عامر بوعزة: التعليم الالكتروني ومبدأ تكافؤ الفرص
سعيا للحدّ من التداعيات السلبية للحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا استؤنفت الدراسة في عدد من دول العالم باستخدام الوسائل الالكترونية. لكن هذه الآلية جوبهت بالرفض في تونس. ففي التعليم الأساسي والثانوي كانت الأمور منذ البداية واضحة وفي منتهى الانسجام بين مختلف الهياكل المتدخلة، وقد قدّم محمد الحامدي وزير التربية في تفسيره لهذا الرفض سببين أولهما يتعلق بعدم وجود نصوص قانونية تجيز التعلم عن بعد، وهو عائق قليل الأهمية على حدّ قوله بعد حصول الحكومة على تفويض من مجلس النواب يتيح لها التشريع بالمراسيم، أما السبب الثاني فيعتبر حاسما إذ يتعلق بمبدأ هام من مبادئ العدالة الاجتماعية هو مبدأ تكافؤ الفرص. في مقابل ذلك بدا الوزير منشرحا ومتحمسا كثيرا لمشروع القناة التربوية الذي تمّ إعداده بالتنسيق مع مؤسسة التلفزة التونسية لإبقاء التلاميذ على صلة بمناخ الدراسة.
ولم يخل الأمر في التعليم الجامعي من تذبذب وتجاذب، حيث أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المنشور عدد 14 بتاريخ 19 مارس تدعو فيه بشكل مفصّل إلى تأمين مختلف أشكال التكوين عن بعد عبر وسائل جامعة تونس الافتراضية واعتبرت هذا الإجراء «إجراء احترازيا يقوم مقام الدروس الحضورية في حال تواصل تعليق الدروس واستحالة عمليات التدارك». لكن الاتحاد العام لطلبة تونس سارع إلى الإعلان عن رفضه المطلق لهذا الاقتراح داعيا عموم الطلبة إلى مقاطعة التسجيل في المنصات المخصصة للتدريس عن بعد لانتهاكها «مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الطلبة».
بالتوازي مع هذا الجدل، انطلقت بعض المؤسسات الجامعية فعليا في التدريس عن بعد، وشرعت بعض مؤسسات التعليم الثانوي الخاص في تقديم دروس الكترونية لمنظوريها. كما أعلنت وزارة تكنولوجيات الاتصال والتحوّل الرقمي أن النفاذ إلى منصات التعليم عن بعد عبر شبكات الاتصالات الجوّالة لجميع المشغلين سيكون مجانيا في صورة عدم توفر إمكانية ذلك عبر الشبكات القارة، وأن هذا الإجراء يتنزل في سياق الاستفادة من التعليم عن بعد الذي يتمّ توفيره عبر منصات رقمية.
كل يغني إذن على ليلاه!
إن حالة الذعر والتخبط التي أصابت الأوساط الرسمية والنقابية بمجرد طرح فكرة التعليم عن بعد، لا تتناسب مع جملة من الحقائق التاريخية التي لا يهتم بها أحد، فتونس كانت أول دولة عربية تستخدم الانترنت وتخصص هيكلا حكوميا (كتابة دولة) للتكنولوجيات الجديدة منذ بداية تسعينات القرن الماضي، وهي أول بلد عربي يستضيف فعالية دولية ضخمة في حجم القمة العالمية لمجتمع المعلومات في العام 2005، وها هي تخسر جولة هامة في معركة الانتقال الرقمي دون أن تخوضها حتى، وذلك بسبب مبدأ جوهري لا جدال فيه هو مبدأ تكافؤ الفرص، ففي «التعليم عن بعد» يكون التواصل بين الباث والمتلقي تفاعليا عبر منصّات يمكن اعتبارها «قاعات درس افتراضية». ويعتبر الحاسوب المرتبط بشبكة الانترنت الوسيلة الأساسية لربط المتعلم ببيئة التعليم الالكترونية، فيما تشير المسوح الميدانية للمعهد الوطني للإحصاء أن ما يناهز 47% فقط من الأسر التونسية تمتلك حواسيب، وهو ما يؤكد بشكل قاطع استحالة أن يكون التعليم الالكتروني بديلا مناسبا في المرحلة الراهنة.
لقد ارتفعت نسبة مستخدمي الانترنت لدى الأفراد في تونس من 17% العام 2010 إلى 64% العام 2018، لكن استخدامات الانترنت تتركز بنسبة 90% حول المشاركة في فضاءات التواصل الاجتماعي، وهو ما يمكن تحقيقه باستخدام الهاتف الذكي، أما عن الحواجز التي تحول دون نفاذ الأسر إلى الانترنت ففي مقدمتها بنسبة 73% انعدام الحاجة إلى الانترنت، فيما لا تفوت نسبة الذين يعتبرون تكاليف المعدات باهظة 8.7%، أما الذين يعتبرون أن الانترنت غير متاحة في منطقتهم فنسبتهم وفق هذا الإحصاء لا تتجاوز 2.4%.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار هذه الإحصاءات المنشورة على موقع وزارة تكنولوجيات الاتصال والانتقال الرقمي فإننا في حاجة إلى استراتيجية مستقبلية تقوم على شرطين متوازيين: الشرط الأول يتمثل في استئناف الدعم والإحاطة اللذين كانت توفرهما الدولة للأسر من أجل ردم الفجوة الرقمية الداخلية بتعميم امتلاك الحواسيب (الحاسوب العائلي، قروض بنكية، تسهيلات في الدفع، بعث شركات محلية...الخ). أما الشرط الثاني فتفعيل هذا الحاسوب خارج إطار التواصل الاجتماعي وذلك بتطوير الخدمات الالكترونية كالتجارة والتعليم والإدارة، فأي فائدة يجنيها شعب هو من أكثر الشعوب ارتباطا بالفايسبوك واليوتيوب وانستاغرام ولا يمكنه أن ينقذ موسمه الدراسي باستخدام التعليم عن بعد؟!
هذه الاستراتيجية يمكن أن تكون رافعة اقتصادية مهمة لا سيما أن الاقتصاد اللامادي قليل التكلفة ويرتبط بمهارات وتخصصات متعددة، فالرقمنة في الإدارة والصحافة والتعليم لا تقتصر على تحويل المستندات والوثائق من صيغتها الورقية إلى صيغة الكترونية يجري لاحقا استنساخها مرة أخرى على الورق، بل تتطلب أسلوبا خاصا في صياغة المضامين والأشكال يفتح الآفاق أمام اختصاصات جديدة في البيداغوجيا والإعلام والفنون الجميلة والتأمين والدفع الالكتروني وغيرها من المجالات الضرورية في مجتمع المعلومات.
لقد اكتشفنا بمناسبة جائحة كورونا أننا غير جاهزين لدخول مرحلة التعليم عن بعد لكن هذا لا يعني أن نشكّك بحماس ثوري مبالغ فيه في وجاهة المشروع، يكفي فقط أن نقلب المعادلة، فلئن كان مبدأ تكافؤ الفرص هو الذي يمنع اليوم من تعميم التعليم الالكتروني فإن هذا التعليم في صورة تعميمه واعتماده بشكل رسمي يمكن أن يكون الوسيلة الفضلى لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع وإتاحة التعلم مدى الحياة لكل الناس.
لقد خسرنا معركة لكن لم نخسر الحرب!
عامر بوعزة
- اكتب تعليق
- تعليق
En deux mots BRAVO si Ameur دمتم متألقا. دمتم وتونس بخير إن شاء الله.