أخبار - 2020.04.18

العميد محمّد فاضل محفوظ : المنظومة المؤسّساتية في تونس فـي مواجهة جائحة الكــورونـــا

العميد محمّد فاضل محفوظ : المنظومة المؤسّساتية في تونس فـي مواجهة جائحة الكــورونـــا

أثار انعقاد مجلس الأمن القومي بتاريخ يوم 31 مارس 2020 جدلا واسعا  بالنظر إلى المواضيع التي تطرّق اليها جدول أعماله وبالنظر إلى ردود الفعل سواء من الأطراف المشاركة فيه أو من خارجه.

ولعلّ الأمر يحتاج الى أكثر من توضيح في ذهن المتلقّي إذ بقدر أهميّة انعقاد المجلس في مثل هذا الظرف الذي يتفشّى فيه وباء هو بمثابة العدوّ الخفيّ، فإنّ الصّورة لدى المواطن تكاد تكون ضبابية نظرا لتعدّد المؤسّسات الدستورية والهيئات والمجالس وتزاحم الاختصاصات بينها في شتّى المجالات  حتّى أنّ الفرد يحتاج في بعض الأحيان الى مساعدة لفكّ شفرتها.

لكن قبل ذلك لابدّ من الإشارة إلى أنّ هذا التنوّع هو في الأصل إثراء لتجربة متفرّدة على جميع المستويات منذ سنة 2011، بقطع النظر عن تقييمنا لها. ويكفي التذكير ببعض المحطّات المفصليّة للوقوف على حقيقة، نعتقد أنّنا لا نختلف فيها، وهي أنّ تونس كانت خلال السنوات الماضية بمثابة المخبر الذي ينتج جرعات من الديمقراطية والحريّة لشعب منعتق لكنّه يواجه اليوم أزمة حقيقيّة تضع على المحكّ كلّ المقولات ، بدءا بالمقولات السياسية والقيمية.

وأهمّ المحطّات تمثّلت في النظام المؤقّت للسلط العمومية الذي أفرز مؤسّسات وقتيّة أوكل إليها إدارة الشأن العام، ثمّ تجربة المجلس الوطني التأسيسي وما رافقها من نجاحات ومن أزمات  أفضت بدورها إلى تجربة الحوار الوطني وحكومة التكنوقراط ثمّ انتخابات خريف 2014 التي كرّست مبدأ التداول السلمي على سدّة المسؤولية ثمّ انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية التي نبّهت إلى سلبيات بعض مراحل الانتقــــال وتجليّاته لــــدى المواطن.

لكنّ القاســـم المشترك بين كلّ هذه المحطاّت هو عمليّة الانتقال «من، إلى» في مناخ سياسيّ يتراوح بين الهدوء والصخب، بين الطمأنينة والغضـــب. والوضع اليوم لا يختلف كثيرا عن مثل هذه التقّلبات فالبعض يسأل الحكومات المتعاقبة الرحيل والبعض الآخر يسأل النظام بأسره الرحيل فيما يعتبر بعـــض آخــــر أنّ تجـــربة الانتقال الديمقراطي بعيوبها قد جنّبت البلاد عنفـــا محمـــوما مستبـــطنا لدى بعــــض الأنفس التي تجهـــل ثقـــافة الاختــلاف.

والسؤال المطروح اليوم هل أنّ الفضاء العامّ هو نفسه يستوعب هذا الكمّ من الغضب والإحباط أو حتّى الشعور بعدم الارتياح؟ ثمّ هل أنّ مؤسّسات الدولة من سلطة تنفيذية وتشريعية خاصّة أجابت على تساؤلات المواطن وشفت غليله ولو جزئيا في اهتماماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟

لا شكّ أنّ الإجابة قد تكون بلا قاطعة لدى الكثيرين أو بلا نسبية عند البعض الآخر أو بنعم متحفّظة لدى آخرين.

والأهمّ من الإجابة نفسها إنّما هو المراكمة الذهنية للأشخاص المتعهّدين بالمسؤولية في مختلف مستويات الدولة حتّى يعوا سبب تلك الإجابات.

وباستعراض سريع لأداء أجهزة الدولة يمكن القول دون تردّد إنّ ذلك الأداء هو أقلّ ممّا يجب أن يكون عليه رغم المحاولات الشجاعة لبعضها عند التعامل مع الأحداث،طيلة السنوات الأخيرة، و خاصّة في مجابهة الوباء المتفشّي لا محالة حسب الأطبّاء وخبراء الاوبئة والفيروسات.

