معركة إدلب: هل تضع حدّا للعربدة الأردوغانية فـي المـنطقة؟
»سوريا تدافع عن أرضها، والجيش التركي يعتبر محتلاّ يجب محاربته بأيّ طريقة... وإذا أرادت تركيا حماية «أمنها القومي»، فإنّ هذا يكون في حدودها وليس داخل إدلب. لقد قُتِل جنود أتراك في سوريا وليبيا؟ أليس هذا سببا واضحا لفشل سياسة أردوغان الخارجية التي تحوّلت من صفر مشاكل إلى عداوة الكل. خسارة فادحة».
هذه التدوينة التي اخترت أن أبدأ بها هذا المقال، هي إحدى التدويناتالعديدة التي ازدحمت بها مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلا مع احتدام معركة إدلب، وهي، على بساطتها، تتميّز بمقدار كبير من المنطق الفطري السليم الذي يفتقده العالم في النظر إلى الأزمة المستمرّة منذ سنوات تسع في سوريا الشقيقة.
بالفعل ووفقا لهذا المنطق، فقد كان من المنتظر، بل من الطبيعي أن تندلع معركة إدلب التي تحوّلت خلال السنوات الأخيرة وبالتحديد منذ سنة 2018 أي منذ اتفاق «أستانا» إلى «ملاذ» تجمّعت فيه فلول المتمرّدين على الدولة السورية والجماعات المتطرّفة والتنظيمات الإرهابية...
فمنذ شهر ديسمبر الماضي شنّ الجيش السوري هجوما بريّا واسع النطاق على هذه المحافظة ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة بحكم موقعها على الطريقين السريعتين بين حلب ودمشق من ناحيــــة، وبينها وبين اللاذقية من نـاحية أخرى.
وقد تأجّج الصّراع على هـذه المدينة وتشعّب بعد أن تمكّن الجيش السوري وحلفاؤه من السيطرة على مساحات واسعة تقدّر بنحو 1800 كيلومتر مربع، في أرياف حلب وإدلب وحماة، فتدخّل الجيش التركي ليدعم «الفصائل» الموالية له، ويعرقل تقدّم القوات السورية.
على أنّ ثائرة تركيا ثارت، وأصيب رئيسها رجب طيب أردوغان بحالة هيجان حقيقية على إثر مقتل العشرات من الجنود الأتراك في إدلب إثر قصف تعرّضوا له من قبل الطيران السوري، فأرغى وأزبد وهدّد وتوعّد، وأقدم، لأوٌل مرّة، وخلافا لما جاء في اتّفاق «سوتشي»، على استخدام قوّاته الجوية، في إطار عملية عسكرية أطلق عليها اسم «درع الربيع»، وهو ما أثار حفيظة موسكو التي أكّدت أنّها لن تسمح لأنقرة باختراق المجال الجوي السوري، وأنذر، في لحظة ما، بإمكانية اندلاع مواجهة علنيّة مباشرة غير محسوبة العواقب بين الأتراك والروس... لولا أنّهما خيّرا نزع فتيل التوتّر حفاظا على مصالح كليهما وبعضهما البعض...
وفي هذا الإطار بالذات تنزّل اللقاء الذي جمع بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس رجب طيب أردوغان في موسكو يوم الخميس 05 مارس 2020 والذي أسفر عن اتفاق الطرفين على تسوية للوضع في إدلب تضمّن النقاط الأساسية الثلاث التالية:
1 - وقف جميع الأعمال العسكرية على طول خط التّماسّ في منطقة خفض التصعيد بإدلب اعتبارا من 00:01 من يوم 6 مارس عام 2020
2 - إنشاء ممرّ آمن بعمق 6 كم شمالا و6 كم جنوبا من الطريق السريع M4 ليتمّ الاتفاق على معايير محدّدة لعمل الممرّ الآمن بين وزارتي الدفاع بالاتحاد الروسي والجمهورية التركية في غضون 7 أيام.
3 - بدء الدوريات التركية الروسية المشتركة يوم 15 مارس 2020 على طول الطريق السريع M4 من بلدة ترمبة الواقعة على بعد كيلومترين من مدينة سراقب إلى منطقة عين الحفار.
وإضافة إلى ذلك، نصّ الاتفاق الذي أطلق عليها اسم «البرتوكول الإضافي للمذكرة حول إرساء الاستقرار في منطقة إدلب لخفض التصعيد والمؤرخة في 17 سبتمبر 2018» على أن ّالجانبين أعادا التأكيد على التزامهما القويّ بسيادة سوريا واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية، كما أكّدا، من جديد، تصميمها على مكافحة جميع أشكال الإرهاب، والقضاء على جميع الجماعات الإرهابية في سوريا على النحو الذي حدّده مجلس الأمن، مع الاتفاق على أنّ استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة.
