عبد العزيز قاسم: على تخوم السّنة العاشرة
1 - 14جانفي الجاري هو اليوم الأوّل من السنة العاشرة بعد التغيير. تسع سنوات عجاف مرّت، سنوات التصدّع العام مقرونا بالغرور والادّعاء والشعور بأنّنا خير عنصر من عناصر خير أمة أرسينا الديمقراطية والحريّات دون غيرنا من العرب. بل وظلّ بعضنا يتصرّف وكأنّ أزمنة «الثورة المستمرّة» ما زالت قائمة في حين أنّها ولّت إلى غير رجعة. وتمرّ الأيام والأعوام وليس ثمّة ما يوحي بأنّ الأوضاع ستختلف بل صرنا نتمنى ألا تختلف، أي ألا تزداد سوءا فبقاء دار لقمان على حالها أفضل من أن تنهار على رؤوسنا.
2 - منذ الانتخابات الأخيرة وأنا أهيّء نفسي للخروج من حلبة التعاليق ومن جلبة الجدل، ليس بمعنى «ترك السياسة سياسة»، وإنّما لما يختلج في أعماق الذات من شوق وتوق إلى عصر الملاحم التي عليها نشأنا ولها وبها أنشأنا. وهأنذا قد خفّفت بالفعل من اهتمامي بشأن ليس لأمثالي عليه من سلطان. هل أنا ماضوي؟ إنّ السعي إلى استرداد العزم على التمسّك بالحداثة ليس من الماضوية في شيء. الارتداد إلى الوراء يوسّع الرؤية ويوضّحها وعلينا أن نفهم كيف ولماذا تمكّن بعض الرهوط من دخول البرلمان على حساب القوى التقدمية. ومهما نأينا بالنفس فإنّ زحمة التحرّكات والمستجدّات تعيدنا حتما إلى قلب الحدث.
3 - لا يمكن المرور على عدم فوز حكومة الحبيب الجملي مرور الشامت أو المحبط. يجب أن نفهم عسى أن نتعظ. أسابيع طويلة أضعناها في طحن الفراغ. هل كان اختيار السيد الجملي لتشكيل الحكومة موفّقا؟. كلا بالتأكيد. فالرئيس المكلّف، في نظر كل ذي دراية بالعمل الحكومي، غير مؤهّل لما دعي إليه، وليس في ما أقول ذرة استنقاص. كل الذين يعرفون الرجل عن قرب يتّفقون على أنّه كفء للاضطلاع بمسؤولية وزارة الفلاحة أو ما شابه يضاف إلى ذلك أنّه يتميز بالتواضع ودماثة الأخلاق. أما عدم أهليته لتشكيل حكومة فيتبيّن من خلال ما قام به من كاستينغ في معظمه مغلوط. لقد كان واضحا لدى الجميع أنّه استشار ورشّح أشخاصا لمناصب وزارية ليسوا لها بمؤهّلين هذا بصرف النظر عمّا في تنويهه باستقلالية أعضاء حكومته من مغالطة مكشوفة. فمعظمهم كان قدّم شواهد الولاء والإخلاص لحزب النهضة.
4 - وتحالفت أحزاب رغم ما بينها من تناقضات وضغائن لحجب التزكية وهاج مغرّدو الفايسبوك وماجوا طربا وشماتة ومن بين الآلاف من ردّات الفعل أختار هذه التغريدة: «شكرا للحبيب الجملي على المجهود الوطني الكبير الذي قام به حيث كشف أسماء القضاة التابعين لحركة النهضة». وكانت الصفعة قاسية على الشيخ راشد فما كان منه إلا أن هرع إلى أحضان الخليفة أردوغان طلبا للمواساة أو لتلقّي التوبيخ على سوء المناورة. فإلى متى هذا الارتهان إلى قوّة خارجية لها مطامع تاريخية في أرضنا وفي أراضي الجوار؟ العالم أجمع يعرف الدور التخريبي الذي تقوم به تركيا الأردوغانية في سوريا والعراق ومصر وليبيا.
