أساسا على قطاعات الصحّة والنظافة والغذاء والتعليم والبحث والطاقة النظيفة والتوزيع والأمن والثقافة الرقمية والمعلومات.

فالعالم ما بعد الكورونا لن يكون كما كان وسيشهد تحوّلات عميقة، لعلّ من أهمّها إعادة النظر في جدوى العولمة أمام العودة للسياسات الحمائية وسياسات العزل العام. كما سيشهد العالم ظهور قوى جديدة تتزعّم العالم ما بعد الكورونا في ظلّ فشل الولايات المتحدة الأمريكية واوروبا في وقف انتشار الوباء وظهور النزعة القومية في بعض الدول الأوروبية أمام تراجع المدّ التضامني الدولي وبروز المدّ التضامني الداخلي. وأمّا الاضطراب في سلاسل التوريد العالمية، سيكون الغذاء والدواء من أوكد الأولويات في استراتيجيات  التنمية القادمة لعديد الدول في العالم.

أمّا في تونس، فستفرض أزمة الكورونا تغييرا جذريا في المنوال الاقتصادي القائم في تونس على القطاع العام والقطاع الخاص نحو منوال أكثر إدماج وسيكون القطاع الثالث من أبرز فاعليه. كما سيكون القطاع الصحّي أكثر صلابة وإنصافا للمناطق الفقيرة والمهمّشة وستقوى صناعة الأدوية إذ ستتمكّن من تلبية أغلب الاحتياجات الداخلية وبفضل التوجّه نحو الرقمنة، ستتمكّن تونس من استهداف أفضل للدعم وللتحويلات الاجتماعية ومن التقليص في حجم الاقتصاد الموازي. كما سيفرض القطاع الفلاحي نفسه كقطاع استراتيجي هام في مخطّط التنمية القادم لتونس وسيتوجّه البحث العلمي نحو تطوير الفلاحة والصحّة.

1) اهتزاز الثقة في جدوى العولمة: بحسب صندوق النقد الدولي، فإنّ العولمة تعني التعاون الاقتصادي لدول العالم عبر زيادة حجم تبادل السلع والخدمات وتدفّق رؤوس الأموال بين الدول، وانتشار التكنولوجيا في مختلف أنحاء العالم ممّا يجعل من العالم قرية صغيرة تؤمّن فيها حريّة الانتقال للأشخاص والمنتجات ورؤوس الأموال والتكنولوجيا. وبالرغم من أهميّة العولمة في تنمية التعاون بين الدول، إلاّ أنّها لم تمكّن من إيجاد حلول لعديد الظواهر التي أحدثتها بنفسها كالتلوّث البيئي والاحتباس الحراري والجريمة المنظّمة والإرهاب. ومع سرعة انتشار هذا الفيروس، فرضت كلّ دول العالم قيودا على تدفّقات الأشخاص والسلع حماية لمواطنيها وهذا يعني بالضرورة أنّ العولمة تتفتّت ولم تعد تحكم العالم كما كانت في السابق وكأنّ عالما جديدا سوف يولد. فالهلع والخوف من الموت خلق نوعا من اهتزاز الثقة في العولمة، في قدرتها على تأمين حياة الناس وقوتهم حيث وجدوا أنفسهم بين معادلة صعبة، فإمّا البقاء في بيوتهم لتأمين حياتهم أو التنقّل إلى عملهم لتأمين قوتهم ولا يمكن تحقيق الاثنين معا بدون تكفّل الدولة بالقوت مقابل الحياة وهو ما يتعارض مع المبادئ الأساسية للعولمة ذاتها والتي تقوم على السيادة الدولية عوضا عن السيادة الوطنية.

وقد أنتجت العولمة حالة من التوتّر قبل الكورونا وخاصّة خلال السنوات القليلة الماضية، حيث كان العالم ينتظر أزمة اقتصادية عالمية جديدة أو حربا عالمية ثالثة. وقد سرّعت جائحة الكورونا أزمة الثقة في العولمة بل ضربتها في الصميم وعصفت بـأساسياتها التي حسبتها البشرية، منذ سنوات طويلة، صلبة وعصيّة على الاهتزاز. ولعلّ الجانب الاقتصادي الأهمّ من العولمة، والذي شمله هذا الاهتزاز في الثقة، اتفاقيات التجارة الحرّة وإزالة القيود الجمركية وغيرها ضدّ حركة الأشخاص والسلع. وقد كانت الحرب التجارية الصينية الأمريكية بداية ضرب اتفاقيات التجارة الحرّة وذلك بفرض قيود جمركية على السلع الصينية، كانت السبب الرئيسي لتراجع المبادلات التجارية العالمية والتي أثّرت سلبا على النموّ العالمي. ولم تكن جائحة الكورونا إلّا القطرة التي أفاضت منسوب الشكّ في أهمّ المبادئ للعولمة وبالتحديد في حريّة التجارة العالمية.

ولقد تجلّت العولمة في أبهى مظاهرها عبر سلاسل التوريد العالمية وتقسيم مصدرالإنتاج على أكثر من بلد للاستفادة من اليد العاملة الرخيصة وتقليص التكلفة العالية في البلدان المتقدّمة وهو ما جعل العالم أكثر ترابطا واندماجا. وقد اندمجت الصين في سلاسل التوريد العالمية وأصبحت تحتلّ الحصّة الأكبر فيها في بعض القطاعات كأجزاء المعدّات الكهربائية والسيارات (من 33 % إلى53 % من الناتج العالمي) والمعادن الأساسية (52 %) والمنتجات المعدنية والمنسوجات والملابس والجلد بالنسبة إلى بعض السلع (58 %) والأخشاب والمنتجات الخشبية (40 %) والأدوية (35 %) خاصّة وأنّ تصنيع هذه السلع في الصين لا يتطلّب تكلفة كبيرة كما هو الحال في أوروبا أو في أمريكا. فالصين تستورد موادّ خاما وتصنّع عندها وعند غيرها من البلدان ثمّ تصدّر الى عديد الدول حتّى إلى الولايات المتحدة الأمريكية خاصّة في القطاع الطبّي والأجهزة الالكترونية وقطع الغيار وغيرها من المواد. وقد قطعت الصين أشوطا كبيرة لفرض هيمنتها على العالم خاصة في تقنية الجيل الخامس ومدّها لطرق الحرير ليربطها بالعالم واختراقها للسوق الإفريقية.

وخلافا للصين، لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانغلاق برفعها لـ«شعار أمريكا أوّلا» وفرضت رسوما على السلع الصينية والأوروبية وأجبرت عديد الشركات الأمريكية الكبرى لجلب مصانعها داخل أمريكا، وهو اتّجاه معاكس تماما للعولمة. وقد سرّعت جائحة كورونا هذا التوجّه نحو الانغلاق في أمريكا وفي بقيّة الدول في العالم، إذ فرضت على مواطنيها حجرا صحّيا وعلى مؤسّساتها توقّفا على النشاط ثمّ أغلقت حدودها بالكامل. وقد تعطّل النشاط الاقتصادي في العالم وفقد ملايين العاملين وظائفهم وهو ما قد يتسبّب في ركود اقتصادي لم يحدث له مثيل خاصّة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

2) تغيير في قيادة العالم: لن تكون المقاييس نفسها التي ستصنّف العالم في ما بعد الكورونا، بل المقياس الأهمّ هو القدرة على حسن إدارة أزمة الكورونا من نسبة وفيّات منخفضة أو نسبة تعافي عالية. فالدول التي ستخرج منتصرة من أزمة الكورونا هي التي ستقود العالم حيث أنّ التاريخ يكتبه المنتصرون. فالدول التي ستخفّض من حجم الخسائر البشرية والاقتصادية في هذه الفترة من العزل العام، ستتمكّن من صدارة العالم. أما الدول التي ستتكبّد خسائر مادية وبشرية كبيرة ولا تملك من الموارد المالية ما يُمكّنها من إعادةا البناء، فهي ستتهاوى.

وقد تجاوز عدد ضحايا فيروس كورونا في الولايات المتحدة الأمريكية أعداد قتلى الجيش الأمريكي في حرب فيتنام حيث تجاوز عتبة الستّين ألفا، وهو ما لا يمكّن الإدارة الأمريكية من التفكير في مدّ يد المساعدة إلى بقيّة الدول المتضرّرة، بل بالعكس لجأت في بعض الأحيان إلى السطو على إمدادات الدواء والكمّامات لبعض الدول المتضرّرة بينما ذهبت الصين في مساعدة عديد الدول المتضرّرة من خلال تقديم المساعدات وتوجيه بعض الفرق الطبيّة للعمل في الدول الأكثر معاناةً من انتشار كورونا مثل إيطاليا وصربيا. وإذا افترضنا أنّ هذا المنحى سيتواصل في قادم الأيّام وأنّ الصين بدأت تتعافى من الفيروس بينما لم تتمكّن الولايات المتحدة الأمريكية من التقليص في عدد ضحاياها، فمعناه أنّ وضع الصين اقتصاديا واستراتيجيا سيكون أفضل من أمريكا. فكلّ المعطيات تشير إلى أنّ الصين ستستعيد عافيتها قبل جلّ بلدان العالم، فهذا قد يؤدّي إلى معدّلات نموّ أفضل مقارنة ببقيّة الدول، وقد تعود التجارة والصناعة الصينية التي يحتاجها العالم قريبا إلى العمل، وستبدأ الصين في تزويد العالم بما يحتاجه من أدوات وتجهيزات طبيّة كالأقنعة وأجهزة التنفّس وغيرها من الأجهزة الطبيّة الضرورية لإنقاذ الأرواح البشرية، وسيتنامى الطلب العالمي من الأدوية والمعدات الطبيّة على المصانع الصينية ليأخذ منها ما يستطيع. وبهذا ستكسب الصين ثقة العالم ممّا يمكّنها من استعادة مكانتها الاستراتيجية وسيكون الطلب العالمي من أهمّ محرّكات اقتصادها. كما أنّ التعافي التدريجي من الفيروس في كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكل أفضل من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، سيسرّع في تحوّل السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق.

وفي الحقيقة، هذا التحوّل في قيادة العالم ظهر حتّى قبل الكورونا، إذ حسب التصنيف الدولي للناتج الداخلي الخام (تكافؤ المقدرة الشرائية)، فإنّ الصين تمكّنت من مضاعفة انتاجها بـ39 مرّة خلال 59 سنة بينما لم تتمكّن الولايات المتحدة من مضاعفة انتاجها إلاّ بـ 5 مرّات فقط. وبهذا تفتكّ الصين من الولايات المتحدة ريادة العالم من حيث حجم الثروة.

كما أنّ الهند وأندونيسيا تمكّنتا من مضاعفة إنتاجهما بأكثر من 20 مرّة خلال الفترة 1960 - 2019 وهو ما يمكّن هذين البلدين من تبوّء مراتب متقدّمة على مستوى حجم الثروة في العالم. بينما تراجعت جلّ البلدان الأوروبية الشريكة لتونس مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ولم تتمكّن من مضاعفة ثرواتها إلاّ بـ 4 مرّات على أقصى تقدير خلال نفس الفترة.

