أخبار - 2020.01.06

مـنجـي الــشمـلي: أسـتاذ الأدب الـمقـارن بالجامـعة التـونـسـيـة

مـنجـي الــشمـلي: أسـتاذ الأدب الـمقـارن بالجامـعة التـونـسـيـة

من نافلة القول إنّ للثقافة دورا مهمّا في تقويم السلوك وتهذيب النفوس. وكم نحتاج في وطننا اليوم إلى مدّ ثقافي يعدّل من سلوكنا ويهذّب أخلاقنا ويضفي شيئا من التسامح على علاقاتنا وخاصّة على حياتنا السياسية التي تحتاج اليوم إلى مسحة من الأخلاق الفاضلة ترتفع بها من القاع الذي تردّت فيه. وقد سمعت هذا الكلام ومثله من الأستاذ منجي الشملي قبل وفاته بأيّام وقرأته في كتاباته المختلفة ككتابه عن الثقافة التونسية وغيره.

قد رأيت وثلّة من طلبته وزملائه أن نحيي ذكرى وفاته الثالثة بجملة مــن الكتابـات نسترجـــع فيها ما علّمنا أستاذنا من قيم لعلّ أشهرها الانفتاح الثقافي وحوار الحضارات والتعامل مع كلّ اللغات على قدم المساواة .انّها بعض مبادئ الأدب المقارن الذي أدخله الأستاذ إلى الجامعة وناضل من أجل استمراره واعتماده منهجا من مناهج البحث العلمي.

وبدا لي أن أكتب هذا المقال تحيّة لروحه ولأذكّر بجهده المقارني وببعض دروسه، على أن أختمه بنشر قصّة قصيرة له عنوانها «ميثاق السفينة» لعلّي بهذا النّزر اليسير أردّ له بعضا من جميله.

ترجمــة مـخصـوصـة جـدّا لمنجي الشـمـلي

هذه ترجمة ذاتية غيريه أي ترجمة غير موضوعية لأستاذي بل لعلّي سأترجم لنفسي من خلال ترجمتي له .إنّي أعترف بأنّي لا أستطيع أن أكون موضــوعيا وأنا أتــرجــم لشيخي بل أتذكّر أنّ حتّى بعض من خاصمــــه بشـــراسة يعترف لي سرّا بأنّ الجامعه قد بنيت على كتفيه وأكتاف جيله.

في أواخر الستينات كان سي المنجي يمرّ بدكّان والدي قبل كلّ سفرة له فيقتني جبّتين يهديهما إلى بعض صحبه في باريس، وكنّا نعجب كيف يجلس  في الدكان ويلاطف الصناع ويهديهم بعض المال قائلا: هذه قهوتكم.كنّا نعجب لفصيح لفظه وحضور بديهته وخاصّة لتواضعه .كنت وقتها لم أتجاوز العاشرة من عمري ومع ذلك كنت أنتبه لما يقول وأتفحّص معاني كلامه بما تيسّر لي من ذكاء قليل بل كنت أحفظ بعض كلماته أردّدها على مسامع والدي المقهور بأمّيته المهموم بجهله فيجيبني: ربّي يسامحو بابا، ما ضرّ لو ألحقني بمدرسة طريق تونس أو تنيور في صفاقس؟

وكنت وأبي كلّما عدنا إلى البيت نمرّ بكلية الآداب على هضبة الملاسين فيردّد أبي على مسمعي: نحبك تقرّي هنا كسي المنجي.

وكان دعاؤه في صلاته وهو صاحب الحجّات الكثيرة مركّزا على هذه الأمنية. والغريب أنّ الله استجاب إلى دعائه والغريب أيضا أنّي كلّما ذكرت هذه الحكايه لسي المنجي تدمع عيناه مردّدا: الحمد لله.

لن أذكرفي ترجمتي هذه  المناصب والمسؤوليات التي تحمّلها شيخي لأنّها معروفة بل سأذكـر ما لا يُذكر عنه عادة .فقد كانت الصفويّة اللغوية كالسبّة في جامعتنا وقتها وكان متّهما بها ومع ذلك كان متّهموه يسعون إليه في مكتبه يقرؤون عليه مقالاتهم المعدة للنشر في حوليات الجامعة التونسية وقد كان رئيس تحريرها .وكانوا يعدّونها ليرتقوا بها  إلى رتبة جامعية أعلى. وكنت أقول لهم إنّ صفويته تتجاوز الحياة العلمية إلى حياته اليومية .فهو مثلا إن خرج من مكتبه ليلا ووجد أنّ الممرّ مظلم يهاتف العميد أو الكاتب العام للكلية ويصرّ أن يصلح الأمر حالاّ أو انّه سيبيت في الكلية, أمّا إذا وجد قاعة الدرس ملوّثة ببقايا أكل  الطلاب فإنّه يرفض التدريس فيها فتهرول حميدة لتلميعها .والطامّة الكبرى إذا أخطأت طالبة في رسم الهمزة فيهدّدها بالصفر والسجن وكثيرا ما كان تهديده باللغة الفرنسية فنضحك ويتواصل الدرس.