لكنّ هذه المؤسّسات بقدر اضطلاعها بدورها واجتهادها فإنّها تعطي في بعض الأحيان انطباعا سلبيا تمثّل أساسا في:

انطباع يهمّ المجلس التشريعي الذي يتحوّل أحيانا إلى حلبة للصراعات الايديولوجية والسياسية تصل إلى حدّ العنف اللفظي المبالغ فيه الذي يفسد النقاشات البنّاءة
انطباع ثان يهمّ الجزء الأوّل من السلطة التنفيذية وهو الحكومة التي تجد نفسها في وضعيّة القائد في الميدان لكنّه ينتظر موافقة سياسية من القائد الأعلى وموافقة قانونية وتشريعية من مجلس نوّاب الشعب. وصراع الاختصاصات كان واضحا من خلال ردود الفعل على التجاء الحكومة إلى الفقرة الثانية من الفصل 70 من الدستور.
انطباع ثالث يهمّ الجزء الثاني من السلطة التنفيذية وهي رئاسة الجمهورية التي بحكم عدم سيطرتها دستوريا على السلطة التنفيذية تلجأ إلى فضاء مجلس الأمن القومي.

لكنّ المزعج أن تتحوّل هذه الانطباعات إلى قناعات وأن تتحوّل القناعات إلى دغمائيات يصعب حينها، بل وقد يستحيل، مجابهتها لا بالحجّة ولا بالدليل ولا بالبرهان.

لأنّ الدغمائيات والمعتقدات والعقائد لا تكتسح العقول والأذهان فقط بل تمتدّ الى الفضاء العامّ في شكل عدوى تدافعية تشبه التسونامي الذي يجرف معه الأخضر واليابس.

ولنا في تاريخ الإنسانية عبر بعض المحطّات مثال سنوات الرعب إثر الثورة الفرنسية التي اغتالت أبناءها بسبب مثل تلك المعتقدات أو مثال تجربة النظام الكلياني لألمانيا الهتلرية التي رغم بشاعتها لقيت دعما غير مسبوق من أغلب الشعب الألماني.

ويضاف إلى هذا المشهد المؤسّساتي الرمادي وهذه الانطباعات مؤسّسة أخرى جاء بها الأمر الحكومي عـــ70ــدد لسنة 2017 المؤرّخ في 19/01/2017 والمتعلّق بمجلس الأمن القومي.

وبقراءة سريعة لعناوين ولأبواب هذا الأمر ومشمولاته وتركيبته تترسّخ لديك قناعة أولى وهي أنّ صدور الأمر إنَّما  هو إجابة عن المعطيات السابق الإشارة إليها والمتمثّلة أساسا في هشاشة المؤسّسات الدستورية أمام الانطباع السلبي السائد.

وقد اقتضى فصله الأوّل أنّ مجلس الأمن القومي يسهر على حماية المصالح الحيويّة للدولة في إطار تصّور استراتيجي يهدف إلى صون سيادة الدولة واستقلالها وضمان وحدة ترابها وسلامة شعبها وحماية ثرواتها الطبيعية.

وللغرض فهو يتداول في السياسات العامّة المتعلّقة بالأمن القومي والاستراتيجيات المتعلّقة به وبالخيارات في مجال الاستعلامات والاستراتيجيات الوطنية لمكافحة الإرهاب وتقييم التحدّيات الداخلية والخارجية وتدابير التعامل مع التهديدات ولو كانت متوقّعة الحصول وتوجيه السياسة الخارجية وفق أولويات الأمن القومي وله أن ينظر في كافة المسائل التي يعرضها عليه رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة.

والمتأمّل في مرجع نظر مجلس الأمـــن القومي يقــــف على حقيقة ثابتة هي أنّ اختصاصاته متعدّدة في كافّة المواضيع من أبسطها إلى أعقدها دون تحديد طالما وأنّه بإمكانه «النظر في كافّة المسائل التي يعرضها عليه رئيس الجمهـــورية أو رئيس الحكــــومة».

وقد جاءت العبارة مطلقة إلى أبعد حدّ بجمع المصطلحين «كافّة» و«المسائل» لتشمل مختلف المجالات ولا تقتصـــــر على مــــا جاء بطالع الفصل الأوّل فيما يتعلّق بالسيادة ووحدة التراب وسلامة الشعب والمسائل الأمنية والاستخباراتية فقط. وهو الأمر الذي يؤهّله  لتنــــاول مسألة الأمن الصــــحّي والوبــــائي الذي يعــــرف الآن أزمــــة قد تعصــــف بكلّ الحقـــائق بما فيها العلمية.

