تحية وفاء من إبراهيم شبّوح إلى المناضل الهادي البكّوش
ما عساني أقول في صديق عزيز جمعني به بعد التفرغ النظر في تجارب العمر المديد والدخول في مَرْحلة الحكمة والتأمّل، أرقب فيه مطابقة صنع الإنسان في الأزمنة، وهو يتلمّس نماذجَ من دروس القرن الذي ولد فيه، وتفاعل معه نحو سبعة من عقوده بوعي الملتزم لقضيّة ومبدأ.
تعلّقه ببورقيبة
كنت أراهُ من بعيد لا تشدّني إليه رابطة قُرْبى في زمن العَمل والإنجاز والضّجيج، كان يتلفّح بالصّمت ويتدرج في مراتب القِيادة، أعلم أنّه نشأ في بيئة وطنيّة مناضلة التزمت بمقارعة الاستعمار والعمل على التخلّص منه، وفي ظروف المجابهة والتّصادم لاقت الأسرة محنة الحريات المقيّدة والأَسْر أو السّجن والمحتَشَد، وصاغ هذا المنحى مَسيرتَه التي اتّحد في قوامها الداخلي عنده التمازج الذي يشبه الحلول بين وَطنٍ وقائدِ شَعْب، كان تعلّقه وارتباطه بالقائد الحبيب بورقيبة ينمو بعد رؤيته الأولى التي شاهده وهو يافع في قَرْيته حمّام سوسة يجتمع بالأنصار يُوجّه ويحدّد ما يصنع كما يفعل القائد البصير بإعداد مراحل معركته. كان بورقيبة في تلك الحقبة يَجْهدُ أن يربط في دعوته بين الإنسان والأرض التي هي الوطن، ويجعلهما في مواجهة العدوّ الذي يجمع بين المستعمر الوافد الحَديث بقُوّته المستعْلِية والمسيطرة على خيرات الأرض والاستعلاء على سكّانِها أصحابِها.
إن وضوح طبيعة هذه القضية في ذهن القائد وأنصاره هي بداية التوجّه المحكم الموصل للغايات، ولكن سلّم الوصول صَعْب المرتقَى، وهو المَعْبَر الذي لا بدّ منه؛ كانت تونس إثر الحرب العالمية الكبرى التي أرهقت الوطن الذي ليس طرفًا مباشرًا فيها، قَدّم فيها من دماء وأرواح أبنائه ما يقدّمه المشارك، كان ذلك بالتّجنيد ودفع شبابنا إلى ساحات المجازر في أوروبا، وما أسقطته المعارك التي دارت على أرضه في جنوب تونس ووسطها وشمالها؛ ثم انهزم المحور وعادت قبضة المستَعْمر الهارب قويّةً بأنصاره، فأطاحَ برمز السّيادة ملك البلاد، وأبادَ كل من طاردَتْه شُبْهَةُ التّعاون مع جيش المحور، وأهين أعيان الوطنيّين في محتشدات المنتوزون بسوسة وغيرها، وبقي ذلك النّفس الخافت في القيادات التي خَرجت من الكارثة بطُرق شتّى معروفة، وبدأت تلتئم وتتلاقى لإعادة الروح إلى الوطن المجْهَد والحائر، والذي أدركه السّكون وشمله الخوف منذ حادثة 9 أفريل وغياب قياداته في السجون. وتسلّل القائد الثائر الملتهب حماسًا ويقظة الحبيب بورقيبة بعد فكاك أسره إلى حيث لا سُلْطان لعدُوّه عليه، وحيث اتخذ لنفسه منبرًا آمنا يتكلّم ويوجّه منه؛ وقامت قيادات قويّة أو روحٌ مستأْنَفة تقاسمَت أدوارَها لإعداد الإنسان وبناء طاقته ليتحمّل تبعة مسؤوليته في آتي الزمن.
تدركُني الشّفقة الخانقة أحيانا وأقول: ما أضيَع سِيَرَ الكبار المتميّزين الذين يختصرون تسعةَ عقودٍ أو قرنًا من أعمارهم في صفحات معدودة اسمها المذكّرات، فما عسى أن يذكر وأن يَقول، أليس صفحة المذكرة هي التّوثيق لجهد دخل في بناء قضيةٍ أو هيكل، وأَثّر في تغيير أو تطوير حياة، فكيف نلتمس هذا في حياة رائد من الرواد.
مدرسة الحزب الحر الدستوري
الأستاذ الهادي البكوش حصيلة حَياة وطنيّة سياسيّة تواصلت حلقاتها بلا انقطاع ولا اقتطاع، ونشأ فيها على مدرسة واحدة هي مدرسة الحزب الحرّ الدستوري، الذي هو معبر الوادي ذي التيّار الوطني الذي خط مجراه منذ دخلَ جسمٌ غريبٌ أرضَ الوطن، بدأ يخطّ هذا المجرى بالذين جابهَتْهم فرنسا بعد إعلان حمايتها بالمنافي والمُطاردة: محمّد السنوسي وأضرابُه، ثم جيل الشّباب التونسي الذين كان من رجاله الصّامدين علي باش حانبة، وفي هذه المدرسة ظهرت قيادة مكتملة الأدوات هو عبد العزيز الثّعالبي الذي تلقف المشعلَ واندفع به مع تيّار ذلك الوادي حتى أدركتْه رحَى الزّمن والشّيخوخة والمرض وطُويَ بساطُ مجالِسه العاملة على نشر الوعي بما نحن فيه وما نطمح له. أدركه الإعياء وغيّبه الفناء سنة 1944، واستمرت حياة الشعلة لم تسقط ولم تنطفئ تحملُها سواعدُ قويّة ينطلق بها للأمام الشّاب الحبيب بورقيبة وأصحابُه؛ وكانت الحركة الوطنيّة بعد الحرب تُسَيَّرُ في داخل الوطن عند غياب الرئيس بقيادة الزعيم الكبير صالح بن يوسف كما يسمَّى في مراتب القيادة الحزبيّة، ويسنده من جيل الزعماء: المناضل الكبير المنجي سليم الذي كان يتحرّك داخل المملكة وقتها يؤَسِّسُ الشُّعَبَ الحزبيّة ويشرح وظائفَها ويربطُها بإدارة الحزب التي تُوالي الارتباط والاتصال بمنشوراتها. واتّسعت نَظرة الحزْب الجديد لتضمّ إلى الديوان السياسي اثنين من مناضلي الزيتونة ومتميّزيها هما الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور ومحمد الشاذلي بلقاضي، واتّجه الحزب إلى تجميع الشّعْب ضمنَ وحدات نوعيّة تشعرهم بوحدة مجالهم ويكون للحِزْب كلمتُه فيهم، فأسّس الاتحاد العام التونسي للشغل، واتّحاد الفلّاحين، واتحاد الصناعة والتجارة، وهكذا كان توثيق عُرَى التّلاحم بين كلّ أصناف وطبقات المجتمع.
عايش الأستاذ البكوش كلّ هذه التحوّلات التي جَدّت وعايَش قيامَها وأظلَّتْه، فقد كان والده كما يذكر في مذكراته كاتبا عامّا لشعبة حزب الدستور القديم في بلده حمام سوسة ثم تحول إلى الدستور الجديد سنة 1934، ثم أصبح أول رئيس للشعبة الدستورية، وعرف الشاب الناشئ الزّعيم الحبيب بورڨيبة حيث قضَى ليلةً وهو في طريقه إلى القاهرة، فأثارَ دهشتَه وإعجابه وانجذَب إلى حديثه وبيَانه، وأصبحت تلك الصّورة المشرقة مرتسمةً في عقله مشدودًا إليه قائدًا وزعيمًا.
