الحرب العالمية على فيروس كورونا وتداعياتها وطنيا وإقليميا ودوليّا
في تاريخ الشعوب لحظات فارقة تتبيّن فيها مدى قدرة القيادات على التعاطي بحكمة ومسؤولية ونجاعة مع المحن والكوارث بهدف احتوائها والحدّ من تداعياتها وانتشارها داخل الحدود الوطنية وعلى الصعيد الدولي سيّما عندما يتعلّق الأمر ببروز خطر داهم عابر للقارّات مثلما هو الحال بالنسبة إلى فيروس كورونا الفتّاك الذي باغت البشرية بسرعة انتشاره إلى كافّة أرجاء العالم مخلّفا في حيّز زمني وجيز أكثر من مليون وربع مليون إصابة وعدد مفجع من الضحايا جلّهم من البلدان الغربية المتقدّمة التي يفترض أنّ منظوماتها الصحيّة مجهّزة للتعاطي مع أحلك الأوضاع وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكية و كبرى الدول الاوروبية.
وفي ظلّ تسارع نسق الإصابات بفيروس كورونا محليا ودوليا يخشى أن تكون تونس على حافّة السيناريو الأسوأ الذي حذّر المختصّون من عواقبه الوخيمة خاصّة بعد تسارع نسق الإصابات بشكل متزايد لتتجاوز ثمانمائة إصابة وامتدادها إلى جلّ الولايات وعدم التقيّد التامّ بشروط الحجر الصحّي ممّا يحتّم التحسّب لكافّة الاحتمالات بما فيها خروج الجائحة عن دائرة السيطرة كما حصل في عديد البلدان المتوسّطية المحيطة ومنها تحديدا إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية والآسيوية وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
صحيح أنّ السلطات الحاكمة بتونس حاولت الاستفادة من تجارب البلدان الموبوءة وتجنّب تكرار أخطائها، غير أنّها لم تكن موفّقة بنسجها على منوال الدول الأوروبية التي استخفّت في البداية باحتمالية اتّساع دائرة انتتشار الفيروس إلى خارج الصين ومحيطها المباشر ثمّ لم تتّخذ التدابير المناسبة والصارمة بعد انتقاله إليها. وقد أدّى ذلك إلى انفلات الأمور من أيديها خاصّة في ظلّ افتضاح الحالة المزرية والنقص الفادح في الإمكانيّات الذي تشكو منه المنظومة الصحّية العموميّة الأوروبية الغربية بفعل التدابير التقشّفية المسلّطة عليها منذ عقود انسجاما مع منطق اقتصاد السوق الذي حوّل صحّة الانسان والمرافق والخدمات الأساسية الى سلعة تجارية ممّا أدّى الى التداعيات المأساوية والكارثية الحاصلة أمامنا في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية.
بعض الدروس المستخلصة من التعاطي الدولي مع الجائحة
وإذا كانت هذه القوى الموصوفة بالعظمى عاجزة عن احتواء الارتفاع الجنوني لعدد الإصابات لديها ممّا حوّلها الى مصدر أساسي لتفشّي وباء الكورونا على الصعيد الدولي، فكيف سيكون الحال في تونس ذات المنظومة الصحّية المتهالكة وغير المؤهّلة لمواجهة الكوارث سيّما إذا صدقت التوقّعات السلبية والمتشائمة لجلّ الخبراء العالميين والتونسيين الذين يتوقّعون أن يمتدّ انتشار الوباء لفترة طويلة قادمة؟ فترة تتمدّد خلالها العدوى القاتلة إلى كافّة أرجاء العالم لتشمل المنطقة العربية والقارّة الأفريقية الفاقدة لأبسط المقوّمات للتعاطي بنجاعة مع مثل هذه الآفات.
ومهما يكن من أمر، فانّ تونس مدعوّة، على ضوء المخاطر المحدقة بها في علاقة بالتطوّرات والمستجدّات ذات الصلة بهذه المحنة على الصعيد المحلّي والإقليمي والدولي، إلى تعديل بوصلتها باتّجاه السعي إلى الاستفادة من تجارب الأطراف الدولية التي أثبتت نجاعتها وحسن تنظيمها في التعامل مع هذا الخطر الداهم وعلى رأسها الصين الشعبية وروسيا وكوبا التي سارعت بإغاثة الدول المنكوبة ومنها الولايات المتحدة الأمريكية من منطلقات مبدئية وقيمية تؤمن بأنّ التعاون والتضامن الدوليين هما السبيل الوحيد للتغلّب على هذا التهديد الكوني الموجّه للبشرية جمعاء.
