في الذكرى الرابعة والستين لميلاد السياسة الخارجية التونسية 1956- 2020 : أضواء حول سنوات التميز الدبلوماسي والتألق الخارجي
بعد تسع سنوات عجاف مضت منذ اندلاع أحداث جانفي 2011، تتكشف الحقائق يوما بعد يوم عن حجم الانتكاسات والخيبات التي أصابت البلاد في شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث أصبحت بلادنا تعيش أحرج الفترات والأوقات في ظل تراجع مصداقية العمل السياسي وهيبة الدولة وفاعلية مؤسساتها وأجهزتها. بل أن المشهد السياسي برمته بلغ درجة من التعفن والفساد والانحدار الأخلاقي لا سابق لها، مما قد يعصف بكامل مسار الانتقال الديموقراطي الموعود الذي تحول الى شبه سراب من الآمال والأحلام. في هذا الظرف العسير، ارتأينا أن نستحضر بعض أيام الزمن الجميل للسياسة الخارجية التونسية في عهدها الأول خلال مرحلة ما بعد الاستقلال وطوال الستينيات والسبعينيات وذلك بمناسبة الذكرى الرابعة والستين لتأسيس وزارة الشؤون الخارجية المصادف للثالث من ماى 1956. وليس الهدف من هذه الملاحظات الوجيزة ذكر كل انجازات السياسة الخارجية التونسية قبل 2011 وانما الوقوف فقط عند أهم محطاتها وتوجهاتها الرئيسية التي رسمها الزعيم الحبيب بورقيبة والتي تحولت مع مرور الزمن الى ثوابت راسخة، هذه الثوابت التي حاول البعض بعد 2011 من صغار النفوس وهواة السياسة التخلي عنها، فيما توهم البعض الآخر تجاهلها وتجاوزها، ألأمر الذي تسبب في ارتكاب أخطاء سياسية فادحة شكلا ومضمونا والزج بالبلاد في لعبة المحاور ومطبات الاصطفاف والارتهان الخارجي التي سيكون لها عواقب وخيمة على مصالح الشعب التونسي حاضرا ومستقبلا.
الديبلوماسية التونسية أداة فاعلة لتثبيت دولة الاستقلال
فتح الاستقلال مجالا واسعا للدبلوماسية التونسية التي رفعت راية الدفاع عن المصالح الوطنية للشعب التونسي. ومن هذا المنظور كانت سنة 1956 سنة حاسمة في انتزاع معالم ومقومات السيادة الخارجية من فرنسا المتلكئة والمعارضة بشده للتفريط في الامتيازات الفرنسية. وقد أدرك بورقيبة من خلال خبرته السياسية الطويلة واطلاعه على الشؤون الدولية أهمية بلورة سياسة خارجية فاعلة للدولة الناشئة قوامها الواقعية في التعامل مع الدول الكبرى وإزاء الأزمات الدولية الحادة في مرحلة الحرب الباردة وكذلك تبني سياسة الانفتاح والتعاون والصداقة مع معظم الشعوب والدول ،فضلا عن سياسة قائمة على حماية السيادة الوطنية في اطار علاقات حسن الجوار. وهي اهم ما ميز الدبلوماسية التونسية من مبادئ تأسيسية ستتحول الى ثوابت من ثوابت الدولة الوطنية.
ومنذ أن نالت تونس استقلالها في 20 مارس 1956، حرصت القيادة السياسية على وضع أسس الدولة المستقلة الجديدة وهياكلها بالتوازي مع تقليص النفوذ الاستعماري الفرنسي سياسيا وعسكريا واقتصاديا. ولم يكن ذلك بالأمر الهين أمام تصدي الطرف الفرنسي وضغوطاته ومناوراته المستمرة ووسط أوضاع داخلية معقدة بسبب النزاع اليوسفى وملابسات حرب الجزائر مع ما كان يقتضينه ذلك من مساندة ومؤازرة الأشقاء الجزائريين اللاجئين بأعداد كبيرة بلغت قرابة نصف مليون جزائري تدفقوا على أرض تونس هربا من بطش آلة الحرب الاستعمارية الفرنسية.
وبالرغم من ذلك، فقد نجحت تونس حتى موفى 1956-1957 في الحصول على اعتراف أكثر من ستين دولة من بين 80 دولة في العالم أنداك. ففي 22 مارس 1956أعترفت الولايات المتحدة باستقلال تونس وتلاها اعتراف الاتحاد السوفياتي مباشرة في أفريل 1956 بالإضافة إلي عدد كبير من الدول الأوروبية من بينها بريطانيا العظمى وألمانيا الفدرالية وكل البلدان الإسكندنافية فضلا عن مجمل الدول العربية والإسلامية. وهذا أنجاز كبير يحسب لدولة الاستقلال الفتية.
