تونس بعد الانتخابات: تحـريك المـعـطّل وتجميـع المُبعـثر
في خضمّ ما يطبع المشهد العامّ في تونس بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية من فوران اجتماعي يتجلّى في ارتفاع سقف المطالب الشعبية في الشغل والكرامة والتنمية العادلة والتوق إلى إجراءات عاجلة للحدّ من البطالة والفقر والتهميش، والتطلّع إلى إصلاحات عميقة تشمل قطاعات حيويّة أصابها منذ سنوات عديدة الترهُّل وتدنّت فيها جودة الخدمات كالصحّة والتعليم والنقل والتجهيزات الأساسية، يطرح السؤال التالي نفسه بإلحاح: كيف السبيل، في ظلّ وضع سياسي واقتصادي واجتماعي معقّد، إلى تحقيق التغيير المنشود استجابةً لانتظارات التونسيين؟
بالنظر إلى استحالة مواجهة موجة المطلبية هذه في ظرف وجيز وبقدر كبير من الفعالية، وقد تراجعت موارد الدولة ونضبت خزائنها، ليس هناك بدّ، في تقديرنا، من ترتيب الأولويات والتأكّد من مدى وجاهتها وتحديد جدول زمني دقيق لتجسيمها. وهو أمر يشترك فيه بالضرورة رئيس الجمهورية، لما يحظى به من مكانة معنوية معتبرة، ومجلس نوّاب الشعب بتركيبته الجديدة والحكومة الحالية، وإن كانت حكومة تصريف أعمال، إذ قد يطول أمد المشاورات بشأن تشكيل الحكومة القادمة. ولعلّ من بين مقتضيات المرحلة الراهنة تحريك مشاريع القوانين القابعة على رفوف المجلس النيــابي منذ ما لا يقّل عن ستّ سنوات والتي يناهز عددها 100 مشروع وعديد النصوص الترتيبية العالقة في الوزارات وذلك بالتوازي مع تسريع وتيرة إنجاز المشاريع الجارية وضمان الاستهلاك الأقصى للاعتمادات المرصودة لها في مختلف الجهات قبل نهاية العام الحالي. فالمواطن يرغب في أن يرى بأمّ عينيه إنجازات على الميدان وقرارات تغيّر مجرى حياته نحو الأفضل. وبهذه الطريقة يمكن توجيه رسالة قويّة تشيع الأمل في النفوس في الداخل وتطمئن الرأي العام الخارجي، ولا سيّما الدول والمؤسّسات المانحة.
وقد يكون من المهمّ من الآن السعي إلى تعبيد الطريق أمام الحكومة المقبلة بوضع تصوّرات دقيقة مستندة إلى معطيات مرقّمة تنبني عليها خطّة العمل الموكول إليها تنفيذها من خلال المضيّ قدما في إنجاز ما أقرّ في السابق من مشاريع وخطط ثبتت جدواها ومردوديتها والاستئناس بما تراكم في السنوات الأخيرة من مقترحات ورؤى نابعة من وحي تجارب وعصارة تفكير أخصائيين اقتصاديين طرحوا في مؤلفاتهم بدائل من شانها أن تخرج البلاد من أتون أزمتها الخانقة. كما تناولت مراكز دراسات استراتيجية وجمعيات ومنظّمات غيرحكوميّة بالتحليل والتمحيص العديد من القضايا وقدَّمت بشأنها من الحلول الجديّٰة والطروحات الاستشرافية ما يجعلها جديرة بكلّ اهتمام، شأنها شأن عدد من الأحزاب والشخصيات السياسية التي تقدّمت بمقترحات وجيهة خلال حملتي الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة غير أنّ صخبهما منعها من أن تصل بوضوح وجلاء إلى عقول الناخبين.
لقد تشكّل من كلّ ذلك رصيد متناثر من الأفكار والتصوّرات القيّمة هو في حاجة إلى تجميع وتوليف حتّى يكون مرتكزا من مرتكزات عمل الحكومة الجديدة، وحزاما يقيها شرّ التذبذب القاتل وضبابية الرؤية ويعلي مكانتها في نظر الشارع ويعزّز قدرتها على التعامل مع الأحزاب وبالخصوص مع برلمان فسيفسائي التكوين يغيب فيه التجانس بين كتله.
وحريّ بنا في هذا الصدد الإشارة إلى ما عرضه مؤخّرا مجلس التحاليل الاقتصادية من تصوّر لـ«ميثاق من أجل التنافسية الاقتصادية والمساواة الاجتماعية»، مقترحا أن تتبنّى السلط العمومية والأطراف الاجتماعية ما تضمّنه من إجراءات، إلى جانب تلك الواردة في المواثيق القطاعية العشرين الأخرى المرتبطة به والتي لم يُطبّق منها إِلَّا القليل. وتعدّ هذه الإجراءات بديلا من «الرؤية البدائية للسياسة الاقتصادية» التي يريد أن يفرضها المانحون على تونس وفي طليعتهم صندوق النقد الدولي. ويمثّل الميثاق إطارا تعاقديا لقانون المالية لفترة ثلاث سنوات (2020 - 2022) ولمخطّط التنمية (2021 - 2025).
وقصد ضمان تعبئة وطنية حول أهداف طموحة غير أنّها واقعية حُدّدت في سيناريو النمّو في أفق 2025 تلتزم الدولة بمقتضى هذا الميثاق بتنفيذ إجراءات أفقية وقطاعية مخصوصة في حين يتعهّد القائمون على قطاعات الإنتاج بتحقيق الأهداف المرسومة في مجالات الاستثمار والتصدير والتشغيل والتجديد والمسؤولية الاجتماعية والبيئية.
والغاية من الميثاق والمواثيق المتّصلة به في أفق 2025 تحقيق نسبة نموّ بـ 4,5 بالمائة من الناتج الداخلي الخام مقابل 2,5 بالمائة في سنة 2018 والوصول إلى نسبة استثمار عمومي وخاصّ بـ 24 بالمائة من الناتج الداخلي الخام مقابل 19,6 بالمائة في سنة 2018 وخلق 84 ألف موطن شغل بداية من 2024 مقابل 28 ألف في السنة الماضية، علاوة على تبوّؤ البلاد مرتبة مشرّفة ضمن الخمسين دولة الأولى في ترتيبي دافوس ودوينغ بيزنس.
ويعتبر مجلس التحاليل الاقتصادية هذه المواثيق ركيزة أساسية لِـ«جمهورية تشاركية» وقاعدة ضروريّة لدولة فاعلة بقوّة في مجال التنمية وحريصة على المساواة الاجتماعية، تقود سياسات مقامة على التمييز الإيجابي لفائدة قطاعات الإنتاج.
قد يكون تحريك المعطّل من المشاريع والبرامج وتجميع المبعثر من الرؤى والتصوّرات القابلة للتطبيق وآخرها الصادرة عن مجلس التحاليل الاقتصادية من الوسائل الممكنة لبناء قدرات منظومة الحكم الجديدة، بمنأى عن المهاترات السياسية والصراعات الإيديولوجية العقيمة.
- اكتب تعليق
- تعليق