أخلاق الصحافة في زمن بلا أخلاق
تستوقفك في سيرة الصحفي اللبناني طلال شتوي المنشورة تحت عنوان «بعدك على بالي» مواقف عديدة تنتصر فيها الأخلاق على ما سواها من المشاعر الغريزية مثل حبّ الظهور والتميّز. وذلك في سياق حكاياته عن الصحافة اللبنانية زمن الحرب الأهلية وعن بداياته في هذا العالم المليء بالأسرار والتفاصيل والإثارة، وسنعرض هنا إلى موقفين فقط يحفلان بدلالات رمزية شتى.
الموقف الأول تحدث فيه عن مهمة صحفية قادته إلى طرابلس حيث اندلعت عملية تطهير واسعة شنتها حركة التوحيد الإسلامي ضد الحزب الشيوعي وأسفرت في اليومين الأولين فقط عن مائة قتيل!، الأمر الذي جعل كثيرا من المسيحيين يغادرون العاصمة اللبنانية الثانية بكثافة خوفا من سيطرة حركة إسلامية متشددة عليها. يومها عاد الصحفي الشاب الذي يشغل على حداثة سنه موقعا متقدما في مجلة «الأفكار» بموضوعين: أولهما عن معاناة الأهالي، وهو موضوع بديهي لكل من يجد نفسه في مثل تلك المهمة، واختيرت له صورة امرأة تقف وسط الدمار مع عبارة: «يا أبطال الحوار الوطني أدركونا». أما الموضوع الثاني فكان يتوفّر على كل مقاييس السبق الصحفي والإثارة، إذ تضمن لقاء مع أمير حركة التوحيد التي تسيطر على المدينة، أجاب فيه عن أسئلة تتعلق بهلع المسيحيين وكيفية انزلاق الصدام السياسي إلى صراع طائفي. وكان على «وليد عوض» رئيس التحرير الملقب بالأستاذ لعراقته وخبرته في المهنة أن يختار في اليوم الموالي أحد هذين الموضوعين للغلاف، وأن يوازن بين العامل الإنساني الذي يمثله الموضوع الأول والإغراء التجاري الذي يمثله الموضوع الثاني. فانحاز إلى الموضوع الأول قائلا: سنخسر اللمعة والسبق، لكننا لن نشارك في إذكاء التوتر والخوف والكابوس الطائفي.
الموقف الثاني وقع العام 1988 في غمرة الاستعداد للانتخابات الرئاسية. داخل كواليس مجلة «الحسناء» أعرق مجلات المجتمع اللبناني آنذاك كما يقدمها كاتب السيرة، فكّر فريق التحرير في طريقة مختلفة لمواكبة الحدث وقرّر ترشيح امرأة لرئاسة الجمهورية ثم الإعلان في العدد الموالي أنها كذبة أفريل! واختيرت الفنانة الشهيرة هند أبي اللّمع للقيام بهذا الدور. كانت الفنانة الكبيرة تصارع مرضا عضالا، وكانت الصور التي عادت بها الصحفية وهي طالبة في السنة الأولى بكلية الإعلام إلى المجلة هي الصور الأولى لهند «المريضة»! يقول الكاتب الذي صار في تلك المرحلة رئيس التحرير وصاحب القرار: توقفنا طويلا أمام الصور الحزينة لنجمة ساحرة نال من بريق عينيها شحوب المعاناة وإرهاق العلاج، وقررنا في لحظة حبّ أن نمتنع عن نشر هذه الصور! ضحينا بالسبق الصحافي.
صدّق الجمهور الكذبة واستطاعت المجلة أن تحمل للفنانة في أيامها الأخيرة القليل من العزاء لا سيما أنها حرصت على ألا تتغيّر صورتها في ذاكرة الناس، ولم تنشر تلك الصور الا في الموضوع الذي ودّعت به المجلة الفنانة عند وفاتها.
هذه القصص وغيرها مما تحفل به سيرة طلال الشتوي ليست فقط عن عصر كانت فيه بيروت عاصمة الصحافة العربية قبل نهاية زمن الصحافة التي نعرفها، بل عن قيم المهنة وشرفها الحقيقي قبل نهاية عصر الأخلاق التي تربينا عليها. في هذه السيرة صورة حية متوهجة عن صيرورة الزمن في بلاط صاحبة الجلالة، وكيف يتسلم المشعل جيل من جيل آخر. كيف يمنح الكبار الفرصة للمبتدئين وهم بعد في سنوات الجامعة الأولى، ويعترف الكاتب في أكثر من موضع أن الجامعة لم تعلمه الصحافة قطّ، لكنها حصنته بالمعارف الأساسية التي تشكل البنية التحتية الصلبة للمشتغلين في ميدان الإعلام. يقول: لقد تعلمت من وليد عوض كل شيء، تعلمت منه كيف نحوّل موضوعا باردا إلى مادة صحفية ساخنة، وكيف نصنع الإثارة بدون ابتذال وبدون انزلاق إلى سقوط مهني قد يكسبنا لمعة عابرة لكننا سنخسر حتما الوزن والقيمة.
لكن هذه الحكايات التي تعلي قيمة الأخلاق الإنسانية في الصحافة على قيم السوق المادية تبدو جزءا من الماضي الغابر في زمن أصبح من المألوف فيه أن تنشر مختلف الوسائط صور المرضى العاجزين والأطفال الفقراء والجثث المشوهة، وتتسابق فيه القنوات التلفزيونية في استثمار المآسي العائلية لفئات اجتماعية ضعيفة لا تقوى على الدفاع عن خصوصياتها. فيما تعطي تجربة الكاتب نموذجا عمليا عن أثر التكوين في بناء شخصية الصحفي وعقيدته، إذ يعود زهده في السبق الذي لا يحترم إنسانية الانسان إلى مقاربة ثورية انتهجها منذ يومه الأول بالكلية في مواجهة المفاهيم الجاهزة. فطلبة الصحافة في مختلف كليات الإعلام عبر العالم يقال لهم في سنتهم الأولى: «إذا عضّ كلب رجلا فهذا ليس بخبر، الخبر هو حين يعضّ رجل كلبا!» وهم يتناقلون هذه المقولة بانبهار وتقديس، فيما يعتقد هو أن الإثارة الحقيقية والعميقة تكاد تكون معاكسة تماما، وأن الكاتب هو من يستطيع أن يسرد لقرائه قصة كلب عضّ رجلا بأسلوب يحبس الأنفاس! ويظن طلال شتوي أن معظم عمله في المهنة كان عن كلاب تعضّ الرجال وليس العكس!
عامر بوعزة
- اكتب تعليق
- تعليق