كنا نتفطّن في سنتنا الأولى إلى تبشيره لنا بدرس الأدب المقارن ونراه يشوّقنا لمعرفة هذه الطلاسم ولمّا بلغنا السنة الثالثة اخترنا هذه الشهادة لفكّ ألغاز هذا العلم. واستغربنا في الدرس الأوّل من وجود طلاب من شعب أخرى فسألني صاحبي عن الأمر وأجبته بأنّه الانفتاح الحضاري والتفاعل بين اللغات والثقافات وأضفت: ألا تعرف أنّ الثقافة المنغلقة على ذاتها مآلها الموت؟ فبهت  وصمت.

كما استغربنا من تدريسه النظريه المقارنية باللغة الفرنسية لكنّه كان يفسّر ويبسّط حتّى تعوّدنا وكنّا نستعين بطلبة الفرنسية وكانوابدورهم يستفتوننا في الدرس الموجّه الذي كان يلقيه بالعربية.

وقد قرّرت من يومها أن أجمع مواضيع دروسه التي ألقاها منذ بدأ تدريس هذه المادّة وحصر أسماء من درس معه وقد وجدت منه إعانة كبرى رحمه الله.

دروس الأدب المقـارن التي ألقـاها الأستـاذ المنجي الشملي

لقد شرع أستاذنا في تدريس الأدب المقارن في تونس منذ السنة الجامعية 72 / 1973 ضمن دروس كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس. أما في دار المعلمين العليا فإنّه لم يشرع في تدريس هذه المادّة إلاّ في أكتوبر من سنة 1974 بعد أن استقلّت عن كلية الآداب سنة 1973.

كان الأدب المقارن في كلية الآداب يدرّس بمعدّل أربع ساعات في الأسبوع تخصّص ساعة واحدة منها لقضايا نظرية الأدب المقارن وهو درس يلقيه الأستاذ الشملي باللغة الفرنسية: أما الساعات الباقية فتخصص لمسألتين مقارنيتين تقدمان في شكل درس تطبيقي وسنعرض فيما يلي إلى أهمّ المسائل التي كانت مقرّرة على الطلاب في هذه السنوات الأولي من تاريخ كلية الآداب.

في سنتي 72 /73 و73 /74

درّس المستشرق الإسبــاني الكبيــر دي ابالـــزا DE EPALZA. والـســيــده قلـوز GUELLOUZE المسألة التاليه بالفرنسيه: لوسيد LE CID الشخصية التاريخية والأدبية من خلال كتابي كورناي ودي كاسترو. بينما درّس الأستاذ الشملي مسالة الرومنطيقية العربية والرومنطيقية الأوروبية باللغة العربية الى جانب درسه حول النظرية المقارنية باللغة الفرنسية.

في سنة 74 /75

إضافة إلى النظرية المقارنية درّس الأستاذ الشملي مسألة بعض المؤثّرات الأجنبية في الأعمال الروائية للأخوين محمـد ومحمـــود تيمور. بينمـــا قدّم الأستاذ عبد الجليل القروي بالفرنسية درســا مقارنيا حول صورة الأجنبي عند كتّاب اليمين الفرنسي.

في السنة 75 / 76

واصل الأستاذ الشملي في هذه السنة إلقاء درس السنة الفارطة حول الأخوين تيمور.

وألقى الأستاذ بيك M PICH درسا موضوعه التاريخ السياسي في الشعر الأوروبي في القرن التاسع عشر.

في السنتين 76 / 77 و77 / 78

قدّم الأستاذ الشملي درسا عنوانه: «طه حسين والفكر الفرنسي». حلّل فيه علاقات الأديب المصري بالتيارات الفكريه الغربيه. وألقت السيده ديستورDUSSUTOUR درسا عنوانه: أسطورة التحوّلات في القصّة من خلال الأدب العجائبي واللاّمعقول.