3) تعثّر الاتحاد الأوروبي وفشله في إدارة الأزمة: وجّه الإيطاليون انتقادات كثيرة للاتحاد الأوروبي ووصف رئيس الوزراء الإيطالي الدعم الأوروبي لبلاده بالسيّء وأثنى على مساعدة الصين. كما أنّ الرئيس الصربي اعتبر أنّ الصين هي الدولة الوحيدة التي يمكنها مساعدة صربيا. هذه مؤشّرات دالّة على فشل الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمة داخله. وبسبب هذا التعثّر، تتّجه الدول الأوروبية الكبرى إلى الانغلاق على الذات، والتركيز على مواجهة تفشّي الفيروس داخل أراضيها، وعدم تقديم المساعدة والدعم للدول الأكثر تأثّراً بانتشار كورونا.

ومن الواضح أنّ أوروبا أصبحت في مأزق كبير، وهي التي عانت من أزمات اقتصادية متعدّدة في السنوات الماضية، فاقتصادها لم يتعاف بشكل كامل منذ الأزمة المالية العالمية لسنة 2008. وزادت أزمة الديون السيادية، والتي ضربت خاصة اليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا، في تعميق الأزمة الاقتصادية في أوروبا. وهاهي اليوم تعيش أحلك فتراتها وهي غير قادرة على السيطرة على انتشار الفيروس خصوصا في إيطاليا وفرنسا. وتبقى ألمانيا، الاستثناء من بين الدول الأوروبية الشريكة لتونس بقدرتها على حسن إدارة الأزمة الحالية وسيطرتها على تفشّي فيروس الكورونا بفضل قوّة اقتصادها ونظامها الاجتماعي المختلف تماما عن الأنظمة الأوروبية الأخرى والمعتمد على الرأسمالية الاشتراكية أو الليبيرالية المنظّمة.

4) تصاعد النزعة القومية: منذ الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 والتي ضربت بالخصوص أوروبا، أصبحت النزعة القومية واضحة للعموم وقد زادت وضوحا مع بروز أزمة اللاجئين في السنوات الأخيرة بوصول أحزاب يمينية متطرّفة إلى سدّة الحكم في بعض الدول الأوروبية. وقد كشفت أزمة الكورونا الحالية عن مزيد تصاعد النزعة القومية مع توجّه الدول الأوروبية إلى غلق الحدود وتفضيل حاجيات مواطنيها على حاجيات بعض الدول الأوروبية الأخرى من أساسيات الحياة وخاصّة من الأدوية والأغذية. هذه النزعة القومية، والتي ظهرت جليا خلال الأزمة الحالية، ستهدّد الاتحاد الأوروبي في كيانه. وما التصاريح الأخيرة لرؤساء إيطاليا وصربيا وإقدام البعض في فرنسا على إنزال العلم الأوروبي وتعويضه بالعلم الفرنسي إلاّ صورة من صور الأنانية القومية. فالشعارات التي رفعت خــلال أزمة كوفيد- 19، كإيطاليا أوّلا أو اسبانيا أوّلا أواليونان أوّلا ستفضّل النزعة القومية على الانتماء الأوروبي. وقد تمتدّ هذه النزعة لتشمل المهاجرين الذين يقطنون في أوروبا وهو ما قد يؤثّر على طبيعة السياسات الأوروبية الخاصة بالهجرة وعلى علاقة أوروبا بشركائها التجاريين.

وقد أنتجت هذه الأزمة قناعة تامّة لدى عديد الدول في العالم أنّ الطريق الأمثل لمواجهة الأزمة هو الاعتماد على الذات بما أنّ الآليات المعتمدة للتعاون الدولي أصبحت غائبة وأنّ الدولة القوية هي التي تمكّنت من فرض إجراءات الوقاية من انتشار الفيروس قبل غيرها عبر إغلاق حدودها. وبما أنّ كل الدول مجبرة لاتّخاذ نفس القرار وفرض مراقبة مشدّدة على حركة الناس بفرض الحجر الصحّي عليهم، فإنّ العالم كلّه سيدخل في وقت متزامن في حالة من الجمود والانعزال، وهو ما يتطلّب التغيير في آليات تمويل التنمية والاعتماد أكثر ما يمكن على الموارد الذاتية. 