5 - الكرة الآن في ملعب الرئيس ونرجو أن يختار لتشكيل الحكومة شخصية كفؤة مجرّبة ومستقّلة بحق. ولي رجاء آخر هو ألا ينسى السيد قيس سعيّد أنّه رئيس كلّ التونسيين ولكلّ ولايات الجمهورية حقّ عليه. لذلك فإنّ تكرار زياراته لولاية بعينها يثير التساؤل. ثم إنّ الرئيس تحدّث عن مؤامرات تحاك بليل. من حقّنا جميعا أن نعلم بما يدبّر لتونس وبخطّته لحمايتها ممّا يتهدّدها من أخطار خفيّة تضاف إلى الإرهاب المتربّص. والرئيس محقّ في قناعته بأنّ الدستور يحتاج إلى المراجعة والإصلاح. أما أن نستبدله بما كتب ويكتب على الجدران فإنّ بسطاء الناس أمثالي لم يقرأوا على الجدران إلا عبارات سوقية أبعد ما تكون عن الغرض. ثم إنّ أحاديث الحائط تحيلنا إلى أسباب انفجار الأحداث في تسعينات القرن الماضي بالجزائر أيام سُمِّيَتْ جحافل الشباب العاطل بـ«الحيطيست» لطول اتكائهم على الجدران فراغا وانسداد أفق. «الشعب يريد» حلاّ سريعا لأزمته الاقتصادية والاجتماعية.
6 - الرئاسة في حاجة إلى تكوين لجان تفكير في كلّ المجالات من ذوي الاختصاص غير المرتبطين بأجندات حزبية ولا بولاءات خارجية يكونون بمثابة مستشارين غير رسميين للرئيس يساعدونه على بلورة الاختيارات واتخاذ القرارات عن تدبّر ورويّة. من أخطاء المرحوم الباجي قايد السبسي أنّه استند إلى مجرّد تجربته الطويلة وحنكته السياسية التي اكتسبها من خلال ما تدرّج فيه من مسؤوليات فلم يحط نفسه ببطانة صلبة قادرة على فهم الأحداث وإبداء الرأي فيها. لقد حاول أن يتدخل في الميدان الثقافي إدراكا عميقا منه لما يكتسيه من أهمية قصوى في مجال الوعي والرقي ونشيط الإنتاج. وأذكر أنّ لائحة أو بيانا صادرا عن مجموعة من المثقفين والمبدعين دقّ ناقوس الخطر منذ سنتين داعيا رئيس الدولة إلى القيام بمبادرات عملية للنهوض بهذا القطاع المنكوب. واهتمّ الرئيس فعلا بهذا النداء وضرب موعدا لاستقبال ممثلين عن محرّريه ثم تراجع بلا سبب معلن مخلّفا لدى المثقفين مرارة وضغينة. وباعتباري أحد الممضين على البيان حرصت على معرفة أسباب هذا التراجع المخلّ بمصداقية الرئاسة فعلمت أنّ شركاءه في الحكم أشعروه بأنّه بصدد المشي على مشاتل ليست من مشمولاته فانصاع وتخلّى. دهشت وتساءلت: إذا كانت السياسة الثقافية ككلّ لا دخل للرئاسة فيها ففي ماذا يمكن لها أن تتدخّل؟
7 - ثم إنّ المرحوم الباجي كان قد وعد باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا التي قطعتها الترويكا سيئة الذكر وبإعادة العلاقات التونسية المصرية إلى سالف مجراها. إلا أنّه أحجم وتقهقر أمام فيتو الشيخ راشد تطبيقا لأوامر الخليفة أردوغان وواليه على قطر انتصارا وحمية لحكم الإخوان.
سيدي الرئيس، أما آن الأوان لإصلاح ما فسد من علاقاتنا العربية؟ لولا صمود سوريا وتضحياتها الجسام لكان أبو عياض مكانك في قرطاج. ثم إنّ مصر، أحبّ الإخوان أم كرهوا، فاعل أساسي في الأزمة الليبية لا محيد عنها إذا كنا نريد حلاّ مناسبا لنا في هذا القطر الشقيق الذي كان يشغّل عشرات الآلاف من أبنائنا وسوقا عريضا لمنتجاتنا.
8 - قلت وكتبت مرارا إنّ التونسي ينبغي له أن ينظر إلى ما هو أبعد من أرنبة أنفه. إنّ ما يجري بالشرق الأوسط من أحداث يمسّنا سلبا وإيجابا مهما أنكر أو تنكّر القائلون بأنّنا لسنا عربا. طبول الحرب تقرع بما يضع المنطقة على شفا حرب إقليمية رهيبة لن نسلم من تداعياتها مهما أخفينا رؤوسنا في الرمل. إذا زلزلت الأرض زلزالها واحترقت كل آبار البترول ويح يومئذ لمن استمرّ على زرع الفتنة بين السنّة والشيعة عمالة وخنوعا لأعدائنا التاريخيين.