ولَمّا نضجَ الشاب الملتزم المتطلع أصبح مُدافعًا عن اختيارات الزّعيم في معركة التحرير، ومقاومًا لمناوئيه، وعندما سافر طالبًا في فرنسا كان ملتزمًا بالعمل والمسؤولية الطالبية الحزبية و"اقترب من الزعيم في إقامته الجبرية في أميلي Amilly وشانتيلي Chantilly طيلة مفاوضات الحكم الذاتي والاستقلال" [المذكرات].
و"عمل تحت إمْرته مدّة طويلة في الحزب لما كان مسؤولا جهويّا للحزب بسوسة، ومديرًا مساعدًا للحزب، وواليًا، وسفيرًا، ومديرًا للحزب، ووزيرًا، وكان الرئيس لا يرفض طلبه للمقابلة، وكان ينفرد بلقائه ويتحادث معه في قضايا الدولة ومختلف المسائل [المذكرات].
يصف الأستاذ الهادي البكوش في مذكراته الرئيس بورڨيبة كيف يراه وما ناله منه، يقول: "هو رجل موهوب مثقف وخطيب مؤثر، وله استراتيجية واضحة لمعركة التحرير الوطنية، ونجح في توحيد الشعب التونسي وتعبئته من أجل القضية الوطنية، وهو أول الزعماء الكبار الذي زعزع عبوديّة الاستعمار الفرنسي في إفريقيا، وقاد بنجاح معركة التحرير وبناء دولة محترمة وإقامة مجتمع عصريّ.
وقد خضَعْت باسْمه لمظالمَ، سيّما لما أُوقفتُ سنة 1970 عند محاكمة التعاضد مع أحمد بن صالح، ولم يكن هو الذي أساءَ إليّ ولكنها بطانته، ولم أحقد عليه شخصيّا أبدًا لأنني كنت أعلم أنّه مريض، وقد كانت له الفرصة فيما بعد لتجديد ثقته في شخصي وتكليفي بمسؤوليات هامة".
ويذكر الأستاذ الباهي الأدغم في مذكراته عن حقبة التعاضد، أن الهادي البكوش الذي قدمه أحمد بن صالح للرئيس، هو مناضل دستوري منذ بداية شبابه وزمان دراسته في السّاحل، ثم في فرنسا، وهو ذكيّ منضبط [ص531].
مرض بورقيبة
ومع هذا التعلّق والالتزام نحو الرئيس، فقد كان يُدرك ويحلّل ويَرى أنه في سنواته الأخيرة أصبح شيخًا مريضا وقابلا للتأثّر، وتراجعت قُواه مع الأيام التي امتدّ بها عمره، وكان تعرض لجلْطة قلبيةٍ أصيب بها سنة 1967 مع مشاكل في الكبد، وتَناوُلِ الأدويةِ المقاومةِ للانْهيار، والمهدئات لمقاومة الأرق، واضطرّ للإقامة الصحيّة للتّداوي في باريس وجنيف وبون وواشنطن، وأن تجربةَ التّعاضد التي دافع عنها بشدّة طوالَ سنتين كان له أن يعالجَها بطرق مختلفة لو كان في ظروف صحّية ذاتية، ولا يتوجه للقَضاء لتطهير وضع سياسي، واتّخذ من أحمد بن صالح كبشَ فداء، وأصبح يرغب في إزالته [المذكرات].