في السنتين 78/ 79 و79 /80

درّس الأستاذ الشملي مسألة الرومنطيقية العربية في علاقاتها بالرومنطيقيه الأوروبيه. بينما درّست السيدة قلوز مسألة الجنون في المسرح الأوروبي من خلال كتابات سوفوكل وشكسبير.كما ساهمت السيدة باردي بدرس حول مظاهر «التحوّل في الأقصوصة الأوروبيه» من خلال كتابات موباسان وتشيكوف. مع التذكير بأنّ الأستاذ الشملي حافظ على تنسيق هذه الدروس والإشراف عليها والتنظير لها بالفرنسية.

في السنة 80/ 81

شهدنا دروسه هذه السنه فعليا بعد أن تابعناها قبل ذلك كمغرمين بالمادّة. وفي هذه السنة خصّص الأستاذ الشملي السداسية الأولى لتقديم مدخل نظري حول الأدب المقارن وقضاياه ومناهجه ومجالاته أمّا السداسية الثانية فقد خصّصها لتقديم مسالة تطبيقية عنوانها: «صورة فرنسا في أدب طه حسين». وقد انجزنا فيها عرضا نال إعجابه حول الفن الفرنسي في كتابات عميد الأدب العربي. وحملتنا السيدة باردي إلى عالم المغامرة مع مسألة عنوانها: المغامرة في الرواية الأوروبية في القرن العشرين من خلال نص لكونراد Conrad عنوانه قلب الظلمات «Cœur des ténèbres « بينما قدمت لنا السيدة قلوز مسرحية أنطيغون لسوفوكل.

وكانت لهذه الدروس المقارنية  صدى عميق في الكلية فقد استغرقت ربع قرن وتابعها عدد لا يستهان به من الطلاب... وقد تجسّم هذا الصدى في إقبالهم على انجاز بحوث جامعيه مقارنيه في مستوى شهادة الكفاءة في البحث أو شهادة التعمق في البحث تخوض في قضايا طريفة غير معهودة .فالأستاذ صديقنا فؤاد القرقوري مثلا أنشأ بإشراف الأستاذ الشملي رسالة مقارنية هامة حول رواية بول وفرجيني من تأليف غي دي موباسان ورواية الفضيلة للمنفلوطي.

كما أنشأ الأستاذ القرقوري رسالة أخرى بإشراف الأستاذ الشملي حول أهمّ مظاهر الرومنطيقية العربية ومصادرها الأجنبية, بينما أعدّ صديقنا عمر الإمام مع الأستاذ الشملي رسالة مقارنية حول مصادر الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي, وأنجز محمد عبد الغني رسالة حول فرنسا في كتابات رفاعه رافع الطهطاوي بينما أشرفت السيد قلوز على رسالة الأستاذ المسعودي حول بقماليون بين مسرح برناردشو ومسرح توفيق الحكيم.

ثمّ تكاثرت الرسائل المقارنية منها: صورة المرأة الأوروبيه في الرواية العربية المعاصره ورسالة الضحك في بخلاء الجاحظ ورسالة بخيل موليير.

ومن أصداء هذه الدروس كذلك انتشار تدريس الأدب المقارن داخل الجمهورية وفي مختلف جامعاتها، فقد انتدب للتدريس فيها أساتذة شبان هم من طلبة الأستاذ الشملي، ففي كلية آداب القيروان قرّرت مادة الأدب المقارن على الطلبة منذ سنة 1989 درّسها زملاء أجلاّء نذكر منهم: الزميل الحبيب شبيل والمرحوم حمادي الزنكري ثم تولّينا تدريس الأدب المقارن حتّى سنة 1999.

كما لا يفوتنا أنّ نذكر أن لهذا الدرس المقارني في الجامعه التونسيه صدى في بعض الكتب المقارنية الشرقية وغيرها نذكر منها على سبيل التمثّل لا الحصر كتاب سعيد علوش: «مكوّنات الأدب المقارن في المغرب العربي»، والكتاب في الأصل أطروحة دكتورا دولة ناقشها صاحبها في جامعة السوربون.

ومن المعلوم أنّ برامج هذه الدروس المقارنية التي ألقيت في الجامعة التونسية من سنة 1972 إلى سنة 1978 مسجّلة في جامعة السوربون وبالتدقيق في معهد الأدب المقارن من خلال تقرير علمي مفصّل اشترك في وضعه الأستاذان الشملي وقلوز بعد أن عرضاه في ملتقى علم الأدب المقارن الذي انعقد في مدينة AZAY LE FERRON  بفرنسا سنة 1978.

ونريد في خاتمة مقالنا هذا أن نصف بإيجاز الدرس النظري المقارني للأستاذ الشملي كما شهدناه.