ويتركّب مجلس الأمن القومي المحدث بأمر حكومي من رئيس الجمهورية رئيسا، وعضوية رئيس الحكومة ورئيس مجلس نوّاب الشعب والوزراء المكلّفين بالعدل والدفاع والأمن والشؤون الخارجية والمالية ورئيس المركز الوطني للاستخبارات كأعضاء قارّين مع إمكانية استدعاء أيّ طرف من بقيّة أعضاء الحكومة أو من خارجها. ويصدر المجلس بخصوص المسائل المطروحة قرارات وتوصيات.

والحقيقة أنّ الأمر المحدث لمجلس الأمن القومي يحمل في طيّاته جملة من التساؤلات. إذ هو أمر حكومي ممـــضى من رئيس الحكومة  لكنّه لا يترأّسه ولا يحدّد جدول أعماله والصــــلاحيّة الوحيدة التي منحها لنفسه هي إدراج مسائل يعرضـــها على المجلس.

كما أنّ نجاعة مجلس الأمن القومي تبدو غير واضحة على الميدان إذ هو يسهر، يتداول، يدرس، يقيّم طبق ما جاء بالفصل الأوّل من جهة، لكنّه يصدر قرارات وتوصيات طبق ما جاء بالفصل 4 من جهة ثانية.

إلاّ أنّ كيفيّة اتّخاذ القرار أو التوصية لم تحدّد، والجهة المكلّفة بالسهر على التنفيذ غير محدّدة، وطريقة مساءلة ومحاسبة المخلّ بتلك القرارات والتوصيات غابت تماما  إلى حدّ التساؤل عن ماهية مجلس الأمن القومي  وعن جدواه  القانونية والفعلية.

وعودا على بدء فإنّ الانطباع السائد سواء بمناسبة ترأّس المجلس من قبل الرئيس الراحل الأستاذ الباجي قايد السبسي أو من قبل الرئيــــس الحالي  السيد قيـــس سعيّد، هـــو أنّ هــــذا المجلس هو عبــــارة عن فضاء للتداعي الحرّ لكن لا تســوّق منه إلاّ صورة الرئيــــس الخطيــــب الذي يرسل رســــائل اتصالية للـــرأي العامّ.

وفي مقابــــل ذلك فإنّ مســـألة الأمن القومي هي من أهمّ اختصاصات رئيس الجمهورية التي حدّدها الدستور بالفصل 77 ورئاسة مجلس الأمن القومي هي إحـــدى الصلاحيات الممنوحة إليه.

واليوم وفي ظلّ التأهيل التشريعي للحكومة بموجب الفقرة الثانية من الفصل 70 من الدستور بغرض مجابهة فيروس  كورونا وبغاية النجاعة والسرعة في الإجراءات،هل يمكن أن نشهد تنازعا سياسيا في الإختصاص بين حكومة أطلقت يدها ولو لغرض معيّن ولمدّة شهرين مع ضرورة المصادقة اللاحقــــة على مراسيمهـــا، وبين مجلس أمن قومي يفرض هيبة اعتبارية من حيث تركيبته على الأقلّ.

الأهمّ من كلّ ذلك بطبيعة الحال هو أن توفّق كلّ السلطات في حربها على الوباء من جهة وأن تنجح  في التقليص من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية التي تنهك الأفراد والمؤسّسات بسبب الحجر الصحّي العامّ.

أمّا سياسيّا فإنّ تنـــازع الاختصــــاصات في الديمقــــراطيـــات لا يفسد للودّ قضيّة ، إذا تنافس المتنافسون بنزاهة وشفــــافية وبإيمـــــان صادق بفكرة التقدّم المبني على البحــــث والعلم و المعـــرفة.

والامتحـــان الذي تخــــوضه الإنســـانية هــــو فرصـــة أخـــــــرى لمنظومــــة الانتقـــــال الديمقراطي في تونس لأنّ تراجــــع مقـــــولاتها الإقتصادية والسيـــاسية والاجتمـــاعية والثقـــافية وتؤكّد مرّة أخرى قدرات التونسيات والتونسيين في استنباط الحلول ولم لا إضاءة السبيل لكلّ شعوب العالم المحبّة للحياة.

والعبرة هي أن لا تثنينا الصعوبات وأن لا تحبط عزائمنا حتّى لا نسقط في الشعبويات المبتذلة الرامية إلى نسف كلّ ما تحقّق أو الداعية إلى الأنظمة الكليانية «الناجعة» في نظرها، إذ للتذكير فإنّ هذه الأنظمة لا تقرّ بالحقّ في الحياة إلّا للأقوى وتسحق الفئات الضعيفة بالحديد والنار لاستغلالها في مشاريعها الظالمة والمستبـــدّة. ولأنّ تونس هي فضاء خلاّق منذ العصور الأولى لنشأتها فهـــي من أجمل أوطان الكون ويحــــقّ لها أن تتــــوق إلى الأفضل.

العميد محمّد فاضل محفوظ
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.