5) الأمن الغذائي والأمن الصحّي أولى الأولويات: حذّر البنك الدولي من أنّ فيروس كورونا المستجدّ، والسياسات الحكومية للحدّ من انتشاره، يمكن أن يعطّل سلاسل الإمداد الغذائية وقد يهدّد توافر المواد الغذائية لدى عديد الدول في العالم.. كما نبّهت منظّمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة من التداعيات الممكنة لانتشار هذا الفيروس على 53 بلدا في العالم تضمّ  113 مليون شخص يعانون من الجوع الحاد وقد تؤدّي هذه الجائحة الى أزمة مجاعة لم تعرفها البشرية من قبل. وبالرغم من أنّ إمدادات الحبوب الرئيسية وفيرة عالميا، إلاّ أنّ بعض الدول المنتجة، مثل روسيا، قد تلجأ إلى وضع قيود على مبيعاتها الخارجية لإعطاء الأولوية للإمداد المحلّي فالحواجز أمام حرية تجارة الأغذية تعيق سلاسل إمدادات الغذاء العالمية وقد تؤدّي إلى تقلّبات كبيرة في أسعار الغذاء في الأسواق العالمية. وتأتي هذه القيود في الوقت الذي تسعى فيه كبرى الدول المستوردة للغذاء إلى تعزيز احتياطياتها من خلال زيادة المشتريات من الخارج.

كذلك فإنّ إجراءات العزل العام بسبب فيروس كورونا قد يعرقل بعض المزارعين ويجعلهم غير قادرين على جني محاصيلهم الزراعية أو على توصيل منتجاتهم إلى المستهلكين. عدم اليقين الذي تسبّبت فيه هذه الجائحة ستجبر عديد الدول في العالم على تفضيل احتياجاتها الداخلية من الغذاء وبالتالي سيكون الاكتفاء الذاتي في الغذاء أو الأمن الغذائي، الهدف الأوّل للحكومات ما بعد الكورونا.

كما أنّ المخاوف من عدم قدرة النظم الصحيّة على استيعاب أعداد المرضى المتزايد أثمر قناعة لدى الحكومات أنّ الأمن الصحّي من أوكد الأولويات. وقد كان الاعتقاد سائدا، قبل الكورونا، أنّ البشرية محصّنة ضدّ الوباء وأنّ زمن الطواعين قد ولّى واندثر. فأنفقت الحكومات أموالا طائلة في السلاح وفي الصواريخ وفي اكتشاف الأجرام السماوية، ونسيت أن تنفق بعض هذه الأموال على ما يمكن أن يهدّد صحّة الإنسان من أمراض وطواعين. وبانتشار فيروس كوفيد-19، توجهّت كلّ الحكومات في العالم إلى مقاومته عبر توفير كلّ الموارد الضرورية للقطاع الصحّي حتّى ينتصر على هذا الوباء. هذا التوجّه الاضطراري نحو الاهتمام بالقطاع الصحّي خلال أزمة الكورونا، سيشكّل الهدف الأهمّ في استراتيجيات التنمية لما بعدها.

6) تونس، بعد الكورونا: قطاع صحّي صلب وصناعة قويّة للأدوية مع التقدّم في رقمنة الاقتصاد: 