9 - في مخالفة تامّة للقوانين والأعراف الدولية وللوائح الأممية وفي اتجاه معاكس لمجرى التاريخ، الرئيس الأميركي، لأجل عيون حبيبه وقرّة عينه بنيامين ناتنياهو، يحنث كما يفعل من لا عهد له ولا ميثاق، وينسحب من الاتفاق النووي الإيراني، ويؤكّد احتلاله للعراق ويدقّ مسمار جحا في الشمال السوري ثم يقرّر نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، ويعترف بالجولان السوري المحتلّ أرضا إسرائيلية ويُسَوِّقُ لصفقة القرن تصفية نهائية للقضية الفلسطينية بتواطؤ عربي فاضح. ولكنّه يصطدم بصخرة صمّاء هي محور المقاومة المتكوّن من إيران وسوريا واليمن الصامد وحزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي وحركات رديفة أخرى.
10 - وفي فجر 3 من جانفي وبصاروخ أطلق من طائرة مسيّرة يتحول الفريق قاسم سليماني قائد فيلق القدس إلى أشلاء وإلى جانبه يلقى نفس المصير نائب قائد الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس وثلّة من رفاقهما. قال ترامب إنّه قرّر اغتيال الفريق سليماني لأنّه إرهابي ولإراحة الشعب الإيراني من أعماله الشريرة فإذا به يعزّز اللحمة وإذا بالشهيد يحظى بتشييع مليوني بل ملاييني لم يشهد له العالم نظيرا. جماهير لا تحصى ولا تعدّ تطالب بالثأر الساحق العاجل.
11 - الإدارة الأميركية هي التي صنعت جبهة النصرة وداعش وكل الكيانات الإسلاموية العميلة وتبيّن أنّ الرجل الذي أفسد وأفشل المخططات هو الفريق الاستثنائي قاسم سليماني. كان حاضرا جسديا في كل جبهات القتال في سوريا والعراق موجودا معنويا ومخططا داعما بالسلاح في غزّة واليمن فأصبح العدوّ رقم واحد بالنسبة إلى الإنجيلية الصهيونية الأميركية ولكلّ الدول العربية المستعجلة للاعتراف بالكيان الغاصب.
12 - ولتبرير بقائهم بالمنطقة زعمت القيادة الأميركية والرئيس أوباما نفسه أنّ التغلب على داعش يتطلب ثلاثين عاما فإذا بالحشد الشعبي العراقي يتكوّن بسرعة مدهشة بتدريب وتسليح إيراني وبإشراف من قاسم سليماني ويجهز على الموصل عاصمة دولة الخلافة فيستردّها بعد أشهر من المعارك الطاحنة أدّت إلى تقطيع أوصال الإرهاب. وبعد انتصار الحشد بدأت المطالبة برحيل جيش الاحتلال وهذا ما أفقد ترامب صبره ورشده. فتقرّر أيضا اغتيال قائد الحشد أبو مهدي المهندس.
13 - وتتوعّد إيران بالثأر لفقيدها العظيم فينذرها ترامب بأنّه سيدمّر اثنين وخمسين موقعا من بينها مواقع ثقافية وتذكره اليونسكو بأنّ المواقع الثقافية ملك للإنسانية وأنّ أميركا وقّعت على اتفاقية احترامها وحمايتها في حالة الحرب. مجرّد التهديد بذلك أعطى العالم فكرة عن خلوّ ذهنه من أيّ مفهوم ثقافي وهو الذي ساعد وسمح عمليا للنصرة وداعش بتدمير المعالم التاريخية في تدمر وقد سبق أن تمّ نهب متحف بغداد على مرأى ومسمع من جنود الاحتلال الأميركي.
14 - ورغم عربدته وصلفه يتلقّى ترامب وبطانته صفعة مذلّة إذ تتجرّأ إيران على استهداف قاعدة عين الأسد بزخة من الصواريخ الدقيقة والإيرانية الصنع فيتلقاها بلا ردّ مدركا أنّ الردّ على الردّ سيكون أقسى ممّا يتصور. هؤلاء الطغاة ينسون أو أنّهم يجهلون أنّهم في مواجهة قوم يعملون بقول السموأل:
إِذا سَيِّـــــدٌ مــــِنّـــا خَـــــــلا قـــــامَ سَـــــيِّــــدٌ
قَــــــــؤُولٌ لِمــــــا قــــالَ الكِـــــرامُ فــَعُــــــولُ
عبد العزيز قاسم
- اكتب تعليق
- تعليق
مقال حسب رأيي المتواضع موضوعي يأتي على واقعنا العربي الإسلامي المر و السائر إلى الأسوأ. شكرا جزيلا للأستاذ الجليل عبد العزيز قاسم الذي ما انفك يتحفنا من حين لأخر بمقالات و تدوينات مفيدة. بارك الله له في صحته و جازاه كل خير.