منجي الزيدي: تعــنـيـف المـسـنّـيــن، العار المـسـكـوت عنه

لا يكاد يمرّ يوم في تونس إلا وتطالعنا حوادث مؤلمة ومخزية يهتزّ لها الوجدان الاجتماعي؛ من ذلك ما يتعرّض له بعض المسنّين من جرائم واعتداءات. فهذه عجوز الثمانين تُغتَصب حتّى الموت، وهذا شيخ يموت ولا يجد من يواريه الثرى، وآخر تبقى جثّته لأيّام في غرفة مغلقة حتّى تنبعث رائحة الموت لتصفع من يحيط به... هذه حوادث تداولتها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي؛ ولكن ماذا عن المسكوت عنه؟

يتبوّأ كبار السنّ في مجتمعنا مكانة عالية. الوالدان إذا بلغا عندنا الكبر هما أمانة ومسؤولية؛ والبِرُّ بهما يأتي بعد التوحيد. وكلّ الأجيال نشأت على أنّ الجنّة تحت أقدام الأمّهات. وليس من ألم يضاهي ألم فقدان الوالدين؛ ومع ذلك هل وَفيّنا كبارنا حقّهم؟

إنّه لأمر مفزع أن تطالعنا الإحصائيات الدولية بأنّ مُسِنّا من بين عشرة تعرّض لسوء المعاملة، وأن تعترف منظّمة الصحّة العالمية بأنّ تعنيف المُسنّين هو مشكل مسكوت عنه، وأن تقرّ جامعة الدول العربية بأنّ النظرة العامّة للمُسنِّين في المجتمعات العربية قد تغيّرت وأنّ هنالك تصاعدا للإساءة والإهمال والعنف بما في ذلك العنف الجنسي.

وإنّه لأمر جلل! فالعالم يهرم بنسق متسارع. وصارت الشيخوخة واحدة من أبرز تحوّلات القرن الحادي والعشرين. ويُنتَظر في أفق 2050 أن يُمثِّل المسنّون في الجزائر وتونس والمغرب نصف السكان حسب تقرير للجامعة العربية.

يتعرّض المُسِنّون للتعنيف لأنّهم وَهَنَ العظم منهم، وتشير الدراسات إلى أنّهم مُعرَّضون له في كلّ مكان وزمان. تُرتكب الاعتداءات ضدّهم بنسبة 90 بالمائة في مقرّ إقامتهم؛ ويقترفها في الغالب أشخاص يثقون بهم، كأفراد الأسرة وبعض أعوان الخدمات الصحيّة وجلّهم من الشباب والكهول. كما يُسلَّط عليهم الأذى في المستشفيات والإدارات والفضاءات العامة ووسائل النقل... وتتراوح أشكال هذا العنف من «أُفٍّ» مَنهيٍّ عنها، وزَجرٍ مرفوض ونَهْرٍ منبُوذ، وسخرية مذمومة، إلى ضرب وتعنيف، وتتصاعد لتبلغ القتل والاغتصاب والتنكيل...

بعد سنوات الكدّ والعناء والتضحية يجد أغلب المُسِنّين أنفسهم في وضع اقتصادي هشّ نتيجة تآكل منظومة الضمان الاجتماعي واختلال أنظمة التقاعد، وهذا شكل من أشكال الحيف. ومع ذلك فهم ليسوا في مأمن من الاستغلال المادّي والابتزاز حتّى من الأقربين؛ وهم يرضخون لذلك لِحُنُوٍّ أو ضعف أو خشيةً من وحدة؛ وبعضهم «يشتري» بمدخّراته شعورا بالأمان.

وأكثر أشكال الإساءة لكبــار السن تعرّضهم للإهمال من أبنائهم وأقاربهم. ولهذا السلوك درجات تبدأ من قلّة الاتّصال وتباعد الزيارات بدعوى التزامات الحياة وضغوطاتها وضيق الوقت، لتصل إلى الإهمال والعزل. إيداع أحد الوالدين في دار للمسنين يعتبر «كبيرة» اجتماعية لدى أغلب التونسيين ولكن هل يكفي ذلك عندما نرى البعض يترك والديه، أحدهما أو كلاهما، وحيدا في بيته يصارع الفراغ من بعد سنوات الوهن على وهن؟!هل تكفي مكالمة هاتفية قصيرة مـن باب «الأداء السريع للواجب» لتبدّد الوحشة وتُذهب الهواجس وتمنـع مخاطر الوحدة؟!

يتلازم التقدّم في العمر مع تراجع القدرات الجسدية وارتفاع احتمالات الإصابة بالمرض والعجز، ويتزايد مع ذلك منسوب القلق والخوف والصعوبات النفسية، ويصبح المسنّ بحاجة إلى رعاية أكبر ومرافقة دائمة؛ وهذه مسؤولية العائلة بدرجة أولى. ولكن التغيرات الاجتماعية والضغوطات الاقتصادية أثّرت بشكل واضح على الروابط الأسرية وعلاقات التضامن العضوي بين أفرادها فأضحى المسنّ يواجه هذه الفترة من العمر أعزلا ووحيدا في أحيان كثيرة. العناية بمسنّ مريض تابع وعاجز عن قضاء حاجاته عمل شاقّ ومُضنٍ لا يقدر عليه الكثيرون ولكنّه فرض اجتماعي وأخلاقي لن تجد للإخلال به مبرّرا. ذلك أنّ كلّ شكل من أشكال التقصير هو إهمال بَيِّنٌ ناهيك عن ردود فعل التواكل والضجر والاشمئزاز قولا وفعلا...وكلّها في باب الإساءة والتعنيف لا محالة.

تُجمِع الدراسات المختصّة على أنّ لتعرض المسنين للإساءة والتعنيف المادي والرمزي آثارا سلبية وخطيرة؛ إذ ترتفع لديهم احتمالات التعكّر الصحّي ومن ثمّ الوفاة، فضلا عن تفاقم الأزمات النفسية والشعور بالمهانة وانتهاك الكرامة وفقدان تقدير الذات. وهي معاناة صامتة. فنسبة 4 بالمائة فقط من المسنّين في العالم يُبلِّغُون عن تعرضهم للإساءة أو الاعتداء؛ وذلك خوفا من انتقام المعتدين، وخشية تعريض الأبناء أو الأقارب للتبعات القانونية، وتَحسُّبًا من العزلة والوحدة. إنّها معاناة صامتة يشعر فيها بعض المسنّين بالذنب وبأنّهم عبء ومصدر إزعاج، ويشعر البعض الآخر بالخجل والإحراج...لذلك نرى الكثيرين منهم لا يرغبون في ترك بيوتهم... وكثيرون أيضا يردّدون في داخلهم دُعاءً تونسيا شعبيا بأن يكون العمر على قدر الصحّة والبصر: (قَدْ لَعْمُر قَدْ الصَّحَه قَدْ النّظَر)، وآخرون يتردّد لديهم صدى شعر زهير بن أبي سلمى حين قال «سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش... ثمانين حولاً، لا أب لك يَسأمِ».

إنّه لمن المحزن أن يصبح الكِبَر والعجز لدى البعض من «ممارسي السياسة» موضوع سخرية وتعلّة إقصاء، والأخطر أن يتَحوّل إلى ثقافة تمييز على أساس السنّ في مجالات الحياة عامّة، وتلك علامات التفكّك الاجتماعي والقطيعة بين الأجيال.

منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس