وباء كورونا الجديد وضرورة تنقيح أحكام القوة القاهرة في القانون التونسي
1. يطرح انتشار فيروس كوفيد-19 تحديات مختلفة منها تحديات اقتصادية وقانونية، تبدو بدورها مستجدة وغير مسبوقة. غير أن هذا الاعتقاد غير سليم لأنها ليست المرة الأولى التي تشهد فيها البشرية أوضاعا استثنائية ميزتها وجود صعوبات في التنقل والعمل وانجاز الالتزامات. فقد تبع حرب العبور (1973) ارتفاع كبير جدا ومفاجئ في أسعار النفط، وتقلص في الامدادات مما أدى إلى شلل كبير في الاقتصاد العالمي، كما أصبح تنفيذ الالتزامات التعاقدية أقرب الى المستحيل، مما ولد نزاعات لا تحصى وتعد، مدارها طلب اعفاء المدين من أداء التزاماته ومن المسؤولية عن عدم التنفيذ أو عن تأخر التنفيذ، وحل آلاف النزاعات التي مدارها طلب الملتزم مراجعة الثمن التعاقدي والزمن التعاقدي. واضطرت المحاكم وهيئات التحكيم إلى اتخاذ مواقف تقلبت بين ثلاث أفكار:
الفكرة الأولى: إلزامية العقد وتطبيق أحكام القوانين المدنية التقليدية التي تص على أن المدين لا يعفى من تنفيذ التزاماته إلا إذا أثبت وجود قاهرة أي استحالة تنفيذ التزامه بشكل مطلق وموضوعي.
الفكرة الثانية: قلب قاعدة الزامية العقد pactasuntservanda إلى العكس والقول إن المبدأ هو عدم الزامية العقد pacta non suntservanda طالما استمرت الظروف الصعبة.
الفكرة الثالثة: اعتبار أن القوة القاهرة لا تعفي من الالتزام وإنما تؤدي إلى تخفيف التزامات المدين مراعاة للإنصاف والعرف والمنطق، وتقاس بقدرها ولا يشترط فيها اثبات استحالة التنفيذ. أما فسخ الالتزام وتحلل أطرافه منه فيكون إذا أصبح تنفيذ الالتزام مكلفا لأحد الطرفين أو مرهقا بشكل يؤدي إلى هلاكه وتحطيمه اقتصاديا. ومن ثمة ظهرت موجة جديدة من التشريعات والشروط التعاقدية، خاصة في العالم الانجلوساكسوني، حيث أصبح هناك تمييز بين مفهومين:
أ- القوة القاهرةforce majeure: وهي تعني استحالة تنفيذ الالتزام، غير أن هذه الاستحالة –وفي ما عدا بعض الأحوال الخاصة- مؤقتة. فالغالب أن ما لا يمكن انجازه اليوم يمكن تنفيذه غدا. وعليه فإن الأثر الرئيسي والعادي للقوة القاهرة هو تأجيل تنفيذ الالتزام وإبطاء التنفيذ وتخفيف المسؤولية، على أن تقاس درجة الحرص في تنفيذ الالتزام حالة بحالة.
ب- الصعوبات الاقتصادية hardship: وهي تحيل إلى نظرية الظروف الطارئة ونظرية الجائحة المعروفة في الفقه الإسلامي، حيث يعفى المدين من أداء التزامه إذا أصبح العقد فاقدا للتوازن بشكل كلي يستحيل معه أن يحقق فائدة دنيا لكلا المتعاقدين، أي إذا أصبح العقد مضرا بأحد الطرفين فقط أو حتى بكليهما بحيث يصبح الغصب على الوفاء بالالتزام مؤديا إلى تدميره اقتصاديا. وفي العقود طويلة الأمد (على غرار عدد من عقود الاستثمار التي ابرمتها الدولة التونسية مع بعض الشركات الاستثمارية الكبرى) تنص العقود عموما على أنه إذا أصبحت العقد تتجاوز بـ15 بالمائة ما هو متفق عليه وما هو متوقع زمن التعاقد، أو أصبحت المردودية (العائد الاستثماري الصافي) أقل بـ15 بالمائة مما هو متوقع فإن العقد يمكن فسخه بسعي من أحد الطرفين، وتحديدا من المستثمر. وتنص نفس هذه العقود على أن القوة القاهرة يترتب عنها تأجيل تنفيذ الالتزامات لا فسخ العقد. وإذا لم يكن التأجيل هو الحل المناسب فإن الطرفين ملزمان بالتفاوض بحسن نية للتوصل إلى تعديل الالتزامات حتى يعود العقد إلى توازنه الأصلي.
2. وبالمقابل، احتفظ القانون المدني التونسي بنصوصه التقليدية التي تعود إلى سنة 1906/1907 مثلما كتبها دافيد صانتيلاناDavid Santillana واللجنة المشتركة. وهذه النصوص لا تعترف للعقد إلا بأحد وضعين: فهو إما نافذ وكامل الأثر ومنتج لجميع آثاره ويترتب عن عدم احترامه بحذافيره تحمل التبعة (المسؤولية المدنية) وإما مفسوخ فينقطع أثره كليا. فهو قانون يقوم على ثنائية الأبيض والأسود، ولا يعترف بوجود منطقة وسطى رمادية.