ومن ناحية أخرى شدّد الجانبان على أنّـه «لا حلّ عسكريا للنزاع السوري»، وأنّه «لا يمكن تسوية النزاع إلاّ من خلال عملية سياسية يقودها وينفّذها السوريون بأنفسهم بدعم الأمم المتحدة وفق القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي».
وعلى صعيد آخر، أكّدا على أهمية منع المزيد من التدهور في الحالة الإنسانية، وضمان حماية المدنيين، وتقديم المساعدة الإنسانية لجميع السوريين المحتاجين دون شروط مسبقة، ودون أي تمييز، وكذلك منع تهجير الأشخاص وتيسير العودة الآمنة والطوعية للاجئين والمشرّدين داخليا إلى أماكن إقامتهم الأصلية في سوريا.
وبالرغم من أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال إثر اللقاء «إننا توصّلنا مع أردوغانإلى حلول مصيرية حول سوريا»، بينما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان «إنّنا أبرمنا مع بوتين تفاهما تاريخيّا حول سوريا»، فإنّ الملاحظين يرون أنّ الاتفاق الذي عرقلت واشنطن يوم الجمعة 06 مارس 2020 إصدار بيان يدعمه في مجلس الأمن الدولي، لم يتمّ التوصّل إليه إلا بمشقّة كبيرة، وهو يطرح الكثير من الأسئلة حول إمكانية تطبيقه وكيفيّتها، لا سيّما وأنّه يحتوي على الكثير من المتناقضات التي ستجعل ترجمته على الميدان أمرا صعبا.
وما من شكّ أنّ الاتّفاق استطاع أن يهدئ، مؤقّتا، حالة «الهيجان» التي انتابت الرئيس التركي، غير أنّ هذه الحالة يمكن أن تعاوده في أي وقت، لأنّ مسلسل الصراع في سوريا وعليها مرشّح لأن يشهد، على المَدَيَيْن القريب والبعيد، المزيد من التطورات الدرامية، خاصة في ظل استمرار «العربدة الأردوغانية» التي امتدّت، خلال الأشهر القليلة الماضية، من جوار تركيا المباشر إلى الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسّط...
إنّ تركيا أصبحت أسيرة سياسة العداء والاستعداء التي ما فتئت تنتهجها منذ سنوات عديدة، مع جيرانها وشركائها فضلا عن خصومها، ولذلك فإنّ الرئيس رجب طيب أردوغان سيجد نفسه مضطرّا إلى الهروب إلى الأمام، لا سيما وأنّه، كما يرى الملاحظون، بات يعاني من حالة عزلة داخلية وخارجية مؤكّدة ومتزايدة.
ففي الدّاخل، أظهرت تطوّرات معركة إدلب أنّ الجبهة الداخلية التركية التي سبق أن اهتزت على إثر محاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس رجب طيب أردوغان (16 جويلية 2016)، باتت تعاني من تصدّع حقيقي كان من أبرز تجلياته الاشتباك الذي جرى في البرلمان التركي بين أنصار الرئيس وخصومه على إثر «الهجوم الشرس والعنيف» الذي شنّه عليه بعض نواب المعارضة بسبب مقتل الجنود الأتراك في إدلب.
وتجدر الملاحظة في هذا السياق أنّ كمال أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهورى أكبر أحزاب المعارضة التركية، انتقد بشدة سياسة الرئيس رجب طيب أردوغان الخارجية المُغَامِرَة الخاطئة، مؤكّدا أنّ التدخل التركي في سوريا كلّف تركيا 40 مليار دولار، وأدّى إلى نزوح 6.3 مليون سوري إلى الأراضي التركية، كما أنّ التدخّل في ليبيا جعل من تركيا طرفا في النزاع الليبي وأفقد كلمتها وزنها في المنطقة.
أمّا في الخارج، فيبدو أنّ سياسة الرئيس رجب طيب أردوغان أفقدته ثقة الجميع، أصدقاء وخصوما، فهو خسِرَ ثقة الولايات المتحدة الأمريكية بتقاربه مع روسيا، وباشترائه منظومة الدفاع الجوي الروسية «إس 400»، مما أدّى إلى فشله في الحصول على نظام الدفاع الجوي الأميركي «باتريوت»، وفي إقامة منطقة حظر الطيران التي طالب بفرضها في شمال غرب سوريا، وهو خسِرَ ثقة روسيا بتملّصه من تنفيذ الاتفاقات المشتركة السابقة، وخاصة اتّفاق «أستانا» الذي كانت تركيا التزمت بموجبه، لكن دون أن تفي بذلك، بتسهيل إعادة فتح الطرق الدولية السريعة الرئيسة في إدلب، وترتيب انسحاب «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقا) وأسلحتها الثقيلة من المنطقة منزوعة السلاح المزمعة، كما خسِرَ ثقة الاتحاد الأوروبي أولا باستخدامه ملفّ اللاجئين السوريين للمتاجرة به ولابتزاز الدول الأوروبية، وثانيا بإبرامه اتفاق تحديد الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية الذي أثار احتجاجات اليونان والعديد من البلدان المتوسطية الأخرى.