ولا شكّ أنّ هذه المواقف المبدئية، بقطع النظر عن خلفيّاتها المحتملة، ترمز الى أهمّية العودة الى أخلقة العلاقات الدولية في ظلّ ما فرضته الأحادية القطبية في عصر الهيمنة الغربية من تنكّر لمبادئ الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني القائم على تثمين وتفعيل قيم التآزر والتضامن الدوليين بين الأمم.
وفي هذا الصدد يجدر التذكير برفض الولايات المتحدة الأمريكية رفع العقوبات المفروضة على إيران ممّا ساهم في توسيع دائرة الإصابات في صفوف الشعب الإيراني نتيجة حرمان الحكومة الإيرانية من اقتناء التجهيزات الضرورية لمقاومة الوباء. وقد ألحق هذا الموقف الضرر البالغ بصورة الرئيس الأمريكي خاصّة بعد اكتساح الفيروس للأراضي الأمريكية بسرعة البرق وتحوّل الولايات المتحدة الى أكبر بؤرة من حيث انتشار المرض وعدد الوفيّات المتوقّع أن تتجاوز المائتى ألف ممّا قد يؤثّر سلبا على حظوظ إعادة انتخابه في ظلّ موجة السخط والانتقادات اللاذعة التي طالته بفعل إدارته الكارثيّة للأزمة.
وعموما، علينا أن نستخلص العبر من الأحادية والأنانية اللتين طبعتا أسلوب التعاطي الغربي مع هذا التحدّي الجماعي على المستويين الثنائي والمتعدّد الأطراف حيث سارعت الدول الأوروبية، توقّيا من الوباء، إلى غلق حدودها وتعطيل حرّية الحركة والسفر فيما بينها والحال أنّها من المرتكزات الأساسية للمشروع الأوروبي القائم على الاندماج الجماعي في كيان موحّد يكون بديلا للدولة الوطنية.
أمّا المؤسّسات الأوروبية، فقد أثبتت عجزها عن تقديم المساعدة الناجعة والمأمولة للدول الأوروبية الأكثر تأثّرا بالوباء مكتفية برفع القيود المتعلّقة بنسبة العجز في الميزانية المسموح بها للبلدان الأعضاء وهو إجراء غير مسبوق تستعيد بموجبه الحكومات الأوروبية حرّية توزيع مواردها المالية وتوجيهها وفقا لأولويّاتها الوطنية المنصبّة حاليا على إغاثة شعوبها المنكوبة بطاعون العصر الذي قلّ أن شهدت البشرية مثيلا له في تاريخها المعاصر. ولا شكّ أنّ هذا العجز سيفاقم من حدّة الأزمة التي تجتاح الكيان الأوروبي منذ سنوات في ظلّ عودة الجدل الدائر حول مستقبله وحظوظ استمراره بصيغته الحالية في هذا المناخ من الأزمة الدولية الاقتصادية والمالية والصحّية المتفاقمة.
وفي كلّ الحالات ستبيّن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة في الدول الغربية الكبرى مدى تأثير الأوضاع الحاليّة على اتّجاهات الرأي العامّ إزاء منظومة العولمة كنمط سائد في إدارة الشأن الاقتصادي والسياسي ومدى قدرة الأحزاب الوطنية على تغيير المشهد السياسي باتّجاه مزيد تكريس النزعات الحمائيّة وسياسة التقوقع على الذات التي برزت في السنوات الأخيرة انطلاقا من الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى تصريحات أدلى بها مؤخّرا الأمين العامّ للأمم المتحدة ومفادها أنّ هذه الجائحة ستتسبّب في ركود اقتصادي عالمي ليس له مثيل في الماضي القريب، هذا فضلا عن التداعيات الصحّية والاجتماعية المأساوية التي تطال كافّة أرجاء المعمورة وبصفة خاصّة الطبقات الأكثر فقرا وهشاشة لا فقط بالبلدان الفقيرة بل أيضا بالدول المتقدّمة.
ومهما يكن من أمر، فإنّ تونس مدعوّة إلى التحسّب لتداعيات هذه الجائحة الاقتصادية على الأمدين المتوسّط والبعيد خاصّة وأنّن لاقتصاد التونسي شديد الارتباط بالسوق الأوروبية من خلال اتّفاقيات الشراكة مع الاتّحاد الأوروبي الذي يمرّ بمرحلة مفصلية من تاريخه في ظلّ الأزمة العالمية الإقتصادية المتصاعدة بفعل شبه الشلل الذي أصاب كافّة أشكال المبادلات على الصعيد الدولي.
