الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)
هذه الحلقة لا تتعلق بلقاء مع الرئيس الحبيب بورقيبة كالحلقة السابقة والحلقات الموالية ،فعلاقتها ببورقيبة غير مباشرة وهي تخص ما ورد باختزال في مطلع الحلقة السابقة حول "حل إشكال انتخاب الأمين العام".
فبعد مراجعة الحلقة السابقة (2) بدا لي أن من حق القارئ أن يفهم المقصود بذلك، خصوصا وأن من لا يعرف ذلك قد يتأثر بالمعلومات أو التأويلات المجانبة للواقع والحقيقة.
هذا فضلا عن أن ذلك الحدث هو مفتاح هذه الحلقات، فلولاه ما كانت مثل هذه اللقاءات والحوارات بيني وبين الرئيس الحبيب بورقيبة.
بعد "وقفة التأمل" التي عقبت تراجع النظام عن السياسة التعاضدية التي قادها الوزير أحمد بن صالح، وهو أمين عام أسبق للاتحاد العام التونسي للشغل، حدث تغيير هام في قيادة الاتحاد وقيادة الحكومة سنة 1970 فأصبح الهادي نويرة وزيرا أول، وزكت السلطة عودة الزعيم النقابي الحبيب عاشور إلى القيادة النقابية بعد أن أزيح منها وسجن سنة 1965 في قضية يطول شرحها في مثل هذا المقام.
وفي جميع مؤتمرات السبعينات كان المترشح الوحيد هو حبيب عاشور ولا ينتخب بالاقتراع السرّي مثل بقية أعضاء المكتب التنفيذي، وإنما بتزكية مباشرة من المؤتمر، تماما كما يقع في الحزب الحاكم عند انتخاب الرئيس.
أما في مؤتمر قفصة الاستثنائي فإن الأمر قد تغيّر إذ أصبح الأمين العام يختار من بين أعضاء المكتب التنفيذي المنتخبين، وذلك بانتخاب ثان من المكتب التنفيذي الموسع الذي يضم أيضا الكتاب العامين للاتحادات الجهوية.
وكان الفريق الممثل للقيادة الشرعية، المشارك في الإعداد للمؤتمر، قد اتفق جميع أعضاءه على ترشيح المرحوم عبد العزيز بوراوي، باعتباره من القيادات المؤسسة للاتحاد العام التونسي للشغل ولأنه كذلك وجها لا يثير إشكالا لدى السلطة، حكومة وحزباً حاكما، ناهيك أن الحكم الصادر عليه من محكمة أمن الدولة في محاكمة إضراب 26 جانفي 1978 (الخميس الأسود)، لم تتعد الستة أشهر، بينما حكم على زملائه بين 5 و10 سنوات.
لهذا السبب كلفته القيادة القابعة في السجن بتنسيق العمل مع الشرعيين خارج السجن.
وأثناء المؤتمر وما حصل فيه من نقاش، قامت مجموعة، كانت في الواقع أقلية، بتعطيل الأشغال والمطالبة بإحضار الحبيب عاشور حالا أو تأجيل المؤتمر. وقد ضمت المجموعة أطيافا متنافرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وأثناء توقف المؤتمر التف حولي مجموعة من بين المعطلين لمناقشتي في الأمر ومعرفة موقفي بالتدقيق. فبينت لهم الأسباب التي تجعل من إتمام المؤتمر ضرورة ملحة..
أولا أن سنة كاملة تفصل بين خروجنا من السجن وانعقاد المؤتمر مليئة بالحوارات والمؤتمرات في ظروف صعبة، لا يمكن أن تنتهي بفشل.
ثانيا أن هذا الفشل سوف يضر بالنقابيين ويدخل البلاد في متاهات يصعب التنبؤ بمآلها.
ثالثا أن خطة السلطة هي تقسيم النقابيين لإضعاف المقاومه وهيأت لذلك بفصل عاشور عنا في السجن ونقله مدة إلى برج الرومي من ولاية بنزرت ثم وضعه في إقامة جبرية في منزله.
رابعا أن عقد المؤتمر يجعلنا في موقف أقوى للدفاع عن عاشور بصفتنا قيادة تجددت شرعيتها بهذا المؤتمر. وهي سياسة المراحل التي اعتمدها بورقيبة نفسه في كفاحه.
خامسا أنني شخصيا أعتزم تقديم لائحة خاصة برفع الاستثناء عن عاشور، في ختام المؤتمر حتى تلتزم بها القيادة الجديدة. فاقتنعوا بمواصلة المؤتمر بينما كانت الأقلية المقاطعة تخرج منسحبة وتحاول منع الناس من الدخول بالعنف. وقد قالت لي هذه المجموعة التي كانت تنوي الانسحاب " لو اتصلت بالبقية لأقنعتهم، فنحن الآن مسرورون بهذا الحوار الذي لولاه لكنا من المقاطعين عن جهل أو خطأ" وطلبوا مني أن أترشح للأمانة العامة خصوصا وأن بعض المؤتمرين تهجموا على الأخ عبد العزيز بوراوي. عندما استؤنف المؤتمر برئاسة نور الدين حشاد، وكنت مقرر لائحة رفع الاستثناء، توليت تلاوتها، فضجت القاعة بالتصفيق. وكان واضحا أن هذه اللائحة التي تلزم القيادة الجديدة بعقد مجلس وطني في أجل ستة أشهر لاستكمال اللوائح وتحقيق رفع الاستثناء عن عاشور ليكتمل المسار قد أراحت المؤتمرين وزادتهم اقتناعا بجدوى البقاء. وقد شارك في المؤتمر في نهاية الأمر، بعد انسحاب الأقلية، 77 في المئة من أعضاء المؤتمر.
ثم اختلى أعضاء المكتب التنفيذي الموسع بعد منتصف الليل، في أسفل الفندق، تحت قاعة المؤتمر التي بقيت عامرة بالمؤتمرين، وقدم عبد العزيز بوراوي ترشحه كما تم الاتفاق من قبل دون منافس. وهنا حدثت المفاجأة، بل المفاجآت.
المفاجأة الأولى، سماع ضجة في قاعة المؤتمر فوقنا. فعبر أعضاء من المكتب التنفيذي من أبرزهم حبيب قيزة(عن جهة قابس) وحبيب بن عاشور( عن جهة سوسة) ومحمد العليمي( عن جهة قفصة حيث يعقد المؤتمر) عن عدم اقتناع المؤتمرين بترشح بوراوي.
المفاجأة الثانية حدثت إثر تدخل العليمي مباشرة إذ أغمي على عبد الحميد بلعيد، وهو في الأصل قيادي قديم من الجهة نفسها، فقد شعر وكأنما غُدر من أبناء جهته بينما كان هو ملتزما بالاتفاق حول بوراوي. وفي الأثناء دخل القاعة جمع، لا أستبعد أن يكون من بينهم عناصر من غير المؤتمرين، ورفعوا بحدة شعار "بوراوي لا، بوراوي لا".
المفاجئة الثالثة بمجرد أن تم إخراجهم من القاعة، أقسم عبد العزيز بوراوي بأغلظ الأيمان أنه يسحب ترشحه نهائيا.
وعبثا حاول بعض الأعضاء حمله على التراجع فساد القاعة وجوم وخوف من الفشل. ثم أخذ الأعضاء يتشاورون ثنائيا أو مجموعات.
ثم حدثت مفاجأة تخصني، إذ قام حسين بن قدور، وهو من أبناء الجهة، وقال: لم يبق إلا حل واحد للخروج من هذه الأزمة : " أصغرنا سناً وأكثرنا أصواتا في المؤتمر هو الطيب البكوش. وهو الذي يجب أن نرشحه اليوم".
فقلت: إن المسألة بالنسبة إلي أخلاق، والتزام بما تم فيه الاتفاق، وإن التزاماتي الجامعية لا تسمح لي بالتفرغ التام، وفي القاعة من هم أقدم منى وأصلح بهذه المسؤولية، واقترحت ترشيح خير الدين الصالحي، لكنه رفض لأنه يعتبر عاشور بمثابة والده ولا يقبل بتعويضه وهو على قيد الحياة، وساند اقتراح بن قدور بترشيحي ، وتمسكت بالرفض، رغم إلحاح الإخوة.
أمام انسداد الآفاق، طلب مني نور الدين حشاد أن نختلي في ركن من القاعة. وأعلمني أن الحكومة في قفصة تنتظر الانتهاء من المؤتمر للاحتفال بغرة ماي عيد الشغل العالمي. وأن نقابات العالم والملاحظين الأجانب والصحافة تنتظر نهاية الأزمة باستكمال المؤتمر.
فهل نخرج بدون أمين عام ! وكأن الاتحاد خال من الرجال الأكفاء، والسلطة ستقبل بك أمينًا عاما لأنها لا تحتمل تواصل الأزمة اجتماعيا وسياسيا، ونحن جميعا معك. فقلت له، إنك لا تتصور شعوري بثقل المسؤولية في هذا الظرف، خصوصا أنها ليست في حسابي إطلاقا وسوف تبعثر كثيرا من التزاماتي الجامعية والبحثية في تونس وخارجها.
وعندما أخبر الأخوة بانتهاء الأزمة، تنفسوا الصعداء، وصعدنا إلى قاعة المؤتمر حيث قوبلنا بتصفيق حار، وكنت، وأنا صاعد على الدرجات الموصلة إلى المنصة، أستعرض في خيالي صورة الأطلس في الأسطورة اليونانية وهو يحمل على ظهره القبة الزرقاء.
الطيب البكوش
قراءة المزيد:
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)
الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)
- اكتب تعليق
- تعليق
قرات هذا المقال بكل تدقيق فتبين لي ان هنالك تضليل وتزوير لبعض الوقائع التاريخية ؟؟ وحتى لا اطيل أذكر فقط السيد البكوش ان المرحوم عبد العزيز بوراوي كان في صفاقس في 26 جانفي وقام بيومي اضراب عام 25 و 26 جانفي وذلك احتجاحا على سجن المرحوم عبد الرزاق غربال منذ 22 من نفس الشهر. ثم ان المحكمة العليا حكمت عليه 6 اشهر والحال انه مكث 10 اشهر ؟؟ وقد كان ذلك الحكم مبرر من 10 محامين الذين ذكرو ان في صفاقس لم تزل ولو قطرة دم ولا حرائق مثل باقي الولايات وذلك نظرا لحكمته في تسيير يومي الاضراب العام رغم استفزازات مليشيا الصياح ؟؟ وليس كما تحاولون ذكره انه كان قريب من الحزب الذي كان المرحوم الحبيب عاشور عضوا في ديوانه السياسي ؟؟ ثامر بوراوي