على أنّ الأدهى من ذلك أنه أدمن على استخدام المتمرّدين السوريين وعلى التعاون مع الجماعات المتطرفة والإرهابية في تحقيق أهداف أجندته الجيو-سياسية في سوريا، والآن في ليبيا التي أرسل إليها الآلاف من عناصر ما يسمّى بالجيش الوطني السوري لمناصرة حليفه الجديد فائز السّراج رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية ومقاتلة خصمه الماريشال خليفة حفتر والجيش الوطني الليبي.
وهكذا لم يعد أحـد يصدّق أنّ تدخّلاته العسكرية المتكرّرة، وتــوغّلاتـه المتتابعة في الأراضي السورية تأتي، كما يزعم، من منطلق إنساني، ومن حـرصه على مـا يسمّيه تلافي حدوث كوارث إنسانية جديدة، بدفع المزيد من السـوريين إلى النزوح واللجوء إلى الدول المجـاورة وخاصّة إلى بلاده.
وفي نَفْيِ هو أقرب إلى الإثبات، يحاول الرئيس رجب طيب أردوغان أن يبرّئ نفسه من نيّة اقتطاع أيّ أراض من سوريا، أو إقامة أيّ قواعد مذهبية أو إستراتيجية على ترابها الوطني، غير أنّ النتيجة النهائية، إذا تمكّن فعلا من إقامة المناطق الآمنة التي شرع في العمل على إنشائها فيها، ستكون تكريس احتلاله لأجزاء من الدولة السورية وبالتالي تقسيمها وإخراج عدة مناطق من دائرة نفوذها.
وإذا تأتّى له أن يحقّق أهدافه في سوريا، فإنّه سيؤسّس بذلك لقاعدة عمل جديدة في العلاقات الدولية، إذ سيكون بإمكان أي دولة تستشعر خطرا قادما إليها من دولة مجاورة (وقد تكون هي التي تقوم بصنعه) أن تقوم، تحت ذريعة حماية أمنها القومي، باحتلال أراضيَ من تلك الدولة وإقامة مناطق عازلة عليها من أجل تأمين سلامة حدودها...
وبقطع النظر عن أنّ هذا النهج الأعوج الأهوج يتقاطع مع نهج إسرائيل في علاقاتها بجيرانها العرب، وأنّ المخططات التركية تلتقي مع المخططات الأمريكية الغربية الأطلسية الإسرائيلية في المنطقة العربية، فإنّ الأمر المؤكد أنّ سوريا لا يمكن بحال من الأحوال أن تقبل به، وما ريب أنّها ستواصل الحرب لتحرير كل شبر من أراضيها الخاضعة للاحتلالين التركي والأمريكي، ولن تضع الحرب أوزارها إلا عندما تسحب القوى الأجنبية التي دخلت سوريا بشكل غير قانوني قواتها منها...
إنّ هذا أمر لا مفرّ منه، غير أنّ الرئيس رجب طيب أردوغان، على ما يبدو، مغترّ بأنّ ميزان القوى بينه وبين سوريا راجح لفائدته...
وما من أحد يجادل في أنّ الجيش التركي، متفوّق من حيث العدة والعتاد، على نظيره السوري الذي أنهكته، علاوة على ذلك، السنوات التسع الأخيرة بما شهدته من قتال شرس ضد المتمرّدين السوريين وضد التنظيمات الإرهابية التي اجتاحت البلاد من كلّ صوب وحدب... غير أنّ التاريخ وتجارب الشعوب علمتنا أنّ هناك بونا شاسعا بين جيش يقاتل على أرضه من أجل أرضه وعرضه، وبين جيش مُعْتَدٍ يحارب على غير أرضه، من أجل أهداف لا يؤمن بمشروعيتها في أعماقه.
إنّ القوّة المجردة لا تكفي لفرض إرادة مالكها على شعب آخر، غير أنّ هذه الحقيقة تغيب عادة عمن تأخذه العزة بالإثم، وتغريه قوّته بالعربدة وهذا هو حال الرئيس رجب طيب أردوغان الآن...
فهل تدفعه معركة إدلب (ومعها معركة طرابلس) إلى مراجعة سياساته والرجوع عن «طموحاته» المجنّحة؟ وتعيده بالتالي إلى جادة الصواب؟
إنّنا نأمل ذلك... حقنا لدماء شعوب المنطقة، وتجنّبا لحروب لن يجني منها الجميع إلا الويل والثبور...
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق