أخبار - 2020.01.05

أســطورة تأسيـس قـرطاج وصداها العالمي في الأدب والفنـون

أســطورة تأسيـس قـرطاج وصداها العالمي في الأدب والفنـون

لكلّ مدينة تاريخيّة أسطورة تأسيس تتفرّد بها، تروي الظروف والوقائع التي حفّت بنشأتها وببداياتها، وتستعرض بكيفيّة ملحميّة بطولات وتضحيّات من كان لهم، حسب الأسطورة، الشّأن الأكبر في تأسيسها وتحقيق مناعتها وثروتها. وبصرف النّظر عن أهميّة الحيّز الذي تتّخذه الخرافة في صياغة هذه الأساطير المؤسسة، وضعف الخيط الذي يربط في عديد الأحيان، بين الجوانب الميتولوجيّه فيها والوقائع التاريخية المثبتة، فإنّ كل أسطورة من هذه الأساطير تكتسي أهميّة رمزيّة بالغة بالنّسبة إلى أهالي هذه المدن. وهي تمثّل خلفيّة معنويّة مشتركة تتوارثها الأجيال المتعاقبة منذ القدم، تنمّي لحمتها وشعورها بالانتماء، تغذّي مخيالها الجمعي وتجعلها  تعتزّ بالقيم  والبطولات الٌتي كانت وراء نشأة المدينة.

انبت الأسطورة الخاصّة بتأسيس مدينة قرطاج في ما يبدو على رواية فينيقيّة قديمة لم يبق لها أيّ أثر مكتوب. وقد وصلت إلينا في زمن لاحق عن طريق عدد من المؤرّخين الإغريق أقدمهم تيمايوس الصّقلّي الذي عاش فيما بين 340 و250 ق م. تقول الأسطورة حســب رواية هذا المؤرّخ، إنّ الأميرة الفينيقيّة علّيســه قرّرت الفرار بحــرا من مدينتها الأصليّة صور رفقة عدد من أعيان المدينة، وذلك توجّسا من شقيقها بغماليــون، بعـد أن قام هــذا الأخير بالاستيلاء على حكم المدينة واغتيال زوجـا عاشرباص، كاهــن معبـد الإله ملقـرط غــدرا، سعيـا منه إلى وضع يـده على ثروته الطّائلة.

حطّت الأميرة الهاربة رحالها لمهلة بجزيرة قبرص، قبل مواصلة رحلتها البحريّة نحو سواحل الشمال الإفريقي مصطحبة معها ثمانين فتاة عذراء من بنات الجزيرة. ولمّا بلغت مقصدها، استقر قرارها على تشييد مدينة جديدة في مكان اختارته لها، وذلك بعد موافقة أهالي المكان اللّوبيّين على تمكينها من الأرض اللّازمة لإنشاء المدينة، مقابل إتاوة معلومة تدفعها لهم. وقد لجأت علّيسة حسب الرّواية، إلى المناورة باستعمال حيلة جلد الثّور للحصول عل ما يكفي من الأرض لبناء مدينتها الجديدة «قرط حدشت».

وما إن استقر لها الأمر، حتّى رغب القائد اللّوبي يرباص من علّيسه الزواج منه. لكنّها رفضت عرضه مفضّلة عن ذلك التّضحية بحياتها بإلقاء نفسها في النّار، وفاء لروح زوجها الأوّل عاشرباص من جهة، ودرءا للعداوة التي يمكن أن تنشأ بين قرطاج والسكان الأصليّين بسبب رفضها الزواج من قائدهم.

ولئن انتشر صدى أسطورة تأسيس قرطاج بكيفية واسعة جدّا منذ العهود القديمة إلى يومنا هذا، فذلك يعود بالدرجة الأولى إلى أنّ عمليّة تأسيس قرطاح وإمبراطوريتها تمّ بإرادة امرأة، وهــو ما يمثّل استثناء في أساطير التأسيس القديمة، التي من النادر جدّا أن تتّخذ فيها امرأة أدوار مبادرة  القيادة.

أمّا العامل الثاني الذي أسهم في هذه الشهرة، فهي الملحمة الشعرية الخالدة «الإنياده» التي استوحى فيها أمير الشعر اللاتيني فيــرجيل (19 - 70 ق م) من الأسطورة الأصلية، قصة حب خيالية من الجنس التراجيدي، ربطت  بين مؤسّسة قرطاج عليسه - أو ديـدو كما سمّاها فرجيل- والقائد الطروادي إينياس، الٌذي اضطرّته مشيئة الآلهة لمّا كان هاربا بحرا مع مرافقيه نحو إيطاليا، بعد تدمير مدينتة طرواده من قبل الإغريق، إلى تحويل وجهته نحو سواحل الشمال الإفريقي والنزول بما تبقّى من أسطوله بالشواطئ القريبة من قرطاج.

وما إن أتيحت لإينياس إثر نزوله الاضطراري بالقرب من قرطاج فرصة مشاهدة المدينة الجديدة، حتّى انبهر بعظمتها وازدهارها، فوصفها لرفاقه: «هي مدينة عظيمة حقّا ذات أبواب جبّارة وشوارع تسير فيها الجموع وتحتشد.... كان منهم القائمون على بناء الأسوار والقلاع، يدحرجون لذلك الحجارة الضخمة بأيديهم، بينما عمد غيرهم إلى تخطيط أمكنة المنازل...كما كان منهم من يحفر الموانئ، ومن يبني أسّس المسرح ومن يصقل الأعمدة الرّخاميّة الضّخمة. كانوا أشبه بالنحل الدائب... يا لسعادة أولئك الذين يجدون مدينة لإيوائهم «(الإنياده - السفر الأول)

أحسنت ديدو استقبال الأمير الطّروادي لمّا نزل بمدينتها وكان ذلك بتدبير خفيّ من إلهة الحبّ والجمال والخصوبة فينوس، وأسندت له حمايتها ووفّرت له أفضل ظروف الإقامة. وقد وصل بها الأمر إلى أن عرضت عليه الاستقرار النّهائي بقرطاج والإسهام في تشييدها. ثمّ ما لبث أن تطوٌر الأمر بين ديدو وإينياس إلى علاقة غرامية جارفة، أنست مؤسّسة قرطاج وملكتها حتّى وفاءها لروح زوجها الأوّل. علاقة بلغت ذروتها عند اختلاء العشيقين ببعض بأحد الكهوف القريبة من المدينة.

ينهي الشاعر فرجيل هذه المغامرة العاطفية العاصفة بصفة مأساوية، حين يأذن الإله جوبتر، وهو أقوى آلهة الرومان، لإينياس بالرحيل الفوري عن قرطاج وترك ديدو وشأنها، والإبحار نحو إيطاليا حيث يرتبط مصيره المحتوم بتأسيس مدينة روما ونشأة إمبراطوريتها.

لم يكن لإينياس اختيار غير ما اختاره له جوبتر، فقرّر الرحيل عن قرطاج مضطرّا، ولم تجد ديدو أمامها بعد ذهاب عشيقها دون رجعة، غير خيار الانتحار، فطعنت نفسها بنفس السيف الٌذي أهداه إياها إيناس قبل أن تلقي بنفسها في محرقة أقامتها  تحت أسوار قصرها.

لا تكمن أهمية الإنياده الٌتي خصّص فرجيل إحدى عشرة سنة من حياته لكتابتها، في جماليتها  الشٌعرية الفريدة فحسب، بل وأيضا  في كونها ألّفت ضمن بناء تراجيدي موحّد على غاية من الإتقان، بين ثلاث أساطير مختلفه، تتّصل أولاها بحرب طروادة والثٌانية بتأسيس قرطاج والثالثة بتأسيس رومه. وعلى الرغم من أنّ هذه الأساطير متباعدة عن بعضها زمنيا وجغرافيا، فإنّ فرجيل ربط بين عناصرها ضمن عمل ملحمي درامي متجانس، تتقابل فيه قوى السٌلام والمحبة ونوازع  الحرب والعداوة، وتصطدم فيه إرادة الآلهة وقدراتها الخارقة مع طبائع البشر ومشاعرهم.

ذلك ما جعل الإنيادة حتٌى يومنا هذا معينا تتغذّى منه أومثالا تقتدي به عديد الكتابات التراجيدية والأعمال الفنية الكبرى في مجالات الموسيقى والرسم والنٌحت والمسرح والسينما. خلٌدها عمالقة الموسيقى الغنائية في العالم، ولا سيما في مجال فن الأوبرا، على غرار الموسيقار الإنكليزي بورسال (1659 - 1695) الذٌى تعتبرأوبرا «ديدو وإينياس» أروع أعمـــاله المــوسيقية الاستعراضيٌة على الإطلاق، وهي تعتبر زمنيٌا أوّل أوبرا من الحجم الكبيرفي تاريخ الموسيقى الأنقليزية، لا تزال اليوم مثل ما كانت بالأمس، حاضرة  بقوّة في مختلف مسارح العالم.

كما خلّدها الموسيقار الفرنسي الكبير برليوز (1803 - 1869) في عمله الملحمي التراجيدي الشهير «الطرواديون في قرطاج» الذي يعدّ من أبرز أعماله وأكثرها رواجا في العالم.

أمّا في مجال الفنون التشكيلية، فنجد لأسطورة تأسيس قرطاج لدى كبار الرسامين والنحاتين وفي مختلف المدارس الفنية المعروفة،  حضورا  مكثفا وبالخصوص منذ عصر النهضة الفنية الأوروبية في القرن السادس عشر، وصولا إلى الأجيال المتتالية من الفنانين الكلاسيكيين الذين  أفردوا أسطورة عليسه - ديدو- بعشرات اللوحات والتماثيل والمحفورات والمنقوشات المعروضة بأشهر متاحف العالم.

أعمال يصعب إحصاؤها لكثرتها، كلّ منها يقدّم من زاويته وبأسلوبه، أسطورة يرتبط فيها مصير امرأة استثنائية بنشأة مدينة من أعظم مدن العالم القديم. أسطورة قديمة جدا تعود إلى آلاف السنين،  لكنّها لا تزال تتّخذ على مر الأجيال، مكانة أساسية في صقل الذّات المعنوية لجميع  التونسيين.

بوبكـر بن فرج

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.