أخبار - 2020.04.25

الشّيــخ العــلاّمة محمّد الفاضل ابن عـاشــور نـاقـدا وبـاحثا

الشّيــخ العــلاّمة محمّد الفاضل ابن عـاشــور نـاقـدا وبـاحثا

ما أشدّ تفريطنا في أمرنا وتهاوننا في حقّ الأفذاذ من أعلامنا وضعف تقديرنا لما أوتوه من عبقريّة نادرة ونبوغ مكين! ... ذاك هو الخاطر الذي يلوح بفكر المرء بعد الفراغ من قراءة آثار الشّيخ العلّامة محمّد الفاضل ابن عاشور وإنعام تأمّلها، فالشّيخ، في الحقيقة، ليس «شيخا» بالمعنى المتداول في الأوساط الدّينيّة البسيطة وإنّما هو مفكّر خطير ودارس ألمعيّ وباحث أريب قويّ العارضة حادّ الذّكاء، ولكنّ آثاره لا تلقى اليوم من الاهتمام ما هي به جديرة  ولا تجد من الاحتفاء والاعتناء ما يجعل الأجيال الحاضرة تجتني ثمارها وتغنم فوائدها.

فإذا كتب الرّجل في مسائل العقيدة والشّريعة أبان عن عقل فيلسوف متبصّر وفكر عالم متبحّر تتضاءل إزاءه كتابات المتفقّهين وتتّضع أعمال المجتهدين، وإذا كتب في قضايا الأدب والفكر أسفر عن منهاج ناقد ضليع تامّ الأداة وقسطاس دارس بصير مكتمل العدّة والجهاز يُزري بمقالات الكتّاب والنّقدة وفصول القرّاء والمؤوّلة، وإذا تعاطى حوادث التّاريخ وأطواره ومنعطفاته وجدتَكَ إزاء ناظر حكيم متدبّر وفاحص خبير متفكّر يُفحم أنبه المؤرّخين ويُلجم أنجب الباحثين. 

ففي كلّ فنّ زاوله وفي كلّ علم خاض غماره كان كمن ينام ملء جفونه عن شواردها في حين ما يزال الخلق إلى اليوم يسهر جرّاها ويختصم، ولا يكون ذلك إلّا عن موهبة مؤثَّلة وتكوين منقطع النّظير وسعة اطّلاع لا تُحدّ ويقظة ذهن لا تُتاح إلّا للمعدودين من البشر، فمذهبه في التّفكير والكتابة مدبَّر بأشياء لا تلتقي عند كلّ إنسان ولا تجتمع في صدر كلّ أحد. 

إنّ الشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور ليس مجرّد علم من أعلام الفكر البارزين وليس شخصيّة علميّة ودينيّة وثقافيّة لامعة فحسب، بل لقد اكتسب تلك القيمة الرّمزيّة التّي تجعله معبّرا عن ريادة ثقافيّة وعلميّة تشمل جيلا كاملا ومتبوّئا منزلة القيادة الفكريّة والإصلاحية في عصره ومجتمعه.

ولعلّ مصدر هذه الرّيادة المطلقة خصلتان اثنتان أساسيّتان :

 - أوّلهما ثقافته الموسوعيّة الجامعة، ولكنّه ليس ذاك الموسوعيّ الذّي يأخذ من كلّ شيء بطرف فيُلمّ ببعض أصناف العلوم وضروب المعرفة إلماما طفيفا سطحيّا ولا يظفر منها إلّا بالمبادئ العامّة الفضفاضة والظّواهر الإجماليّة الأوليّة، ولكنّها الموسوعيّة التّي تعني الجمع بين طائفة من العلوم المتظاهرة المتضافرة جمعا يقوم على أساس من المعرفة العميقة المتينة والإلمام باللّطائف والدّقائق والتّفاصيل الجزئيّة والتّفاريق. وهو على غرار عظماء المفكّرين لا يقنع بالتّمثّل والوعي والإستيعاب وإنّما دأبه الابتكار والإضافة والتّشقيق والافتراع بما أوتي من قدرة عجيبة على الاستقراء الثّاقب والتّحليل المستفيض، فهو يتشرّب من عيون كلّ علم وينابيع كلّ فنّ ما يرشح بها على قرّائه معرفةً متجدّدةً ورأيًا مبتكرا مستطرفا حتّي يُنسيك أصل مغترَفه وأوّل وِرْدِهِ. فلا مراء أنّه فقيه عالم ومجتهد عارف وهو أيضا قاض أحاط بالأحكام الشّرعيّة والقوانين الوضعيّة في الشّرق والغرب، وهو إلى ذلك أديب ناقد يتناول النّثر بجميع أجناسه والشّعر بمختلف أضربه، وهو مؤرّخ مُحقّق ومترجم للأعلام وفيّ مُدقّق.

 - ثانيهما منهجه المتفرّد في التّفكير، فهو ينحو في كلّ مسألة يزاولها إلى الظّفر بالكليّات التّي تتقوّم بها واستصفاء القوانين الكبرى التّي تحكمها والأصول العامّة التّي تنبني عليها والمسك بالثّوابت التّي تقودها وتوجّهها. فالمزيّة التّي انفرد بها والخصيصة التّي تملّكها دون غيره والمرتقى الذي سما إليه وحده هو أنّه كان يقصد إلى ضبط فلسفة كلّ علم يدرسه وكلّ مبحث يفحصه، فقد كان شاغله الأساسيّ شاغلا ابستيمولوجيّا يتّصل بمناهج المعرفة أكثر من المعرفة ذاتها وبآليّات التّفكير أكثر من مواضيع التّفكير، ولهذا السّبب كانت مقارباته فريدة وطرائق تعاطيه لمسائله عالية الطّبقة بعيدة المتناول، وإن كانت عند قارئه سائغة قريبة المأخذ ولكنّ فيها من الإبهار والأخذ بمجامع القلوب الشّيء الكثير.

وهو فوق كلّ ذلك يخطب ويكتب بلسان عربيّ مُبين يجمع إلى صفاء العبارة ورشاقة التّركيب متانة الأسلوب وسلاسة الانتظام واتّساق الإيقاع بما يجعله مثال القوّة البيانيّة للعربيّة الحديثة. ولعلّه ينفرد عن كتّاب المشرق والمغرب جميعا بطابع مميّز فيه من سحر البيان وطلاوة الأسلوب وعُمق الفكرة ونفاذ التّحليل ما لم يجتمع لكاتب غيره.

وإنّ هذه الخصال المميّزة لتبين في مؤلّفاته كلّها:

ففي كتابه النّفيس « الحركة الأدبيّة والفكريّة في تونس «ثماني محاضرات ألقاها بمصر سنة 1956 حول تطوّر حركة الفكر والأدب في البلاد التّونسيّة من منتصف القرن التّاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وإن بدت في الظّاهر محاضرات متفاصلة متباينة فإنّها في الحقيقة وحدات متلاحمة متواشجة تنتظم في سلك واحد وتترابط في نسق منسجم وضع فيها تاريخا دقيقا ومعمّقا للثّقافة التّونسيّة الحديثة يقوم على صهر عجيب لعوامل السّياسة وحركة المجتمع مع اتّجاهات الفكر وأنظمة التّعليم ومنازع الصّحافة ومذاهب الأدب، ويستند إلى استقراء للدّواعي والبواعث والأسباب وتدبّر للمظاهر والتّجليّات وتحليل للعلائق والأواصر والصّلات واستنباط للنّتائج والقوانين والأحكام، كلّ ذلك عن نظر فاحص متأنّ وغوص على خفيّ الحقائق وربط للمعلولات بعللها ورسم دقيق لمسارات تطوّر الأفكار والمذاهب والنّزاعات.

فالكتاب هو دون منازع أوفى تاريخ للفكر التّونسيّ بمختلف نواحيه وللثّقافة التّونسيّة بشتّى فروعها في تلك المرحلة الدّقيقة، فهو يدرس السّياق التّاريخيّ العامّ وأثره في توليد الأفكار والاتّجاهات، ويكشف كيف اعتملت تلك الأفكار وتمخّضت فتجسّدت في حركات ومؤسّسات وجمعيّات، ثمّ عبّرت عن نفسها في وسائط تنطق بهواجسها وتطلّعاتها من صحف ومجلّات ومحاضرات ومسامرات وكُتب ومنشورات ومصنّفات، ثمّ يُبيّن مساهمة ذلك كلّه في إبراز أعلام وقادة ورموز فاعلين في السّياسة والفكر والثّقافة والأدب، ولكنّه يُحلّل في أثناء ذلك ما بين تلك الأفكار من اصطراع وتنازع ظاهر أحيانا وخفيّ أحيانا أخرى وما تشفّ عنه تلكم الصّراعات من جدل بين قيم متعارضة متقابلة وتصوّرات متضادّة متنافرة. وإنّ قارئ الكتاب لا يقضي العجب من النّسيج المُحكم الذّي حاك فيه المؤلّف مسار الصّراع بين نزعات التّحديث والتّجديد ونزعات المحافظة والجمود منذ التّنافس الأوّل بين الزّيتونة والمدرسة الحربيّة بباردو ومحاولات التّوفيق بين واجب الحفاظ على مقوّمات الشّخصيّة العربيّة الإسلاميّة ومقتضيات الأخذ بأسباب النّهضة والتّرقّي. ومن أدهش ما في الكتاب تلك الصّفحات القلائل التّي خصّصها لأبي القاسم الشّابّي فأحاط في بضع فقرات بشاعريّته ولخّص عبقريّته تلخيصا لم ترق إليه أيّة دراسة حول الشّابّي.

أمّا في كتابه «أركان النّهضة الأدبيّة بتونس» فقد ترجم لعشرة من كبار الأعلام التّونسيّين في السّياسة والفكر والأدب (قابادو، خير الدّين، سالم بوحاجب،محمّد بيرم، محمّد السّنوسي، البشير صفر، محمّد الخضر حسين، الثّعالبي، نازلي فاضل، صالح السّويسي) فجاء الكتاب أنموذجا أمثل عن الوجه الذّي تصير بمقتضاه التّرجمة للأعلام وكتابه سيرهم مدخلا صالحا إلى كتابة التّاريخ وفق منطق مبتكر وفي إطار رؤية مجدّدة وبناء محكم الاتّساق. فمن خلال سير الأعلام يرصد الأفكار الكُبرى التّي وجّهت مسار التّاريخ مُعرضا عن الحوادث العابرة والوقائع العارضة ومنصرفا إلى تحليل ما قد يكون خفيّا محتجبا من العوامل المؤثّرة، وهو ضرب من الاستقراء لا يصدر إلّا عن عقل وافر واطّلاع واسع ونظر ثاقب وذكاء حادّ. 

وكذلك فعل في كتابه «أعلام الفكر الإسلاميّ في تاريخ المغرب العربيّ»، وهو يضمّ خمسة عشر فصلا في الأعلام وفي الجماعات (الفقهاء العشرة، أهل الرّباط) ممّن طبع تاريخ المغرب العربيّ من الفتح الإسلاميّ إلى نهاية القرن الثّامن الهجريّ. فقد اتّخذ تراجم الأعلام سبيلا إلى بناء خطّة لوضع تاريخ المغرب العربيّ،ذلك أنّ كلّ علم كان ممثّلا لطور أساسيّ من أطوار ذاك التّاريخ الممتدّ طويلا، بل كانت سيرة كلّ علم معبّرة عن الأصول الممهّدة لكلّ مرحلة والظّواهر المميّزة لها والخصائص المقوّة لمبتدإ مسارها ومنتهاه.