إبعاد بورقيبة
وتغير سلوك الرئيس بالقرارات المرتجلة وما عدّده صاحب المذكرات من شَواهد تدعو الوطنيين للعمل على التغيير قبل أن تَسْقط الدولة بصورتها التي بدأت ترسمُ معالمها عند الشّعْب؛ وتَداَفَعَ المتهافتون على الحكْم المتهالِك بحُكْم الوراثة والعصبيّة، فاتّجه القرار لإبعاد الرئيس عن المسؤوليّات وتجنّب العُنْف ومُعاملته بكلّ احترام وتَقْدير، فهو المجاهدُ الأكبر والمحرّر للوَطن وأبُ الشّعب ومؤسّس الجمهورية، وتونس التي هو رَمْزُها وممثّلها أصبحت على جرف الانهيار، فلها علينا حقّ تَلافي إنقاذها بالوسائل التي تَصون دماءَ أبنائها وتحفظُ الرّجل الرّمز من كل ما يؤذيه، وكان يوم 7 نوفمبر يوم حدث التحوّل الذي أنجز من غير مصاعب لأن الشعب وإطارات القيادة سئموا من نظام لم يعد قادرًا على التّجاوب مع تطور المجتمع، فرغم تقديرهم الكبير للرئيس الذي قاد شعبه بعقيدة وشجاعة، وبَنَى بتبصّر وحكمة دولةً عصريّة متطوّرة، فإنهم كانوا يأملون في تخلّيه عن الرئاسة، ولم يكونوا جميعهم من المعارضين الغاضبين، فأكثرهم إطاراتُ حزبه وأنصارُه المخلصون، ولكنهم لم يعودوا مقتنعين بمزيد استمراره في الحكم.
استهلّ بيانُ السابع من نوفمبر 1987 الذي كتَبه الأستاذ الهادي البكوش بعنايته ودقّة وتجربة بَصيرٍ متمكّن خبيرٍ بالنّظام السّياسي والإداري للدّولة وتحرّكِها في المجالات المترابطة، وكان بين صاحبيه الضامنين بوسائلهما إنْجازَ المهمّة- إذا لم تُبَاغَتْ وتفشَلْ-، المدنيَّ الوحيدَ الذي حمل روحَه على كفِّه حتّى يُسهم في الخروج بالوطن من أزمته ويحفظَ قيمَ النّظام الذي نشأ عليها في حزبه، فاستهلَّ بيانَ التّحول بلغةٍ ناعمة عن الارتباط والوفاء للزّعيم بورقيبة والتأكيد على خصاله المقدرة، وقد عملوا تَحت قيادته سنينَ طوالا في مختلف المستويات في الجيش وفي الحكومة بثقة وإخلاص وتفانٍ. وفي البيان آفاقٌ للديموقراطية وتعدّد الأحزاب وسيادة الشعب ولا رئاسة مدى الحياة ولا لخلافة آلية لا دخل للشعب فيها. وأن الحركة قامَتْ بدافع الواجب الوطني لتتواصل مَسيرة تونس الطّموحة التي غدَت متعثرة مع خُطى القائد الكبير الذي لم يعد قادرًا على الاضطلاع بمهام رئاسة الجمهورية.
ونجحت خطّة التحوّل ولاقت التأييدَ الواسع ولم يحدث ما يعبّر عن الرّفض، كان أول ما تَولّاه في اليوم الأول الاتصال بسُفراء تونس وإعلامهم بالتغيير، واتصل بديوان رئيس الجزائر، وليونال جسبان Lionel Jospin الأمين العام للحزب الاشتراكي وتحادث مع جاك شيراك، ومع أغلب الشخصيات السياسية التونسية، وصاحَبَ الرئيسَ الجديد إلى مجلس النواب ليؤدّي اليمين الدستورية، وعُيِّنَ وزيرًا أولَ ترأّس وزارةَ كفاءات شرعت فورًا في تجسيم الدعوة المعلن عنها، وكان في الأشهر الأولى مشاركًا في عمل الرّئيس الذي يستشيره في كلّ المواضيع ويحضر أغلب مُقابلاته، ويذكر في مذكراته "أن عمل الدّولة كان مواصلةً لعمل بورڨيبة الذي بقينا متشبّثين به لإصلاح خَلَل الماضي ووَضْع نهاية لما بدَر آخر حكمه، والقيام بالرّسالة المتمثّلة في الرّفع من المستوى الوطني وإيجاد الملاءمات الضروريّة وفَتْح الأبواب الواعدة لشعبنا وإعطاء طموحات جديدة لشبابنا".
