أخبار - 2020.01.17

عبد الحفيظ الهرڤام: أخـطاء وعِــبـر

عبد الحفيظ الهرڤام: أخـطاء وعِــبـر

بعد أن سقطت حكومة الحبيب الجملي في مجلس نوّاب الشعب سقوطا مدوّيا وقيل ما قيل في هويّتها المشبوهة والمنهجية العرجاء التي قادت مسار تشكيلها في غياب حزام سياسي متين يسندها، ممّا جعل الأنظار تتّجه نحو رئيس الجمهورية قيس سعيّد لتعيين الشخصيّة الأقدر على تكوين الحكومة، طبقا للصلاحيات التي خوّلها له الفصل 89 من الدستور، تحضرني مقولة مأثورة لجورج كليمنصو، رجل الدولة الفرنسي، مفادها أنّ «أعظم مزيّة للأخطاء السياسية أنّها قابلة للإصلاح متى أقرّت البلاد العزم على تداركها».

والسياسة - بما هي «فنّ الممكن»- لن تبلغ  غايتها الأسمى، إِلَّا إذا ما تعدّى من يتعاطاها المنظور الميكيافيلي التي يجعل منها رديفا للحيلة والانتهازية ونكث العهود، ليقاربها من زاوية أخلاقية تُعلي مكانة قيم الصدق والنزاهة والإيثار في تدبير الشأن العامّ وتفتح المجال واسعا للإصلاح والبناء.

ولنا أن نتساءل اليوم بعد أن دخلت تونس هذا المنعرج السياسي الجديد: هل تحدو القائمين على شؤونها إرادة قويّة في استخلاص العبر ممّا شاب مسار تشكيل حكومة الجملي من أخطاء لتجاوز المأزق الذي تردّت فيه البلاد أم أنّ دار لقمان ستبقى على حالها؟

لا نخال الرئيس قيس سعيّد إلا مدركا لجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه في تخيّر شخصية تلتقي حولها أغلب الأطياف السياسية لقيادة مسار تشكيل حكومة قادرة على مجابهة تحدّيات جسام في ظرفيّة بالغة الدقّة والحساسية، وطنيّا وإقليميا.

ومن نافلة القول أنّ النهوض بهذه المهمّة يستوجب من الشخصية المكلّفة بها امتلاك براعة «الكيميائي» لإعادة بناء الثقة بين الفرقاء قبل الانصراف إلى تشكيل الفريق الحكومي، انطلاقا من تشظّي المشهد البرلماني الحالي حتّى وإن طرأ عليه تحوّل لافت يتمثّل في الإعلان عن قيام تحالف بين كتل «قلب تونس» و«الإصلاح الوطني» و«تحيا تونس» و«المستقبل».. مشهد أصبح فيه أيّ مسؤول عرضة للتجريح والشتم بأقذع النعوت. فأيّ دولة هذه التي يهان فيها رئيس الحكومة والوزير والمرشّح لمنصب حكومي بمرأى ومسمع الجميع؟!

ومن ذاك الذي سيقدم مستقبلا على تحمّل أعباء المسؤولية في هذا المناخ السياسي الموبوء الذي تنتفي فيه أدنى قواعد اللياقة واحترام الآخر؟ فهل من تدارك لهذا الوضع المخزي؟            
وفي تقديري، يتوقّف نجاح رئيس الحكومة المكلّف في مهمّته على مدى حرصه على تفادي الوقوع في نفس الأخطاء التي وقع فيها سلفه وعلى التعامل بمنطق الحكمة والتبصّر مع مشهد قابل للتحوّل في كلّ آن وحين، تنعقد فيه التحالفات وتنحلّ حسب الأهواء والمصالح الحزيية والشخصية الضيّقة، ولكن بنفس القوى السياسية التي أتى بها الصندوق بما فيها النهضة التي ستظلّ جزءا من المعادلة الجديدة، حتّى ولئن بدت، بعد السقوط المزلزل لحكومة الجملي، الحزب الذي فقد جانبا من سيطرته على الساحة ومـن قـدرته على فرض إرادته على البقية.

والحكومة التي يُراد لها أن ترى النور، من رحم التناقضات والتجاذبات التي تطبع الساحة السياسية، لن تقوى على أن تصمد طويلا أمام الأنواء والأعاصير إذا لم تضم ثلّة متجانسة من خيرة الكفاءات الوطنية، المستقلّة منها والمتحزّبة، تحمل رؤى واضحة وطموحا جماعيا لإيجاد حلول ناجعة لمشاكل البلاد الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وفق روزنامة محدّدة وترتيب لسلّم الأولويات، في حدود الإمكانيات المتاحة، وإذا لم يسبق الشروع في تشكيلها سعي جادّ إلى حشد الدعم لها لدى سائر الأحزاب والكتل البرلمانية والمنظّمات الوطنية والفاعلين في المجتمع المدني، اعتمادا على تمشّ لا يقصي أيّ طرف كان.. يبحث عن المشترك تعزيزا لدعائم اللحمة الوطنية.

على هذا النحو فقط يتسنّى توجيه رسالة أمل إلى المواطن التونسي الذي عيل صبره وطال انتظاره وطمأنة المانحين والمستثمرين الأجانب بخصوص قدرة البلاد على الخروج تدريجيّا من نفق أزمتها.

فالكلّ يعي أنّ تونس تقف اليوم أمام مجموعة من الصعاب والتحدّيات، من أخطرها، داخليا، الانهيار المخيف للمالية العمومية وتفاقم حجم المديونيّة، وخارجيا، قرع طبول الحرب في ليبيا، بما لها، في حال اندلاعها، من تداعيات وخيمة على أمن البلاد واستقرارها، ممّا يستدعي وحدة الصفّ في التعاطي معا ومجابهتها، فضلا عن تحرّك  نشيط يدفع الدبلوماسية التونسية نحو الإسهام، من موقع الفعل والمبادرة، في إيجاد تسوية سلميّة للصراع المحتدم على حدودنا الجنوبية.

فهل تكون الاستفادة من أخطاء الأمس شعار مرحلة ما بعد حكومة الجملي؟ أليس الإمعان في الخطأ أفدح من الخطأ نفسه؟

عبد الحفيظ الهرڤام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.