وممّا قد يعزب عن كثير من النّاس أنّ الشّيخ العلّامة محمّد الفاضل ابن عاشور قد وضع مقدّمة لكتاب « منهاج البلغاء وسراج الأدباء» لحازم القرطاجنّي الذّي حقّقه ودرسه الشّيخ محمّد الحبيب بن الخوجة في إطار أطروحة نال بها شهادة الدّكتورا من جامعة باريس سنة 1964. وقد كانت مقدّمة عجيبة الشّأن هي الأخرى فقد استطاع في صفحات قليلة أن يسبر أغوار كتاب مشكل عسير ويستخلص عصارته وأن يضبط صلته بما سبقه من كتب البلاغة والإنشاء ونقد الشّعر ضبطا علميّا دقيقا ويُحدّد منزلته منها وما يفترق به عنها، وذلك بعد أن صنّف كتب البلاغة والنّقد في التّراث العربيّ أصنافا تفصيليّة جزئيّة ما أظنّ أنّ أحدا قد سبقه إليها. 

والمحصّل أنّ النّظر في مجمل أعمال الشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور يُلاحظ أنّ هذا العلّامة الفذّ، وإن فارقنا منذ نصف قرن، قد اكتسب بآثاره القيّمة راهنيّة لا تُنازَع. وإنّ هذه الرّاهنيّة لتبين في مظاهر عدّة:

 - أوّلها أنّه خلع على الفكر الدّينيّ صبغة فلسفيّة عميقة ارتقت به من التّعاليم الفقهيّة التّقليديّة إلى النّظر العقليّ المُجرّد بما يرفعه إلى منزلة فيلسوف الفكر الدّينيّ الحديث (راجع مثلا دراسته لمسألة التّكليف أو لمسألة الفكر المقاصديّ في كتابه « المحاضرات المغربيّات»)، وهو في ذلك يُجيب عن كثير من المسائل الخلافيّة الرّاهنة ويسمو بالمباحث العقديّة والشّرعيّة إلى مستوى من الجدل عال يُعتبر اليوم درسا بليغا لبعض الأوساط التّي نزلت بهذا الجدل أحيانا إلى درجة مسفّة. 

 - ثانيها أنّه صاحب منهج في التّفكير مبتكر مستطرف لأنّه بحث دائما في كلّ ما تناوله من قضايا عن القوانين المتحكّمة في الظّواهر والكليّات المقوّمة لها والفلسفة الموجّهة لمسارها، وهو منهج يتميّز به وينفرد يجعله راهنا على الدّوام لأنّه يضع به الأصول الثّابتة والأفكار المرجعيّة والقـــواعد المــــؤسِّسة التّي لا غنى عنها لكلّ من رام البحث فيها بعده.

 - ثالثها قدرته الفائقة على مفارقة الوصف والعرض والاستظهار إلى التّحليل والاستقراء والاستنباط، وهو بذلك يُمهّد المسالك البكر ويفتح الآفاق الوسيعة ويفترع المباحث المستجدّة ويُلهم من يسير في أثره سُبل التّحديث والتّجديد.

 - رابعها إيمانه الرّاسخ بأنّ في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة من أسباب الغنى والقوّة ما يجعلها أساسا متينا لكلّ حركة في التّحديث والإصلاح وأنّ الاغتناء من الثّقافات الغربيّة واسترفادها ينبغي أن يتمّ في اعتداد كامل بالثّقافة الأمّ بعيدا عن مزالق المسخ والاستلاب، وهو يُعتبر بذلك صاحب رؤية متبصّرة في مسألة المثاقفة والحوار بين الحضارات يجدر الاستئناس بها.

الحبيب الدريدي

قراءة المزيد:

الشاذلي القليبي: محـمّـد الفـاضـل ابن عـاشـور في ظـلال الشّيـخ والــده

الشيخ محمّد الفاضل ابن عاشور: يتحدّث عن نشـأته ومسيرته العلمية والمهنية (صور)

الشّيخ العلّامة محمّد الفاضل ابن عاشور (1909 - 1970): منـارة الفكـر والاجتــهـاد

الذكرى الخمسون لوفاة الشيخ الفاضل بن عاشور

الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور راهنا

جمال الدين دراويل: في راهـنية فكر الشيخ محمد الفاضل ابــن عاشور

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.