البكوش وزيرا أوّل
وأخذ طيلة عمله في الوزارة الأولى يَعْمل على تجسيم المصالحة الوطنية، فأُطلق سراح كل أسرى الرأي بمن فيهم المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبّد، ولم يقع متابعة أعضاء المجموعة الأمنية التي أوقفت لانقلاب 8 نوفمبر 1987، وأرجعت شخصيّات سياسية كانت في المهْجر بعد أن أجّلت الأحكام ضدّهم، مثل أحمد بن صالح ومحمد المصمودي الذي كان الابن الروحي لبورڨيبة، وأصبح معارضًا، وقد أسهم في تحسين العلاقات مع القيادات السعوديّة، وعادت وسيلة بورڨيبة التي غابت بعد طلاقها، وعادت أسرة الزعيم صالح بن يوسف بعد منفى طويل وأُرْجع للمرحوم اعتبارُه وأعيد دفنه في مربّع الزعماء بالجلّاز، وأعيد قُضاةٌ معاقبون إلى وظائفهم؛ وفي أقل من سنة واحدة لم يَبْقَ في البلد سجين سياسي، حيث حرّر منهم نحو ستة آلاف، ولم يسجَّل أي إيقافٍ بسبب الفكر، ولم ينفّذ أي حكم بالإعدام.
واستقامت العلاقات بين السلطة الجديدة وقادة حركة الديمقراطيين الاشتراكيّين، وتحسّنت العلاقات مع الإسلاميين، وأُلغيت الرّئاسة مدَى الحياة، وأُرجعت الخلَافة الوقْتيّة لرئيس مجلس النواب، وأُلغيت محكمةُ أمن الدولة ووظيفةُ وكيل الجمهورية، وقُلّصت مدّة الإيقاف التحفّظي، وصودق على اتّفاقية الأمم المتحدة ضدّ التعذيب، وحدثت المصالَحةُ مع رابطة حُقوق الإنسان التي أصبحَ لها حقّ مواصلة نشاطها بكل حريّة وبلا قيود، فعقدت مؤتمرها، وتولّى حسيب بن عمار أوّلُ باعثٍ للرّابطة إدارةَ المعهد العربي لحقوق الإنسان.
كان الوزير الأول بتجربته وحنْكته يُعالج الأرضيّة المضطربةَ بما يحقّق السّلم الاجتماعيّ ويَدْفع للمضيّ إلى الأمام، فتبنّى النّظامُ الجديدُ فكرةَ الميثاق الوطني الذي "دُعيَ له كلّ مكوّنات المجتمع تتويُجا للانفتاح السياسي الذي يضعُ حدًّا للماضي ويرتقي إلى المصالحة الوطنية الشاملة ويُشرّع لهدنة عامة. وترأّس اجتماعات هذه الحركة وتولّى مهمّة المقرّر العام محمد الشرفي، وتمّ إعلان الميثاق والموافقة عليه في جلسة مشهودة يوم 7 نوفمير 1988، وتضمن الميثاق أنّه "تركيزٌ للمبادئ التي جاءت في بَيان السّابع من نوفمبر المعبّرة عن طموحات الشعب، وضَمان حياة كريمة ومتطورة مرتكزة على الديموقراطية والتعدّدية وسيادة الشّعب وعلويّة القانون". ووقّع عليه كل ممثّلي الحركات السياسية والثقافية بما في ذلك الإسلاميّون.
وحصَلت المصالحة النّقابية وتوطّدت العلاقات مع الأجوار الجزائر وموريطانيا؛ وعاد التقارب مع ليبيا، وتحسّنت العلاقات الخارجية مع القُوَى الكبرى والدّول الأوروبيّة؛ ولم يفتَر الوزير الأول عن معالجة كل الجوانب الباهتة من وضع الدّولة والمتصلة بالسّلم الاجتماعي، والمضيّ في الانفتاح السّياسي، وتحسين العلاقات مع البلاد العربية والإسلامية. لقد كانت الحكومة الأولى بوزيرها الأول تتحرّك بهمّة وطنية دون توقّف أو انقطاع. واستعادَت الدّولة منزلتَها ومكانتَها الدوليّة، وأنجزت إنجازاتٍ مهمة في السّياسة والاقتصاد.
القطيعة بين بن علي والبكوش
في آخر هذه المسيرة القصيرة- رغم نتائجها الكبيرة- أصبح طريقُ العمل غير معبّد، فقد ظهرت ظواهرَ تنبئ أن السِّعايَة أخذت طريقَها للتحرّك، ودبَّ تضخّم "الأنا" يأخذُ بروح القِيادة الجديدة التي جمعت بين يديها كلَّ قوى السّلطة، ويزرَعُ الشكّ فيما وفيمَنْ حولَه بدءًا بالوزير الأول، فبدأ في استبعاده التّدريجي، وآل الأمرُ بينهما إلى الجفاء، ثم تَمّت القطيعة يوم 27 سبتمبر 1989 (بعد 28 شهرًا من التحول).
نشاط في الداخل والخارج
لقد شرح سي الهادي موقفَه بعد هذا التّقاعد وهذه التّجربة، وعلى طريقته في التّحليل اختارَ الأسْلَم حتّى لا يَجْعَل الموقف الشخْصيّ هو المسؤول عن ردّ الفعل؛ ومن ذلك التاريخ إلى انتهاء حكم الرّئيس لم يُقابِلْه غير مرتين لأسباب ومهمات اختاره لها، وظلّ يُدْعَى في المناسبات الرّسمية مع كبار المدعوّين، ولم تُرْفع العيون الرّاصدة عن مُتابعته ومراقبة عَلاقاته. واختطّ لنفسه نشاطًا في الداخل والخارج انطلق فيه إلى آخر أيّامه رحمه الله.
كتبتُ هذه الكلمة بَعْد أربعين يومًا على رَحيله، كتبتُها- وأنا مُجْهَدٌ- لواجب الوَفاء لصديقٍ عرفتُ من خِصاله وقُدراته الفكريّة وتجربَته العميقة لمجتَمعه وأمانَتِه ما يستحقّ التقدير. إنّ هذه الكلمة هي خواطر مُتباعدة وليست ترجمةً للرجل، فالخطوطُ الكبرى لترجمته سَطّرها بنفسه في مذكرّاته على وَجْه الاقتضاب؛ وآملُ بدواعي الوفاء أن أخصَّ مَزاياه بتحليل خاصّ فيما أتفرغ له من "خواطر الذاكرة"، فقد توثَّقت الصِّلةُ به بعد انفصاله عن الوزارة، وأصبح عضوًا عاملاً في المؤسّسة التي كان لي شرف رئاستها في المملكة الأردنية الهاشمية: المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية والذي يجَمْع مائة عضوٍ عاملٍ منتقين من بين كبار شخصيات العالم الإسلامي الواسع، من عُلماء وفقهاء ومفكرين ورجال قانون ورجال دولة، مثل أساتذتنا وشيوخنا الكبار: سمو الأمير غازي بن محمد، وعبد الهادي أبو طالب، وعبد الهادي التازي، وأحمد طالب الإبراهيمي، ومحمد أحمد الشريف، وأحمد كمال أبو المجد، وحمد الخليلي، وأكمل الدين إحسان أوغلي، وجاويد إقبال، وحسن حنفي، وخالد الكركي، وسيد حسين نصر، ومحمد العطاس، والصادق المهدي، وعباس الجراري، وعبد السلام العبادي، وعبد الكبير المدغري، وعبد الكريم غرايبة، وعبد الله بن بيّة، وعبد الله يوسف الغنيم، وسليم العوّا، وعدنان البخيت، ومحمد علي تسخيري، ومراد هوفمان، ومصطفى تسيريتش، ومهدي محقّق، وعبد العزيز الدوري، وصالح