تغيير في المنوال الاقتصادي القائم على القطاع العام والقطاع الخاص: يعتمد المنوال الاقتصادي القائم في تونس على  تراجع حصّة الدولة في الناتج الداخلي الخام وخاصّة في أنشطة الخدمات الاجتماعية لصالح القطاع الخاصّ والذي أنتج نوعية سيّئة للخدمات الصحيّة التي يوفّرها القطاع العام وأسعارا عالية لهذه الخدمات في القطاع الخاصّ. وفي تونس، أظهر المنوال التنموي المتّبع الى حدّ الآن قصورا في معالجة المسألة الاجتماعية، وهو ما يتجلّى حاليا في عديد الأزمات التي يشهدها الاقتصاد التونسي من تراجع في جودة خدمات الصحّة والتعليم والنقل والتغطية الاجتماعية ومن أزمة مالية خانقة تشهدها مؤسّسات الضمان الاجتماعي وهو ما استحال حلّه من طرف المنوال الاقتصادي القائم على القطاعين العام والخاص. فأزمة الكورونا التي تعيشها تونس ستفرض تغييرا جذريا للمنوال القائم على الديون وعلى الضرائب، ممّا يقتضي تعويضه بمنوال تنموي إدماجي يعتمد على القطاع الخاص والقطاع العام وكذلك على قطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، إذ يمكّن هذا المنوال من تخفيض العبء المالي على الدولة بدون اللجوء الى الزيادة في الضرائب ولا في الديون ويمكّن كذلك المواطن التونسي من الولوج إلى الخدمات الاجتماعية بتكلفة دنيا تتماشى ومقدرته الشرائية.

القطاع الصحّي سيكون أكثر صلابة : الأزمة الحالية ستقوّي من مناعة القطاع الصحّي وتجعله أكثر صلابة وأكثر إنصافا للجهات المحرومة حيث لم يتمتّع هذا القطاع منذ سنوات بما تمتّع به أثناء الأزمة من تضافر كل الجهود الوطنية من أجل مكافحة هذا الوباء. وقد مكّن الفيروس من تعرية النظام الصحّي في تونس وأظهر مكامن ضعفه وانحصار أهمّ مرافقه في الجهات الساحلية للبلاد التونسية بينما تشتكي أغلب مناطق الجنوب والغرب من قلّة الإمكانيات بسبب سنوات طويلة من التهميش لهذه المناطق. فالمستشفيات الجامعية منحصرة في خمس مناطق ساحلية وبالتحديد في تونس العاصمة وسوسة والمنستير والمهدية وصفاقس و79 % من أطبّاء القطاع العام يشتغلون في مناطق تونس الكبرى والشمال والوسط الشرقي، ولا تحظى مناطق الشمال والوسط الغربي إلاّ بـ 12 % من عدد أطبّاء القطاع العام ومناطق الجنوب  بـ9ـ% فقط. أمّا في القطاع الخاص، فتوزيع أطبّاء هذا القطاع على الجهات يظهر مقدار الحيف الاجتماعي الذي تتعرّض له المناطق الغربية والجنوب والذي لا يضمّ غير 16% من عدد أطبّاء هذا القطاع بينما يتمركز 84 % منهم في المناطق الشرقية للبلاد التونسية وخاصّة في منطقة تونس الكبرى (41 %). فالمواصلة في هذا التوزيع غير المنصف للمرافق الصحيّة وعدد الأطباء لن يساعد السلطات التونسية على إيقاف انتشار الوباء عبر مختلف مناطق الجمهورية وهو ما أجبر وزارة الصحة على مزيد الاعتناء بهذه المناطق عبر توفير مستلزمات النجاح لإيقاف انتشار هذا الوباء. فالإمكانيات المالية الإضافية توفّرت وبمبالغ محترمة وفي أشكال متعدّدة من تبرّعات و قروض والتضامن بين مكوّنات المجتمع المدني والقطاع العام والخاص أصبح واقعا ملموسا. كما أظهرت الحكومة التونسية خلال الأزمة استعدادا غير مشروط لتوفير كلّ الإمكانيات المالية لتأمين النشاط الاقتصادي والاجتماعي. فكلّ الظروف أصبحت متوفّرة في تونس لإعادة هيكلة ميزانية الدولة في مخطّط الإنعاش القادم نحو الترفيع في ميزانية وزارة الصحّة حتى تهيّأ لنا نظاما صحيّا صلبا ومنصفا وقادرا على مجابهة أزمات صحيّة قد تهدّد البشرية في قادم السنوات.