صورة للزعيم بورقيبة الى جانب الباى وبحضور نائب الرئيس الأمريكي نكسون والأمير فيصل آل سعود والباهي الأدغم خلال موكب الاحتفال بالذكرى الأولى للاستقلال 20 مارس 1957
ومنذ أن تولى الزعيم بورقيبة رئاسة الحكومة التونسية في 15 أبريل 1956 حتى انطلق في وضع اسس الدولة المستقلة وانتزاع صلاحيات ومقومات الدولة الوطنية الجديدة من سلطات الحماية الفرنسية. وبالفعل، فقد طالب الزعيم بورقيبة بمناسبة أحداث وزارة الخارجية في 3 ماي 1956 أي بعد 18 يوما فقط منذ استلامه مقاليد الحكم، طالب فرنسا بقبول مبدأ تعيين سفراء تونسيين بالخارج دون انتظار، كخطوة أولى للاعتراف الفعلي بالسيادة التونسية. كما عمل جاهدا على الانخراط السريع في المنظمات الدولية مثل اليونسكو بباريس ومنظمة الأمم المتحدة في نيويورك قصد تأكيد وإبراز معالم السيادة التونسية ومبدأ استقلالها الفعلي من فرنسا.
وفي 12 نوفمبر 1956 صادقت الجمعية العامّة للأمم المتحدة على قبول تونس عضوا بها. وفي 22 نوفمبر 1956، أنتقل بورقيبة الى نيويورك حيث ألقي خطابا من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة حدد فبه سياسة تونس الجديدة . ثم قابل الرئيس الأمريكي أ بزنهاور وعدّة قادة أجانب آخرين، الشيء الذي أزعج الحكومة الفرنسية بباريس التي كانت تراهن على استمرار وصايتها على الدولة التونسية لفترة طويلة.
تونس، القاعدة الخلفية للثورة الجزائرية 1956-1962
وجدت تونس التي حصلت على استقلالها في 20 مارس 1956 نفسها متورطة في حرب التحرير الجزائرية، التي أطلقتها جبهة التحرير الوطني في 1 نوفمبر 1954. الأمر الذي سيؤثر بشكل كبير على العلاقات الفرنسية التونسية. ومع ذلك، فمنذ 23 مارس 1956، أي بعد ثلاثة أيام من الاستقلال، أعلن بورقيبة، الذي اتهمه خصومه اليوسفيون بأنه تخلى بقبوله الاستقلال المنفرد على الجزائر، "نحن التونسيون، لن نكون سعداء باستقلالنا إلا في اليوم الذي تكون فيه الشقيقة الجزائر قد استعادت سيادتها الكاملة على أرضها". وقرن بورقيبة القول بالفعل، حيث طالب بعقد مؤتمر مغاربي كبيرً في تونس في 22 أكتوبر 1956 لدعم الثورة الجزائرية كان سيشارك فيه ملك المغرب، محمد الخامس وزعماء جبهة التحرير الوطني التاريخيين، أحمد بن بيلا، بوضياف وآيت أحمد وكريم بلقاسم وغيرهم. إلا أن هذا المؤتمر لن يكتمل حيث اختطفت القوات الجوية الفرنسية الطائرة التي كانت تقل الوطنيين الجزائريين من المغرب إلى تونس. و بقيامها بذلك، ارتكبت فرنسا خطأً فادحًا من شأنه أن يؤدي إلى تدويل الصراع الجزائري. وكانت رؤية بورقيبة ترى الحل الأمثل في أن استقلال تونس يتيح وجود حكومة تونسية غير منخرطة في الحرب رسميا ولكنها تساند الجزائريين بشكل فعال وهو ما تمّ بالفعل...
هذه المواقف المؤيدة لكفاح الشعب الجزائري أثارت غضب الحكومة الفرنسية في باريس مما أوقع بورقيبة بين نارين، الضغط الفرنسي من جانب الذي يعرقل تركيز أسس الدولة الجديدة وواجب التضامن مع الإخوان الجزائريين من جهة أخرى. وكان ذلك مصدر أزمات خطيرة في العلاقات الفرنسية التونسية دفعت فرنسا بقطع المساعدات المالية على تونس عام 1957. بل ذهب الأمر ببعض القادة العسكريين الفرنسيين الى حد وضع مخططات للإعادة احتلال تونس ونقض اتفاقية الاستقلال. كما أدى هذا التوتر أمام عناد بورقيبة وتصريحه للأحد الصحف الفرنسية "لن أتخلى على الشعب الجزائري" أدى كما هو معروف الى قصف القوات الجوية الفرنسية في 8 فبراير 1958 لقرية ساقية سيدي يوسف التونسية عقابا لتونس، مما تسبب في استشهاد 75 مدني ومئات الجرحى. وبالرغم من ذلك كله، أقدم الرئيس بورقيبة في 19 سبتمبر 1958 على الاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية واحتضان مقرها في تونس، والحال أن فرنسا بعد عودة الجنرال دي غول الى الحكم مازالت مصممة على إبقاء الجزائر كجزء لا يتجزأ من فرنسا. كما تجدر الإشارة في هذا السياق الى أن مقر القيادة العامة لجيش التحرير الجزائري كانت في غار دماو بجبال الكاف بينما كانت جريدة المجاهد، لسان جبهة التحرير ، تطبع في مطابع الصحافة التونسية.