العلي، وثروت عكاشة، ويحيى بن جنيد، ويوسف القرضاوي، وبشّار عوّاد معروف، وعبد الرحمن سوار الذهب، والهادي البكوش. وفي اجتماع هذه النخبة الفكرية من الرّجال الذين تجمعهم رحابُ المؤسسة ويتحاورون في المحاور المهمّة لفهم ودراسة وتطوير ما يتعلّق بالعالم الإسلامي، كنّا نَسْمَر أسمارَ بحث في جماعاتٍ صغيرة حولَ قضايا غامضة نَخْتارها للمراجعة، وكنتُ خاصة أتابع تَفكيرَ سي الهادي وحُسن استماعه، والسؤال عمّا لا يتّضح له، يَتوقّف للإشارة إلى النّماذج المُشابهة التي يَعْرفها للإثراء. وكان يتميّز بدقّة التّحليل لموضوعه، وإدْخال كلّ العوامل المؤثّرة، وتحديد دَرجات التأثير لكلّ عامل، وتَصْوير ما تُؤدي إليه العمليّة، والإلمام الدقيق بكل الجوانب وإدراجها كبُرت أو دقّت، ويتحدّث بفكر غير منفعل ولا متوتّر، وإنّما يُخضع قضيتَه دائما للمَنْطق، ويرتكز على نَقْد المعطيات قبل اعتمادها في بناء تَصوراته، ويصلُ بكل ذلك المنهج الذي يلتزم به إلى اسْتشرافٍ قريبٍ أو مؤكد الحدوث.
وفيّ، صبور، كتوم
يتميّز الرجل بصفات خُلقية نَبيلة، فيها الوَفاءُ لما يؤمنُ به، ويحبّه ولأصحابه الذين يُؤثرهم، ولا يَسْتسلم لرأي لا يَرْجَح عنده، والصّبر على الأذَى فلا تراه شاكيًا أو متذمّرًا، قويّ الفراسة في محدّثه كأنّما يقرأ فيه الصفحة المخفيّة، يتأثر لأحوال الضّعفاء ويُساعدهم بماله وجاهه، كتومٌ لما يُسْتودع من أسرار، حقّق لنفسه علاقات احترام وتقدير ظلّت تُلاحِقه إلى آخر حياته، سَهْل التواصل مع الناس من غير كبْرٍ، ويصدق فيه قول أبي تمام:
فتًى كان عذْبَ الرُّوح لا عن غَضاضةٍ ولـــــــــــكــنّ كبرًا يقالَ بـــه كِـبْرُ
لئن أُبغـــضَ الدّهرُ الخــَوونُ لفَقْدهِ لعَـــهْدي به ممّن يُـحَــبَّ له الدَّهْرُ
لئـــن غَدَرت من الرَّوْع أيَّامُه بــه لما زالَـــتِ الأيَّامُ شــيمَتُها الغَـدْرُ
أذكرك أيها الصّديق والعهدُ لِفراقك لم يبعد، وأنت من رجال جيلك الذين امتدّت حياتُهم طولًا وعرضًا، وتنبّهوا لحركة الزّمن وفِعْله، ولاقَوْا من وَيْلاته ما صَهر مَعدنَهم وأذهب عنه الزّيْف، أنتم أعلامُ اسْتِهْداء للباحثين عن الطّريق، الذي لا يزال الناس يبحثون عن بِدايته:
إذا أنـــت لم تـــرعَ العـــهـــودَ لـهالكٍ فــلـــَســـتَ لحيٍّ حافظ العَــهْد راعِــيَا
فلا يطوينّ الموتُ عهدكَ من أخٍ وهَــــبْــــهُ بوادٍ غير وَاديك نائيَا
أقَام بأرضٍ أنتَ لاَقيه عـــنـْدها وإن بِـــتُّـــما تَسْــتبعدان التلاقيَا
د.إبراهيم شبوح
- اكتب تعليق
- تعليق