أخبار - 2020.04.25

الأزهر بنور: ماذا ينتظرنا وماذا نحن فاعلون بعد جائحة كورونا؟

الأزهر بنور: ماذا ينتظرنا وماذا نحن فاعلون بعد جائحة كورونا؟
"عندما تنتظرنا العدوى وربما الموت في كل لحظة، ندرك تلقائيًا هشاشة وجودنا في هذه الدنيا. إنها اللحظات التي نشعر فيها بالحاجة شبه المؤكدة للتعبير عن إيماننا بقدرة الواحد الأحد وعن حبّنا لهذا الوطن ولكل المقربين منّا، ولكن أيضًا في هذه الظروف الصعبة يجب أن نعرف قبل كل شيء كيف نكون مفيدين لبلادنا والآخرين".
لقد تبيّن من خلال قراءة سريعة في التاريخ، أن كل وباء كبير تواجهه البشرية، يفسح المجال للتفكير في إعادة تنظيمنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي وتغيير السلوكيات التي برزت خلال العقود الأخيرة سواء في علاقة الفرد بمحيطه وبالمجموعة أو في العلاقة غير المتوازنة بين الشعوب والأمم المختلفة عبر العالم. 
إنّ أزمة فيروس كورونا هي مأساة صحية واجتماعية واقتصادية لم يسبق للبشرية أن واجهتها بحيث سيتعيّن على الإنسان مستقبلا، بعد أن يستخلص الدروس ويسعى لإيجاد الحلول العلمية والتقنية اللازمة لمواجهة هذا العدو الخفي، فهو مطالب أن يتعلم أكثر من أي وقت مضى ضرورة العودة إلى الأساسيات في حياته وتنظيم عمله وعلاقته بالطبيعة والمحيط.
ما لوحظ خلال شهر ونصف من القيود المفروضة في سياق الحجر الصحي على 2.6 مليار شخص في أغلب الدول، أن كوكبنا يخرج مؤقتًا من انقطاع النفس الدائم وتستعيد الطبيعة حقوقها. الهواء ينقى في الصين، وتعاود البجع والدلافين الظهور في البندقية، وتسمع الطيور في باريس والحيوانات تغزو الأحياء السكنية في عديد العواصم والمدن. كما لوحظ أنّ الإنسان خيّرٌ بطبعه من خلال المد التضامني غير المسبوق في كافة المجتمعات هذا إلى جانب الإقرار بأنّ صحّة المواطن ليس لها ثمن وأنّ التضحيات مهما ارتفعت تكلفتها لا تساوي شيئا أمام إنقاذ الأرواح.
اليوم، البشرية جمعاء مضطرّة لأن يكون لديها اقتصاد يحترم بيئتنا بحيث سيكون غدًا من الضروري، ليس الالتزام بقواعد وضوابط صحيّة فقط لضمان عدم انتشار العدوى بل ضرورة أن تتحرك كل القوى الخيّرة لفرض نظام اقتصادي واجتماعي متضامن يحترم كرامة الإنسان ويحترم بيئته ونمط عيشه. وهذا هو السبيل الوحيد لتجنب كل الدعوات إلى إقرار برامج إنعاش اقتصادي عالمي على نمط خطة مارشال لما بعد الحرب العالمية الثانية والتي كانت موجهة لإقرار نمط اقتصادي ومجتمعي رأسمالي زاد في وحشيته مع انتهاء الحرب الباردة وتعميم اقتصاد السوق والعولمة والنيوليبرالية بأذرعتها المختلفة كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. لذا يجب  تجنّب كل خطط التعافي الاقتصادي التي تنطلق من نظرة ضيقة لمصالح بعض الدول التي تريد أن ترسخ هيمنتها من خلال إعادة الانتشار على حساب الدول النامية والشعوب الفقيرة مما ينبئ بحدوث قلاقل وتوترات في كل دول العالم وحسب بعض الخبراء سيشهد العالم خلال فترة ما بعد كرونا "ثورة الجياع" التي قد تهدد السلم والأمن في العالم بأسره.