ينطلق الأستاذ في هذه المسألة من تعريف الأدب المقارن من حيث النشأة والتطوّر مركّزا على أنّ البداية كانت بالموازنة بين الآداب أي المقارنه بين الأدب الإغريقي والأدب اللاتيني ثمّ ينتهي رافضــا الموازنة بقــولة ايتيامبل ETIEMBLE :Comparaison pas raison ويعني بها أن الأدب المقارن ليس الموازنة بين الآداب إنما هو البحث عن حوار الآداب وتلاقحها.

وفي بداية الدرس يلحّ الأستاذ على أنّ تدريس هذا العلم لا بدّ أن يبدأ بذكر امرأة يصفها بأنّها زعيمة الأدب المقارن هي السيدة دي ستال De Staël صاحبة كتاب ألمانيا De l Allemagne  ثم يصف صالونها الأدبي في جينيف وحياتها الأدبية فيه.إنّ هذا الصّالون كما يقول هو المهد الأوّل لعلم الأدب المقارن ثمّ يعرّفنا بأهمّ روّاده مؤكّدا أنّ هذا العلم فرنسي في منطلقه. وبعد الرّواد جاء المنظّرون ومن بينهم الفرنسي بول فان تيغام Paul Van Tighem ثم تطوّر هذا العلم عبر السنين حتّى أصبح له أعلامه المشهورون في كلّ العالم.

وكنا نطرب لهذا العلم ونتتبّع أستاذنا وهو يعرّفنا بمناهجه واختصام المنظرين فيها وعداء المدرسة الأمريكيه للمدرسه الفرنسيه، وإذا نحن مع الأستاذ نجوب مجالات الأدب المقارن من ميدان المؤثرات إلى ميدان المقابلات والأجناس الأدبية وغيرها معجبين به لأنه علم حوار الآداب والثقافات مع قانون ثابت فيه وهو لا وصاية لأدب على آخر ولا لحضارة على أخرى.

واستكشفنا في هذا الدرس أنّ للأدب العربي كثافة لا يستهان بها وعناوين شرف كثيرة وأعلاما. وأنّ له مستقبله في العالم الأدبي كما تعلمنا أن التسامح الفكري هو الذي يضمن مستقبل الإنسان المفكر .هذا بعض ما استخلصناه إيجازا دون استيفاء من دروس منجي الشملي في الأدب المقارن ولا يفوتنا أن نذكر أن الأستاذ منجي الشملي مبدع كتب في القصة القصيرة ونستحضر هنا أوّل نصّ كتبه بعنوان: «ميثاق السفينة».

يبدو أنّ النصّ لم يرق للطبقة الحاكمة وقتها .وقد نشره صاحبه في مجلة التجديد التي أسّسها مع بعض زملائه في  الجامعه فعملت على إيقاف المجلة بسبب النصّ وغيره .فلقد اعتبرهم النظام الحاكم شيوعيين أو قريبين من الشيوعية أو تقدّميّين  فقرّر منعهم من الكلام والكتابة وحتّى زيارتهم الليلية لبيت محمد مزالي لم تجدهم نفعا بل هدّدهم بالويل والثبور ونصب المشانق في القصبة لكلّ من يعارض النظام. وبعد سنوات أعاد منجي  الشملي نشر القصة القصيرة هذه في مجلة الفكر التي أسّسها مزالي وأدارها. ورغم أن المنجي الشملي غيّر في القصة قليلا فانّ مزالي واصل عداءه له وتدخّل لدى الرئيس بورقيبة في مطلع الثمانينات حتّى لا يعيّن منجي الشملي وزيرا للتربية بتعلّة انّه يجمع إمضاءات لعريضة تدعو الى العفو عن أحمد بن صالح  الفار من السجن اثر فشل  تجربة التعاضد في  تونس  والغريب أنّ ما وقع لابن صالح وقع لمزالي. أمّا منجي الشملي فقد توفّي في بيته بين أفراد عائلته ودفن في الجلاز من ثلاث سنوات معزّزا مكرّما.

ولا يفـــوتني في خاتمة المقــال أن أذكّر أنّ  منجي الشملي هو أوّل تونسي انتخب في المكتب التنفيذي لليونسـكو ومن سنوات ولكنّه لم يحفل بالحملات الدعائية لنجاحه هدا بل اعتبره طبيعيـا وخليقا بتونس وبمثقفيها وقد كان رئيسا للجنة الوطنية لليونسكو في نهج انقلترا بالعاصمة ومدير معهد علوم التربية بتونس ولكن بتواضع العلماء لم يكن يعدد هده المسؤوليات ولا يحب من يعددها له بفخر واعتزاز...

رحم الله الجميع

رشيد الڤرڤوري

قراءة المزيد:

قصة الاستاذ المنجي الشملي: ميثاق السفينة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.