أخبار - 2020.05.01

ناظم الوسلاتي: في تنبـّــؤات سينمـا الخيال العلمي الكــورونا مــثـالا

ناظم الوسلاتي: في تنبـّــؤات سينمـا الخيال العلمي  الكــورونا مــثـالا

عرفت السينما منذ بداياتها كيف تسافر بالمتفرّج إلى عوالم فسيحة من الخيال اللامتناهي فحلّقت في سماواته كما شاءت بلا قيود ولا حدود في محاولة لإيجاد جسر تواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل. ورغم أنّ دراسة الماضي ورصد الحاضر واستشراف المستقبل كانت حكراً على العلماء والباحثين والمهتمّين فقط، إلّا أنّ الفنون، خاصّة الأدب والسينما، سعت دائما الى أن تقدّم تخيّلاً وتصوّرا للحياة البشرية في زمن معيّن ومكان محدّد عن طريق شخصيات وأحداث مستوحاة من إدراك متحرّك ومتجدّد للواقع والحياة.

الخيال العلمي بين الأدب والسينما

يتمتّع الكُتَّاب عمومًا بخيال خصـــب وخـــلّاق وربّما ترتقي هذه الموهبة لدى مؤلّفي الخيال العلمي إلى حدّ استشفاف ما وراء الظواهر واستبصار المستقبل واستشرافه، لدرجة أنّه في بعض الأحيان تصدق تنبّؤاتهم. من المبدعة «ماري شيلي» صانعة شخصية «فرانكنشتاين» (1818) ومن بعدها «جول فيرن» أحد روَّاد أدب الخيال العلمي وصاحب الرواية الشهيرة «عشرون ألف فرسخ تحت الماء» (1870 Vingt mille lieues sous les mers) بالإضافة إلى العبقري «هربرت جورج ويلز» الذي ألّف رائعة «آلة الزمن» (1895 temps  La Machine à explorer  le)… شكّلت هذه الروايات وغيرها إرثا سرديا وفكريا لصنّاع سينما الخيال العلمي، حيث اقتبست واستلهمت في أعمال سينمائية عديدة، لاقت رواجا شعبيا وترحيبا من النقّاد.

وإذا كان لأدب الخيال العلمي أقطابه ونخبته، فإنّ السينما أيضا لديها روَّاد ومبدعين في هذا المجال، سخّروا مواهبهم من أجل الارتقاء بهـذا الجنــــس السينمـــائي، على غرار الفـــرنسي «جورج ميلييس» الذي يعتبر أوّل من فتــــح الباب أمام هذا النوع من الأفلام وذلك من خلال فيلميه «رحلة إلى القمـــر» (1902 ,Le Voyage dans la Lune) و «الرحلـــة المستحيلة» (Le voyage à travers l’impossible, 1904)، بالإضافة الى المخرج الالماني «فريتز لانغ» صـــــاحب فيلم «متــروبوليس» (Métropolis, 1927) الذي يبقى أحد روائع أفلام الخيال العلمي في كل الأزمنة، دون أن ننسى بالطبع التحفــــة السينمـائية للعبقــري «ستانـلي كوبــريك» «2001: ملحمـة الفضـاء»(L’Odyssée de l’espace: 2001,1968)، الخ.

كلّ هذه الافلام، وغيرها، حاولت استقراء الأحداث المستقبلية والبحث في فلسفة تطوّر الإنسان، من خلال تقديم تجارب فنية ترسم تفاصيل دقيقة تنقل فيها المتفرج إلى المستقبل، فتذهله وتثير فضوله. غير أنّ جزءا من هذه الافلام مثل نوعا من «هجاء للمستقبل» (حسب تعبير لناقد بيتر نيكولز)، حيث أنّها قدّمت رؤية تشاؤمية وسلبية للحياة البشرية واستشرفت مستقبلا مظلما وكارثيا للإنسانية.

هل هي صدفة؟ 

ولعلّ ما نعيش على وقعه اليوم، يعيد إلى أذهاننا العديد من الأعمال السينمائية التي طرحت قضيّة تفشّي وباء قاتل ساهم في تهديد الجنس البشرى بالانقراض بأكمله في ظلّ العجز عن العثور على علاج يوقف انتشاره. من بين أهمّ هذه الأفلام نجد فيلم «اندلاع» (Outbreak,1995) للمخرج الألماني «ولفغانغ بيترسن»، والفيلم الكوري الجنوبي «إنفلونزا» (The flu, 2013) للمخرج «كيم سونغ سو»، الخ. أمّا الفيلم الحدث الذي نجح في العودة إلى قائمة الافلام الأكثر مشاهدة في العالم بعد مرور 9 سنوات على انتاجه، هو فيلم «عدوى» (Contagion, 2011) للمخرج الامريكي «ستيفن سودربرغ» والذي يعتبر واحدا من الإنتاجات السينمائية التي رسمت على نحو مثير للاستغراب والدهشة قصّة انتشار فيروس قاتل وسريع الحركة حول العالم، ظهر لأوّل مرة في هونغ كونغ (الصين)، ينتقل من الخفافيش إلى الخنزير، ومن ثمّ إلى أحد الطهاة الذي يقتني الخنزير وينقل العدوى بدوره لمواطنة أمريكية، عن طريق المصافحة. وبالعودة إلى بلدها، تنقل هذه الأخيرة الفيروس إلى أسرتها وينتشر الوباء في جميع أنحاء العالم، ويصيب ملايين الأشخاص ويتسبّب في آلاف الوفيات.

سيناريو الفيلم يشبه إلى حدّ بعيد جدا، واقع ما يحدث الآن جرّاء تفشّي جائحة «كورونا». وما يثير الحيرة والاستغراب هو التطابق في كثير من التفاصيل التي تتعلّق بهذا الفَيروس المستجدّ، خاصّة على مستوى طرق انتقال العدوى إضافة إلى أعراض المرض ذاته والتدابير الوقائية المتّبعة. فهل هي نسخة طبق الأصل عن الفيلم في الواقع؟ أم هي محض الصدفة!

بين ثنائية الواقع والمتخيل

إذا كانت بعض أفلام الخيال العلمي تناولت ما نعيش على وقعه اليوم بدقائق تفاصيله، فإنّها تعكس أيضًا ما عايشته الأجيال السابقة من أزمات، في حركة مدّ وجزر بين الماضي والمستقبل، ممّا يعني أنّ هذه الأفلام لم تتنبّأ بأيّ شيء، بل أعادت صياغة الاحداث من مصادر تاريخية وعلمية ومن ثمّ مزجتها بمشاهد ومواقف درامية متخيّلة. وممّا لا شكّ فيه أنّ مؤلّفي الخيال العلمي يعتمدون في صياغة سيناريوهات هذا الجنس من الافلام على قراءة للمستقبل تنطلق من راهن الحياة اليومية التي نعيشها، بكل تفاصيلها وجزئيّاتها والمتغيّرات التي ﺗﺘﺤﻜّﻢ ﻓﻴﻬﺎ، ليتمكّنوا عن طريق إدراك متحرّك متجاوز من استشراف المستقبل وما سيكون عليه من تطوّرات ومسارات في الحياة البشرية. ولكنهم يستأنسون أيضا برأي العلماء المختصّين في «علم المستقبليات» (Futurologie)، مستندين في ذلك إلى منهج علمي دقيق وعلى بحوث ودراسات علمية موجودة، لم تنشر بعد أو لا تزال قيد الإنجاز، لتنتج هذه الافلام نموذج أولي تجريبي يهيئ الأذهان لقيامه. وحتّى يتقبّل المشاهدون هذه الرؤية المستقبلية، يتطلّب من مؤلّف ومخرج العمل امتلاك مهارات ذهنية عالية وخيال فكري عميق قادر من خلاله على المزج بين الواقع والمتخيّل، مُنطلقًا من تراث معرفي ومكتسبات علمية تتيح له الإبحار عبر آفاق الزمن، ممّا يمكّنه من أن يحرّك التاريخ ويطوّر الراهن ويتطلّع إلى المستقبل.  

ولابدّ أن نشير هنا إلى أنّ استشراف المستقبل نهج لم يغب يوما عن سينما الخيال العلمي، حيث ساهمت هذه الأخيرة في مدّ جسور العلاقة بين الفنون والعلوم من أجل تعميق تجربة الإنسان الحياتية، ومنحه فرصة لاعادة النظر في عديد الخيارات الخاطئة واستخلاص العبر من التجارب السابقة قصد إسقاطها على الحاضر حتى يتمكّن من كشف بعض ملامح المستقبل.

وبذلك، يمكن أن نجزم بأنّ هذا النوع من السينما يكرّس فكراً يتخطّى الخيال المرتبط بالواقع، ويستبق الزمن حتى يكشف لنا، من خلال تجربة فنية مرئية أساسها الصورة، عن لقطات دقيقة وحاسمة، سواء أكانت تفاؤلية أم تشاؤمية، تنتظرنا في المستقبل. 

ومن هنا نستنج أنّ علاقة الواقع بالمتخيّل هي علاقة تلازمية، تنسج من خلالها مخيّلة المبدع أفكارا وتصوّرات لا يمكن أن يستلهمها إلّا انطلاقا من الحقيقة أو الواقع، لأنّ الإبداع الفنيّ لا يأتي من فراغ أو من عدم.

ناظم الوسلاتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.