أين نحن من كل هذا؟

إن نجاحنا في تونس في إدارة الأزمة يقاس بمدى استعدادنا لما بعد الأزمة وفي هذا الصدد يجب أن نعود إلى جوهر الاقتصاد التضامني الاجتماعي مع الحفاظ على التجارة الحرّة والمتوازنة من خلال تنظيم اقتصادنا تنظيما جديدا أساسه الاعتماد على الذات وتغليب المنافع المتبادلة التي تضمن استدامة التنمية وتلبية حاجيات المواطنين باختلاف مستوياتهم وعدم حصرها لدى مجموعة من الأشخاص والعائلات التي استفادت وكرست هيمنتها على كافة الأنشطة الاقتصادية ومقدرات البلاد وهي ليست دعوة لمنع هؤلاء من مواصلة نشاطهم وخلق الثروة بل دعوة لفسح المجال لكافة القوى الأخرى للولوج إلى كل الأنشطة الاقتصادية بما أنهم سيضمنون ديناميكية المبادرة والتجديد والمنافسة الحقيقية المبنيّة على القيمة المضافة وليس على الربح الآني فقط. وبالتالي نقطع مع "الاقتصاد الريعي" ونمر إلى اقتصاد القيمة الذي يثمن مقدراتنا وثرواتنا البشرية والطبيعية ويجعلنا قادرين أن نعتمد بالدرجة الأولى على ما ننتجه وعلى ثمرة إرادة جيل جديد من المبدعين يريدون أن يثبتوا أنهم مصممون على إفادة الوطن ولا تنقصهم إلا الدعم المادي والمعنوي والقانوني لإثبات أن بلادنا قادرة على النهوض وإعادة البناء والخروج من هذه الأزمة أكثر قوة ومناعة.

أنا لست ضد الاقتصاد الليبرالي بل أنا ضد الليبرالية التي تحصر الثروة والنفوذ في  يد أقلية وتمنع بقية أفراد المجتمع من المبادرة والتجديد للمساهمة في مجهود التنمية. أنا ضد كل منحى يجعل أصحاب رأس المال في بلادنا مجرّد وكلاء عند الشركات العالمية والتي نجهل حتى من يملكها ولصالح من تعمل. أنا مع شركات تونسية تخرج للعالمية وتكون قاطرة للتنمية وتنقل التكنولوجيا وتستثمر في البحث والتطوير في كافة مجالات الأنشطة الاقتصادية. أنا مع شركات مواطنة حقيقية ولا تعتبر نفسها تمنّ على المجتمع من خلال مبادرات ظرفية. أنا مع شركات قادرة على التصدير إلى كافة أنحاء العالم منتجات ذات جودة عالية نفتخر بها. كما أنني ضد كل صناعي يتخلى عن صناعته ويصبح مجرد مورد لمنتجات كان يصنعها وأنا ضد المناولة البسيطة التي كبلتنا لعقود عديدة وحرمتنا من تنويع شركائنا والمرور إلى المنتج النهائي والماركات التونسية ذات الإشعاع العالمي.

إن جوهر حياتنا ما بعد هذه الجائحة سيتغيّر وسيخضع لمقاييس وضوابط يجب أن تشكّل فرصة للتعمق في القطع مع السلوكات التي تضر بالعيش المشترك وتبني مجتمعا متضامنا ومتسامحا ولا مكان فيه للجهويات والفئوية الضيقة كما أنها فرصة لإعادة النظر فيما كان سائدا بتونس لعدة عقود من منوال تنموي غير قادر على تلبية حاجيات المواطن وإقرار دولة الرفاه عوضاعن دولة المساعدات. بحيث يتم النّظر لمكامن القوّة في بنيتنا الاقتصادية والإنتاجية لخلق الثروة الحقيقية.

وبالتالي يجب أن يكون الإقلاع الحقيقي هو إقلاع حضاري بامتياز تصاحبه طفرة إنتاجية في القطاعات والأنشطة التي تؤهلنا لنكون فاعلين ومتموقعين في سلاسل القيمة العالمية ولن نكون مجرد مستهلكين أو مناولين سلبيين للمصنعين الأجانب.