صناعة الأدوية ستلبي أغلب الاحتياجات الداخلية : بدأت تونس في الثمانينات كأوّل بلد أفريقي يصنّع الأدوية في تلك الفترة وتطوّر عدد وحدات التصنيع من 3 وحدات في سنة 1990 الى 42 وحدة إنتاج دواء بشري سنة 2018 ماّ يغطّي تقريبا 62 % من الاستهلاك الوطني للدواء، وهو مؤشّر جيّد لكنّه غير كاف لمجابهة حالة الانغلاق وتعطّل سلاسل التوريد العالمية وتوجّه أغلب الدول المنتجة إلى تخزين كميّات هائلة من الدواء لديها لمجابهة انتشار الفيروس. فالاكتفاء الذاتي من الأدوية سيفرض نفسه كهدف أساسي لاستراتيجيات التنمية القادمة في تونس. ولعلّ المخطّط القادم لتونس أو ما تسمّيه الحكومة التونسية «مخطّط الانعاش الاقتصادي» لما بعد الكورونا سيكون من أهمّ أهدافه تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأدوية أو على الأقلّ من الأدوية الأساسية وذلك لمجابهة التحوّلات العالمية التي قد تحدث بعد الكورونا من جرّاء السياسات الحمائية التي يمكن أن تلجأ إليها الدول المنتجة للدواء والتي قد تتسبّب في غلاء أسعار هذه المواد في السوق العالمية.

الرقمنة ستمكّن من استهداف أفضل للتحويلات الاجتماعية ومن التقليص في حجم الاقتصاد الموازي : فرضت أزمة الكورونا في تونس التصرّف الحيني لتنزيل الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة التونسية خاصّة فيما يخصّ إيصال المساعدات للعائلات المعوزة والمؤسّسات المتناهية في الصغر. وفي ظلّ تواصل إجراءات فرض الحجر الصحّي، أصبح من المستحيل إتمام البرامج الجامعية حضوريّا في كلّ المؤسّسات وهو ما فرض على الأساتذة اللجوء الى التقنيات الحديثة للتعليم عن بعد. فانخرط أغلب الأساتذة في هذا الخيار وأصبح التعليم الجامعي عن بعد واقعا ملموسا بعد أن كان حلما من أحلام الماضي. وقد مكّنت عديد المؤسّسات الاقتصادية والإدارات العمومة بعضا من موظّفيها للاشتغال عن بعد كما يحدث في عديد الدول المتقدّمة. كما فرضت الجائحة على الحكومة التونسية استعمال آليات الدفع الإلكتروني لتفادي الاكتظاظ أمام مكاتب البريد تجنّبا للعدوى. وقد ساعدت التكنولوجيات الحديثة على التعرّف عن قرب على بنك المعطيات التي تخصّ الفاعلين الاقتصاديين في القطاع الموازي والمتكوّن أساسا من المهن الصغرى والمؤسّسات المتناهية في الصغر وهو ما سيساعد على إدماج هذا القطاع في الأطر المنظّمة. كما ستمكّن الرقمنة للعائلات الفقيرة والمهمّشة من حصر عدد هذه العائلات وستساعد على توجيه الدعم والمساعدات  لمستحقّيها ممّا سيقلّص من تكلفتها في موازنة الدولة. هذا التوجّه نحو الرقمنة خاصّة في الخدمات الاجتماعية سيسهم في تحسين جودتها وسيساعد على مكافحة الفساد حيث أثبتت الدراسات الاقتصادية أنّ الدول التي قلّصت من استعمال النقود الورقية ولجأت نحو النقود الرقمية هي التي نجحت أكثر من غيرها في التقليص من الفساد.