وفيما يلي سنحاول رصد انعكاسات هذا الوضع على علاقات تونس الخارجية والخطوات التي يمكن للحكومة التونسية القيام بها على الصعيد الدولي لتساعدها على تأمين الإمكانيّات الاستثنائية الضرورية لمواجهة آثار الأزمة الآنية والمستقبلية.
تونس في مواجهة التداعيات الدولية للأزمة
من ضمن الانعكاسات المباشرة للأزمة، ردّ الاعتبار لدور الدولة الوطنية الراعية لشؤون مواطنيها والحامية لهم في مواجهة كافّة أشكال التهديدات الداخلية أو الخارجية. غير أنّها كشفت أيضا أنّ جلّ الحكومات عاجزة عن الاضطلاع بهذا الدور على النحو المطلوب لأسباب عديدة تتعلّق بإعادة توزيع الأدوار الاقتصادية محليا ودوليا لفائدة القطاع الخاصّ على حساب القطاع العامّ، فضلا عن النمط السلوكي والمجتمعي السائد في عصر العولمة الخاضعة لسطوة مؤسّسات الحكومة الدولية وعلى رأسها مجموعة السبع.
لكنّ الظرفية الاستثنائية الحالية أظهرت أنّه لا يمكن الاستغناء عن دور القطاع العامّ والدولة الوطنية في مواجهة الجوائح ممّا فرض على الحكومات المركزية تحمّل مسؤولياتها والسعي إلى الحصول على السلطات والإمكانيات التي تخوّل لها تلبية الحدّ الأدنى من حاجيات شعوبها المنكوبة وانتظاراتها.
على الصعيد الوطني ودون التقليل من أهميّة الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة لمواجهة اتّساع تفشّي الفيروس بتونس، فإنّها ظلّت تحوم حول التدابير الاستثنائية العاجلة التي تمّ الكشف عنها وهي مركّزة بالأساس على إعادة توزيع موارد الميزانية بهدف توفير الاعتمادات اللازمة لتمويل النقص الفادح في المستلزمات الطبية وضمان استمرارية دفع المرتّبات والمساعدات والتعويضات الموعود بها وكذلك لتعويض النقص المتوقّع في الموارد الجبائيّة نتيجة تعطّل أو تقلّص الحركة الإقتصادية في عديد القطاعات الخدمية والإنتاجية.
وفي هذا الإطار لا بدّ من النظر في فتح مفاوضات مع الدائنين بخصوص تعليق الالتزامات المتعلّقة بخدمة المديونية ومنها خاصّة خدمة المديونية الخارجية المقدّرة بحوالي 5 من أصل قرابة 8 مليار دينار. ويكتسي هذا الأمر أهمّية قصوى وهو يتطلّب في تقديري الدخول في مفاوضات على المستوى الثنائي والمتعدّد الأطراف مع الدائنين لبحث سبل إرحاء تسديد الديون الخارجية أو إعادة جدولتها ليتسنّى تسخير هذه الاعتمادات في إطار الحرب على الكورونا سيّما وأنّ هذه الجائحة مرشّحة وفقا لتوقّعات الخبراء للاستمرار والتمدّد إلى أمد غير منظور.
كما يمكن لتونس العمل على تفعيل البنود الوقائية لاتّفاق التبادل الحرّ للسلع الصناعية الموقّع مع الاتّحاد الأوروبي وهي تخوّل إعادة فرض الرسوم الديوانية بشكل مؤقّت للتخفيف من حجم العجز المتفاقم في توازناتنا المالية والتجارية.
وعلى صعيد متّصل نشير إلى البلاغ المشترك الموجّه حديثا من قبل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي إلى مجموعة العشرين لحثّها على تعليق مديونية الدول الفقيرة لتمكينها من تسخير إمكانياتها الشحيحة لمواجهة انتشار الفيروس في ربوعها. ويمكن لتونس المطالبة بتفعيل هذه الآلية لصالحها في انتظار التوصل في مرحلة لاحقة الى حلول جذرية لقضيّة المديونية ذات الصلة بالاختلالات الهيكلية في علاقاتنا الدولية مع شركائنا الأساسيين.
ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى مراجعة عميقة لحصيلة علاقاتنا وشراكاتنا مع الدول والتجمّعات الدولية ومنها خاصّة الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع دول صناعية كبرى والمؤسّسات المالية المتفرّعة عنها مع الأخذ بعين الاعتبار العقيدة الدبلوماسية لهذه المجموعة والأهداف التي بعثت من أجلها التي لا تؤهّلها لمساعدة الدول المتخلّفة مثل تونس على تجاوز أزماتها الاقتصادية والمالية الخانقة وبناء اقتصاديات إنتاجيّة موجّهة لتلبية حاجيات شعوبها ووقايتها من الكوارث فضلا عن حمايتها من المخاطر الخارجية المستهدفة لمقدّراتها وثرواتها والمهدّدة لوجودها ومستقبلها.
لقد أثبتت التجارب التنموية الحديثة والمعاصرة في البلدان الغربية المتقدّمة وفي البلدان الصاعدة، الدور المحوري الذي اضطلعت به الدولة الوطنية المركزية على مرّ العصور في رسم المخطّطات والخيارات الاستراتيجية المؤسّسة للنهضة الصناعية والفلاحية والعلمية والتكنولوجية التي مكّنت هذه الدول من اكتساب مقوّمات التفوّق والهيمنة ممّا أهّلها لفرض النمط المجتمعي والمنوال الرأسمالي الاقتصادي والسياسي الغربي كأسلوب مرجعي لإدارة الشأن العامّ والعلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية بما يخدم مصالحها الحصرية دون غيرها.
لكنّ هذا التوجّه الذي سعت مجموعة السبع إلى تعميمه وتكريسه على الصعيد العالمي بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي أدّى إلى ضرب الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة الوطنية وتجريدها من استقلالية قرارها ومن مصادر تمويلها الذاتية والوطنية ممّا كرّس تبعيّتها للتمويلات الخارجية والخاصّة وللقروض المشروطة للمؤسّسات المالية الدولية والتجمّعات الممثّلة لمنظومة الحوكمة العالمية العابرة للحدود. كما تراجعت الديمقراطية الغربية بفعل انتشار هذه النمطية الاقتصادية التي لا تراعي الفوارق في مستويات التنمية ولا الحاجيات التنموية الخصوصية للدول المتخلّفة حيث أصبحت الانتخابات غير قادرة على فرض مراجعة السياسات والخيارات الاقتصادية، ممّا أفرغ المنظومة الديمقراطية من أيّ مضمون حقيقي طالما أنّ التداول على السلطة أصبح في غالب الأحيان شكليّا ولا يؤدّي إلى تغيير السياسات والواقع الاقتصادي والاجتماعي للشعوب إلى الأفضل.
وهذا ما تؤكّده أيضا المسيرة التنموية التونسية المرتبطة بسيرورة العلاقات التونسية الأوروبية إذ شكّلت اتّفاقيات التبادل التجاري غير المتكافئة المرتبطة بانخراط تونس منتصف الثمانينات في منظومة اقتصاد السوق العمود الفقري للمنوال الاقتصادي التونسي والإطار المنظّم للتعاون والشراكة بين تونس وشركائها الرئيسيين بالضفّة الشمالية للمتوسّط وعلى المستوى الدولي. ولعلّ ذلك من أهمّ أسباب تعثّر الانتقال السياسي والديمقراطي والاقتصادي بتونس بعد الثورة الذي يعزى بالأساس إلى تمسّك الحكومات المتعاقبة بالخيارات الاقتصادية والدبلوماسية للنظام السابق رغم ثبوت فشلها بفعل وصول منظومة اقتصاد السوق إلى طريق مسدود ودخولها في أزمة مستفحلة منذ 2007 وهي مرشّحة لمزيد التعقيد بسبب أزمة الكورونا التي ضربتها في الصميم وقوّضت أركانها.
خلاصة القول لا أحد يستطيع اليوم التكهّن بمآلات هذه المعضلة العالمية وتداعياتها الآنية والمستقبلية على تونس وفي العالم ولكنّها ستشكّل بالتأكيد نقطة فاصلة في تاريخ البشرية، وقد تؤثّر سلبا على السلم والأمن الدوليين خاصّة في ظلّ عودة أجـواء الحـرب الباردة المواكبة للتحوّلات والمتغيّرات الحاصلة في مـوازين القـوّة الاقتصادية والسياسيــة والعسكــرية على الصعيد الإقليمي والدولي.
أحمد بن مصطفى
باحث في القضايا الاقتصادية والاستراتيجية
- اكتب تعليق
- تعليق