ما برز خلال الأزمة من مبادرات مجتمعية ترسخ قيم التضامن والإبداع والتي شارك فيها بكل تلقائية كل أفراد المجتمع وبما فيهم المهمشين من مجتمعنا. من خلال عمل الأقنعة طوعًا، وتطويع التكنولوجيا وهذا يظهر الروح المدنية العالية لهؤلاء وقدرتهم على الاندماج في مجتمع فردي يفضل نسيانهم حتى الآن. 

ما هي علاقاتنا الاقتصادية الخارجية المستقبلية؟

ما يجب أن نفهمه أن شريكنا الاستراتيجي تعرض لأزمة موجعة خلال هذه الأزمة فجوهر البناء الأوروبي قد تم ضربه في مقتل حيث تبين بوضوح أنه تم بناء اتحاد فدرالي ليس لتنسيق السياسات الاقتصادية والاجتماعية وحتى الدفاعية بل هو اتحاد للشركات الكبرى على حساب الشعوب. وبفعل هذه الأزمة غاب الانسجام وفسح المجال أمام المنافسة العكسية بين الدول. وقد بدأ هذا الأمر يبرز منذ مدة في مسألة إدارة تدفقات الهجرة غير الشرعية . هذه الوضعية تفرض علينا إعادة النظر في علاقاتنا بالاتحاد الأوروبي لأنه من المتوقع أن نستفيق على تلاشي هذا الكيان أو انحصاره لذا يجب أن نبني سيناريوهات لبعد هذا التجمع الاقتصادي والبحث عن شراكات تساعدنا في بناء منوال تنموي يعتمد على القيمة المضافة وتثمين قدراتنا في إطار شراكة الربح والمنافع المتبادلة.

خلال هذه الأزمة نحن مضطرون لإغلاق حدودنا مع جيراننا بمنطقة المغرب العربي من أجل عدم رؤية جهود احتواء تفشي الفيروس التي قمنا بها تتلاشى لكن هذا لا يمنع من التفكير في استراتيجية صحيّة مغاربية مشتركة لتحصين مجتمعاتنا ضد كل الجوائح التي قد تظهر مستقبلا وينطلق هذا المقترح من أن الأوبة لا تعترف بالحدود وهي تنتقل بسرعة خصوصا بين الدول المتجاورة كما أن التشابه الكبير وتجانس البنية الاجتماعية وطرق العيش يفرض على السلطات الصحية في الدول المغاربية أن توحد جهودها ليس لاحتواء العدوى فقط بل لإيجاد العلاجات والتلاقيح التي تتماشى والمواطن في المغرب العربي.

إن هذا التعاون سيكون حتما لبنة لإرساء تكامل مغاربي لا مناص منه في قطاعات حيوية كصناعة الأدوية والتصرف في المياه باعتبار أن جيراننا في شمال المتوسط يتخبطون في مشاكل معقدة قد تنسف كل ما تم بنائه في الاتحاد الأوروبي منذ الخمسينات من القرن الماضي وهو ما يمهد من صعود وتنامي سطوة اليمين المتطرف الذي لا يسمح بإرساء شراكة حقيقية مع شركائنا التقليديين.

إن تنويع الشركاء الاقتصاديين ليس شعارا يرفع في المناسبات بل هو حقيقة يجب أن تُستبطن من قبل كل الفاعلين في البلاد لكن كيف ننوع شركائنا بدون رؤية متكاملة حول واقعنا الاقتصادي الحالي والمستقبلي كما يجب أن يتم في إطار تعاون مغاربي استراتيجي وليس منافسة عقيمة بين الدول تضعف من قدراتنا التفاوضية ومن جلب التكنولوجيا والاستثمارات ذات القيمة المضافة العالية. إن الاندماج المغاربي الحقيقي هو ضرورة حياتية لوجود دول المنطقة بما يسهل قدرتها على الاستجابة لتنامي الطلبات الاجتماعية لجحافل من الفقراء والمهمّشين وشباب يبحث عن مواطن رزق. إن كل دولة على حدا بإمكانياتها غير قادرة على إرساء دولة الرفاه بل ستبقى تعاني من القطاعات الهشة ومن تغوّل الشركات الأجنبية وعدم قدرة النسيج الاقتصادي على الاستجابة لجيش من طالبي الشغل خصوصا خريجي التعليم العالي.

الأزهر بنور

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.