وهكذا، أسهمت تونس في انبعاث الدولة الجزائرية الى الوجود بعد اختفائها لمدة 130 سنة من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. وهذا ما ينبغي ان يسجله التاريخ الوطني والمغاربي وما بتعين تلقينه لشبابنا الجاهل تماما بملابسات التاريخ الوطني المعاصر.
صورة للزعيم بورقيبة مصطحبا معه فرحات عباس، أول رئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة الى المغرب وذلك بمناسبة تتويج ملك الحسن الثاني في 4 مارس 1961
ومن منطلق دعم التقارب بين شعوب المغرب العربي، شاركت تونس في أفريل 1958 بوفد كبير يقوده الباهي الأدغم في مؤتمر طنجة الذي أقر مبدأ تحقيق الوحدة الفيدرالية بين أقطار الشمال الإفريقي والعمل على دعم استقلال الجزائر بكل الوسائل. وهو ما أحدث آمالا كبيرة من أجل تجسيد وحدة المغرب العربي في وقت كانت فيه الدول الأوروبية الستة قد نجحت ،سنة قبل ذلك، في توقيع معاهدة روما الشهيرة في 25مارس 1957 والشروع الفعلي في توحيد القارة العجوز اقتصاديا على الأقل.
أما على الصعيد الدولي، فقد انتخبت تونس في 8 أكتوبر 1958 عضوا في مجلس الامن الدولي للأول مرة في تاريخ الدولة التونسية. كما تم الانضمام للجامعة العربية في 1 أكتوبر 1958 ولحركة عدم الانحياز في سبتمبر 1961 بيلغراد في يوغسلافيا...
وقد كانت حرب بنزرت في 19 جويلية 1961 آ خر محطات الكفاح الوطني وما رافقها من جلاء القوات الفرنسية عام 1963 تتويجا لجهود الدبلوماسية التونسية الفتية، حيث فازت تونس خلالها بانتصار دبلوماسي كبير على فرنسا داخل الأمم المتحدة في نيويورك وذلك بحصولها على نسبة ساحقة من الأصوات في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 أوت1961 (65 مقابل صفر).
صورة للزعيم المنجي سليم ،مندوب تونس في محادثة مع الأمين العام للأمم المتحدة داج هامرشولد رفقة الحبيب بورقيبة الأبن خلال أزمة بنزرت جويلية 1961
ويستكمل هذا المشهد السياسي الذي تألقت فيه تونس في الأمم المتحدة خلال تلك الأزمة بانتخاب المندوب التونسي الأستاذ المنجي سليم رئيسًا للدورة السادسة عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة. ويعد ذلك بلا جدال نجاحا للدبلوماسية التونسية الفتية. بل أن المنجي سليم ورد أسمه كمرشح للأمانة العامة للأمم المتحدة من قبل العديد من الدول الإفريقية والعربية والإسلامية، غداة وفاة الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد المفاجئ يوم 18 سبتمبر 1961 في حادث تحطم طائرة مأساوي أثناء قيامه بمهمة لحفظ السلام في الكونغو.
فعلا، لقد كانت السنوات الأولى عقب الاستقلال سنوات حاسمة في تثبيت دعائم الدولة الوطنية على الصعيد الدولي وذلك ضمن عملية صراع متواصلة مع الدولة الفرنسية التي كانت تستميت في عرقلة هذه المساعي الرامية للاستقلال فعلي للدولة التونسية الفتية. وبهذا الخصوص، يعتبر المنجى سليم بلا جدال من مؤسسي الديبلوماسية التونسية الى جانب رجالات آخرين من أمثال محمد المصمودي و الصادق المقدم والرشيد أدريس والباجي قائد السبسي وثلة من خيرة السفراء التونسيين اللذين أسهموا في وضع أسس هذه الديبلوماسية العصرية وتمثيل تونس في المحافل الدولية أحسن تمثيل رغم قلة الإمكانيات وتعقد الأزمات الإقليمية والدولية.
محى الدين الحضري
خبير مستشار دولي
- اكتب تعليق
- تعليق