3. فالفصل 282 من مجلة الالتزامات والعقود ينص على أن:
"لا يلزم المدين بتعويض الخسارة إذا أثبت سببا غير منسوب إليه منعه من الوفاء أو أخره عنه كالقوة القاهرة والأمر الطارئ ومماطلة الدائن".
4. ويضيف الفصل 283 أن:
"القوة القاهرة التي لا يتيسر معها الوفاء بالعقود هي كل ما لا يستطيع الإنسان دفعه كالحوادث الطبيعية من فيضان ماء وقلة أمطار وزوابع وحريق وجراد أو كغزو أجنبي أو فعل الأمير. ولا يعتبر السبب الممكن اجتنابه قوة قاهرة إلا إذا أثبت المدين أنه استعمل كل الحزم في درئه. وكذلك السبب الحادث من خطأ متقدم من المدين فإنه لا يعتبر قوة قاهرة".
5. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على أحكام الفصل 1218 (جديد) من المجلة المدنية الفرنسية مثلما تم تنقيحه سنة 2016 حتى نرى الفارق الذي أصبح شاسعا بين نص ظل عتيقا لا يراعي المستجدات ولا منطق الأعمال ونص حديث أخذ بما تمخض عنه الفكر القانوني العالمي. فقد نصّ الفصل 1218 المذكور على ما يلي:
Article 1218 (Modifié par Ordonnance n°2016-131 du 10 février 2016 – art. 2)
« Il y a force majeure en matière contractuelle lorsqu’un événement échappant au contrôle du débiteur, qui ne pouvait être raisonnablement prévu lors de la conclusion du contrat et dont les effets ne peuvent être évités par des mesures appropriées, empêche l’exécution de son obligation par le débiteur.
Si l’empêchement est temporaire, l’exécution de l’obligation est suspendue à moins que le retard qui en résulterait ne justifie la résolution du contrat. Si l’empêchement est définitif, le contrat est résolu de plein droit et les parties sont libérées de leurs obligations dans les conditions prévues aux articles 1351 et 1351-1 ».
6. فاليوم، أعتقد أنه من الأولويات القصوى للسياسة التشريعية أن يقع تنقيح الفصلين 282 و283 من مجلة الالتزامات والعقود بحيث يقع اعتماد التفرقة بين صورة القوة القاهرة المؤقتة التي يترتب عنها تأجيل تنفيذ الالتزامات وتأخيرها وقبل تنفيذها بشيء من البطء والتأخير (إبطاء التنفيذ)، وبين القوة القاهرة المعفية كلّيا من التنفيذ بسبب استحالته المطلقة، الحالة والمستقبلة، وبين انخرام توازن العقد بشكل فادح بسبب الظرف الطارئ والذي يترتب عنه (أ) واجب التفاوض بحسن نية لمراجعة العقد، و(ب) تدخل القاضي أو المحكم لتعديل العقد عند الاقتضاء.
7. فمقاول البناء الذي تعهد بإنجاز بناية في أجل محدد، أصبح غير متحكّم في عامل الزمن، لأنه مطالب بتطبيق سياسات ابعاد العمال بعضهم عن بعض واحترام قواعد العزل الصحي لعمّاله الذين يشتبه في اصابتهم بالفيروس كما أنه يجد صعوبات جمة في التزوّد ونقل المواد واحضار المعدات خاصة مع فرض حظر التجول لنصف اليوم وغلق الحدود الجوية والبحرية والبرية إما بالكامل أو بشكل جزئي. وهذا الوضع لا يعدّ قوة قاهرة بمفهوم الفصل 282 الحالي لكن من الواضح أنه من غير المعقول تحميل المقاول كامل المسؤولية بسبب التأخر في التنفيذ وتطبيق غرامات التأخير عليه.
8. وحتى الحلول الاجتهادية التي توصل إليها فقه القضاء بناء على أحكام الفصل 243 من مجلة الالتزامات والعقود وشرحها عدد من الفقهاء والدارسين مثل القاضي حسين بن سليمة، فإنها لا توفر الأمان القانوني الكافي نظرا إلى عدم استقرار فقه القضاء على موقف موحد، وعدم وضوح الحل وعدم إقرار مبدأ مراجعة العقد بالتفاوض بحسن نية وغياب آلية واضحة للمراجعة.
9. وعليه، وفي انتظار أن تسنح لي فرصة لتعميق البحث وتحرير مقال مطوّل ومفصّل بالشكل التقليدي، أرى أنه من المستعجل تنقيح الفصلين 282 و283 لتوضيح هذه المفاهيم ووضع النظام القانوني المناسب لكل حالة. فمجلة الالتزامات والعقود صرحٌ قانونيٌّun monument juridique كما هو متفق عليه، لكنها جزء من تراثٍ يحتاج أن نتعهده بالصيانة من حين إلى آخر حتى يظل صالحا لعصره الجديد.
أحمد الورفلّي
محام لدى التعقيب – محكّم (تونس)
- اكتب تعليق
- تعليق