رشيد خشانة: نهاية التوافقات وبداية استـقـطاب جديد
دلفت تونس يوم 10 جانفي الجاري من ممرّ ضيق إلى غرفة سوداء. التبست الأمور وتداخلت الألوان فغُصنا في فضاء مُعتَم، لا تبرز فيه أية فتحة أو علامة تشير إلى المخرج. منذ انطلاق جلسة نيل الثقة في مجلس نواب الشعب، كان واضحا أن هناك استقطابا حادا، وأنّ المجلس مُنقسم بين «النهضة» (ورديفها «ائتلاف الكرامة») من ناحية و«الآخرون» في الناحية المقابلة. قال أحدهم إنّ المجلس موزّع 50/50...
لكن، أبعد من ذلك الاستقطاب، وجدت «النهضة» نفسها، لأول مرة، وحيدة، وأخفق إرث التوافقات السابقة في تأمين حزام للحكومة، التي اختارت هي رئيسها، وكان لها القول الفصل في انتقاء أعضائها. رأت الغنيمة تُسحب من بين يديها، وهي عاجزة عن المناورة. ومع انتقال مفاتيح تشكيل الحكومة إلى أيدي رئيس الجمهورية، لم تعد قادرة على اللعب بالأوراق، أو على الأقل ضاق هامش الحركة المُتاح لها.
في لحظة التصويت تلك اشتاقت، بلا ريب، إلى المقاعد التي فقدتها بين انتخابات 2014 و2019، وأيضا إلى الحلفاء السابقين، الذين تخلوا عنها بعدما تخلت عنهم. بهذا المعنى كان التصويت ضدّ حكومة الحبيب الجملي، لحظة غير مسبوقة وغير مقبولة لحزب ظلّ في ردهات الحكم منذ 2011. انتهت مقولة رئيس الحركة الشهيرة «تونس لا تُحكم إلا بالتوافق»، فاعتبارا من العاشر من جانفي، صار هناك فريقان متضادان، أحدهما يحكم والآخر يُعارض. واستطرادا، فإنّ «النهضة» على أبواب الخروج من السلطة، بينما بدأت تتبلور معالم ائتلاف منذور لتسلُم الحكم، غير أن نجاحه في تشكيل الحكومة ليس مؤكدا.
صفقات... صفقات
بالعودة إلى مسار تشكيل حكومة الجملي نلحظ أنّ منطق المحاصصة طغى على التفاهمات، وهو نهجٌ بدأ مع بدء تشكيل حكومة «الترويكا» الأولى في 2011، ولم تبرأ منه إلى يوم الناس هذا. ففي المفاوضات التي جرت مع الكتل والأشخاص طيلة شهرين، وحتى في مشرب مجلس النواب ساعة المداولات، لم نسمع كلاما عن برامج أو مبادرات تنموية أو خلافا على خيارات، في أي مجال كان، وإنّما سمعنا الكثير الكثير عن شروط هذا ومطامع ذاك في الفوز بثلاث وزارات أو وزارتين ونصف، مما انعكس في تضخم عدد الوزراء وكتاب الدولة. وفي أحد التصريحات كان الجملي واضحا، فأكد «أننا تفاوضنا واتفقنا، ولم يبق سوى عرض الاتفاق على قواعدها (الأحزاب)، ووثقنا ذلك خطيا». أما داخل الأحزاب المعنية بالمشاركة في الحكومة فاندلعت حروب أهلية محورها من يتولى الحقيبة أو الحقائب المُسندة للحزب. أين تونس في كلّ هذا؟
مرة أخرى كان تقاسم الكعكة عنوانا وحيدا لحوارات «النهضة» مع الأحزاب والأشخاص الذين استوزرتهم، وكان سبب قطع الحوار في معظم الأحيان، ليس سوى الخلاف على الحصة التي سيفوز بها هذا أو ذاك، وليس بناء على خلاف سياسي أو فكري معه. وفي خاتمة المطاف، مضت أسابيع وأسابيع سبهللا، فكانت حركة «النهضة» وغالبية الكتل التي تفاوضت معها، وراء أزمة سياسية، ستكون لها بالتأكيد استتباعات اقتصادية، فالجميع لم يأخذوا في الاعتبار أنّ سبع وزارات تعمل بلا وزراء، (من بينها وزارتي سيادة)، وأن استحقاق تسديد قسط من الدين حانت ساعته، وأنّ عجلة الاقتصاد تسير ببطء شديد، لأنّ الأفق غير واضح، مادامت البلاد بلا حكومة، وأنّ الإدارات والوزارات شبه مشلولة، لأنّ المديرين ينتظرون تسمية الوزراء الجدد...
لقد كانوا فعلا وراء أزمة سياسية لم تعرف البلاد مثيلا لها من قبل، لكنهم كانوا أيضا وراء أزمة أخلاقية، مسرحها مجلس النواب، وتمثّلت في تلك الألسن السليطة التي تخلط بين الانتقاد من جهة والسباب والعراك الواطي من جهة أخرى. كان مشهدا بائسا أن يتطاول بعضهم على أشخاص لم يستعدوه ولم يجرحوه. وسمحت قلة غير مؤدبة لنفسها أن تحطّ من مستوى المداولات وتسيء للمجلس ورمزيته، بينما يُفترض أن يكون أعضاء البرلمان بمثابة مربِين يُقدمون الأنموذج الطيب للشعب، وخاصة للشباب. إنّهم لا يدركون الفرق بين الجرأة والتهور.