القطاع الفلاحي سيكون القطاع الاستراتيجي الأهمّ : الفلاحة في تونس تعيش صعوبات جمّة بالرغم من إسهامها المتميّز في نسب النموّ الحاصلة وفي الحدّ من تفاقم العجز التجاري في تونس. لكنّ عزوف الشباب، وخاصّة المتعلّم منه، عن الاستثمار في القطاع الفلاحي وتدنّي  المستوى التعليمي للفلاّحين وتشتّت الأراضي الفلاحية لم يمكّن الفلاحة من تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي في عديد المواد. لكنّ تعطّل سلاسل التوريد الغذائية العالمية من جرّاء أزمة الكورونا وصعوبة جني المحاصيل الزراعية خاصّة في البلدان المنتجة للغذاء قد يضع قيودا جديدة على توريد الغذاء وقد يسهم في ارتفاع أسعاره العالمية وهو ما قد يدفع الحكومة التونسية الى القطع مع السياسات السابقة في دعم المواد الغذائية والتوجّه مباشرة نحو دعم الفلاّح من أجل الوصول الى الاكتفاء الذاتي خاصّة في المواد الفلاحية.

البحث العلمي سيهتمّ أكثر بتطوير الفلاحة والصحّة : لعلّ من أهمّ التداعيات الإيجابية لفيروس الكوفيد-19 أنّه أعاد الحياة للبحث العلمي في تونس. وبعد سنوات من الركود ومن الإنتاج العلمي البعيد عن اهتمامات الواقع التونسي، وضعت عديد مخابر البحث إمكاناتها وأبحاثها تحت تصرّف وزارة الصحّة من أجل توفير المعدّات الطبيّة الضرورية لمقاومة الفيروس. كما تمكّن بعض الشباب المبدعين من اختراع ربوت للاستعمال الطبّي أو لفرض الحجر الصحّي وأعلن عديد الباحثين والمهندسين أنّهم في مراحل متقدّمة لتصنيع معدّات الحماية الشخصية في المستشفيات العمومية وتصنيع الأقنعة والكمّامات من خلال الطباعة ثلاثية الأبعاد. لكن لا تزال نسبة الإنفاق في البحث العلمي في تونس ضعيفـــة ولا تتجاوز 0.1 % من الناتج المحلّي الإجمالي. وتتكوّن منظومة البحث العلمي من مخابر ومؤسّسات بحث مشتّتة تابعة لعديد الوزارات، بعضها تشرف عليه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والبعض الآخر تحت إشراف وزارة الفلاحة والصيد البحري والموارد المائية أو وزارة الصحّة. ولا يربط بين مؤسّسات البحث العلمي خيط ناظم، إذ تتولّى كلّ مؤسّسة بحوثها دون أيّ تنسيق مع المؤسّسات الأخرى والحال أنّ البحث العلمي منظومة متكاملة لا تفصل بين التخصّصات العلمية، بل تعتمد على التكامل بين كلّ هذه التخصّصات. فالأزمة الحالية التي تحكم العالم هي أزمة صحيّة بالأساس، لكنّ تداعياتها اقتصادية واجتماعية وحتّى نفسية ولا بدّ من التعاون بين مخابر البحث في شتّى الاختصاصات حتّى يقع الإلمام بأزمة الكورونا من جميع جوانبها. وحتّى تتأقلم منظومة البحث العلمي مع التحوّلات القادمة، سيقع الاهتمام بالبحث العلمي الفلاحي من أجل تخفيض كلفة الفلاّح وتحسين مردوده، فمستلزمات الإنتاج الفلاحي في تونس جلّها مستوردة من الخارج. فالبحث العلمي الذي يمكّن من إنتاج المستلزمات الفلاحية في تونس سيسهم في التقليص من خطر الاضطراب الذي تشهده  سلاسل التوريد العالمية وهو ما يمكّن من تأمين الغذاء لكلّ التونسيين.

رضا الشكندالي
أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية




 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.