أجواء حرب
يحدث كل ذلك في أجواء حرب على حدودنا الجنوبية، بكل ما قد ينجرّ عنها من موجات نزوح وضعضعة للأمن وخلخلة للاستقرار الاقليمي، مما يجعل البلاد في أمس الحاجة إلى حكومة قوية، تحظى بقاعدة اجتماعية وسياسية واسعة، كي يلتف حولها التونسيون.
واليوم يتوجّب على رئيس الجمهورية بمقتضى أحكام الدستور أن يختار رئيسا جديدا للحكومة قبل 21 جانفي الجاري، والأرجح أنّ «النهضة» ستضع في أولوياتها الحدّ من هزيمة 11 جانفي، باستعادة أكثر ما يمكن من الحقائب التي فقدتها بسقوط حكومة الجملي.
«الخطة ب»
الخيار البديل طبقا للفصل 89 من الدستور خياران، وهما بالترتيب تكليف رئيس الجمهورية شخصية جديدة بتشكيل الحكومة، وإن تعذر عليها ذلك تُعاد الانتخابات. وقبل التطرق إلى الفرضيات المُحيطة بتكوين الحكومة المقبلة، ينبغي طرح السؤال التالي: من المسؤول عن إسقاط حكومة الجملي؟ هل يمكن أن ترمي «النهضة» خصومها بتهمة التحامل عليها، وبعضهم مازال شريكا معها في الحكومة؟ في الواقع، فعلت الحركة بنفسها ما لا يفعل العدو بعدوه. تدخلت في جميع أسماء المُستوزرين. وضيقت الخناق على رئيس الحكومة المُكلف، وأحيانا استبدلت اسم الوزير ثلاث مرات، حتى كاد الرجل يرمي المنديل. وتدلّ تلك الضغوط على أنّ الجملي لم يكن ألعوبة في يد قيادة الحركة، بالرغم من كونها هي من اختاره لتكوين الحكومة.
وفي النهاية استأثرت بحوالي 80 في المئة من الحقائب الوزارية، بينما هي لا تمثل سوى 25 في المئة من مقاعد مجلس النواب. كانت طريقة الخداع تتمثل في تسمية أشخاص من الصف الثالث أو الرابع، أو من المناصرين للحركة. لكن في بلد صغير مثل تونس من الصعب أن يُخفي شخص هويته السياسية. وهذا ما يُفسّر أنّ خطوط التباين بين خصوم «النهضة» أمحت، فصوّتوا جميعا ضدّ الحكومة (134 صوتا). وهكذا استطاعت أن تُجمِع أكبر مقدار من الرفض ضد حكومتها، بالرغم من التناقضات العميقة بين خصومها. كان الرفض رفضا بطعم العقاب، فهي أول مرّة يُسقط فيها البرلمان حكومة في تاريخ تونس.
شبه إجماع
كان لافتا أنّ المُقترعين لفائدة الحكومة اقتصروا على نواب «النهضة» وجناحها الراديكالي المُسمَى «ائتلاف الكرامة» فقط لا غير. وهكذا وجدت نفسها محشورة في الزاوية بمفردها، وهو وضع لم تعرفه حتى في فترات القمع السابقة. ومن المهم التدقيق هنا أنّ الحكومة المقترحة لم تكن حكومة «النهضة» بقدر ما كانت حكومة رئيس الحركة، وسط تباين واضح بين موقفي المكتب التنفيذي ومجلس شورى الحركة. وطرح هذا التضارب، من جديد، مسألة تفرّغ رئيس الحركة لمهامه على رأس مجلس النواب، أو استقالته من هذا المنصب للتفرّغ للعمل الحزبي، وخاصة بعد الزيارة المفاجئة والمثيرة للجدل التي أداها إلى تركيا (بصفته رئيس الحركة حسب شروح قياديين نهضويين). وقد وضعت الزيارة مُجددا على بساط الجدل، ضرورة الفصل بين الرئاستين. ومن شأن هذا الجدل أن يصب النار على الخصومة بين رئيس الحركة وجبهة المعارضين في داخلها، الذين تشرئب أعناقهم إلى موعد المؤتمر، وقد كان مقررا لشهر ماي المقبل، لكن سيتأجل بالضرورة، لأنّ الاستعدادات لم تنطلق بعدُ، علما أنّ هذه الدورة هي الأخيرة للرئيس الحالي، ما لم تظهر فتوى تُمدّد له.
وعندما ينطلق العمل على السيناريو الثاني، الذي ينص عليه الفصل 89 من الدستور، ستسعى «النهضة» إلى الانضمام إلى الائتلاف الذي يتزعمه حزب «قلب تونس»، فمثل هذا المسعى سيُثير على الأرجح بلبلة في صفوف الائتلاف ويُضعف قوته التفاوضية، كما أنّه يُتيح لها أيضا، إن تم القبول بها، البقاء في الحكم، وإن في موقع الأقلية، وليس في مركز صانع الرؤساء.
يبقى أنّ الجدل بدأ يدور الآن حول تأويل الفصل 89، مع أنّه واضح تماما، بين من يدعي في العلم فلسفة، ويريد اقتراح أسماء على الرئيس ليختار منها من يُكلفه بتشكيل الحكومة، ومن يتقيد بنص الدستور الذي يحصر اختيار الشخص المناسب في الرئيس لا غير، وهي مناورة للإرباك وخلط الأوراق، وكأنما الوقت الذي استُهلك ذهب هدرا.
في المحصّلة تحمل تجربة المداولات حول حكومة الجمني دروسا وعبرا كثيرة أتينا على بعضها، إلا أنّ النخب المختلفة تحتاج للاعتبار منها كي توضع البلاد على طريق الإنقاذ والإصلاح، قبل أن يصبح ذلك مستحيلا أو باهظ الثمن.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق